مازالت أصداء حكم محكمة جنح الخليفة بحبس كاتب هذه السطور، سنتين مع الشغل، تتردد بالداخل والخارج. فقد تعمدت صحيفة «الواشنطن بوست» إعادة نشر مقالنا الذي استندت إليه المحكمة في إصدار حكمها، كما أفردت افتتاحيتها الرئيسية لنفس الموضوع، يوم 21 غشت 2008، وهو نفس تاريخ نشر مقالنا قبل سنة (21 غشت 2007). كان المقال بعنوان «قهر في مصر بلا حدود». وفيه تحدثت بالحقائق والأرقام والتواريخ عن حالات الاختفاء القسري والتعذيب في سجون مصر، بناء على معلومات منشورة في داخل مصر نفسها، في تقارير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ومنشورة عالمياً في تقارير منظمة العفو الدولية. أي أنني لم آتي في المقال على معلومات أو بيانات من عندي، وإنها من مصادر عالمية، في داخل مصر وخارجها. وكانت حالتا الاختفاء القسري الشهيرتان اللتان ذكرتهما في المقال، على سبيل المثال لا الحصر، هما للصحفي المصري المعروف رضا هلال، وكان وقت اختفائه نائباً لرئيس تحرير الأهرام، وكانت الحالة الثانية للمنشق الليبي منصور الكيخيا الذي اختفى من فندق سفير بالدقي. ولأن السلطات المصرية لم تعثر على جثة الرجلين، ولم تقدم تفسيرات شافية للواقعتين في حينه أو بعدها بسنوات، فإن هذا الصمت المريب، أعطى الفرصة لانتشار قصص وإشاعات شتى. كذلك لم تقدم السلطات المصرية ردودا وافية أو شافية، إلى يومنا هذا، على وقائع أخرى، ذكرناها في مقالنا بالواشنطن بوست. وهذا الإخفاق في تقديم تفسيرات أو حل ألغاز الاختفاء القسري للشخصيات، أعطى فرصة لشائعة وجود «فريق للموت» مُلحق بأحد الأجهزة السيادية. وبدلا من أن ترد السلطات المصرية على محتويات المقال المذكور أعلاه، أوعزت لإعلامها الحكومي والمباحثي بشن حملة استعداء وكراهية ضد كاتب المقال. ثم أوعزت لعدد من أعضاء الحزب الوطني الحاكم لتحريك دعاوى قضائية ضده، منها القضية التي صدر بشأنها حكم بسجن صاحب المقال سنتين، بتهمة الإساءة إلى سمعة مصر في الخارج. فرغم أن تقريراً من الخارجية المصرية، وقّعه السفير محمد النقلي، مدير الإدارة القضائية، في 26/4/2008، جاء فيه أنه «من الصعب تحديد أو توصيف الحجم الحقيقي لتأثير مقالات الدكتور سعد الدين إبراهيم على علاقات مصر الخارجية، التي تحكمها مجموعة كبيرة من العوامل المتداخلة والمُعقدة». وكانت المصري اليوم قد نشرت تقرير الخارجية كاملاً (رغم أنه كان يحمل كلمة سري)، ومغزى الإشارة إلى تقرير الخارجية هو أنه صادر عن الإدارة القضائية، التي يرأسها سفير ذو خلفية قانونية، ومن ثم فهو يجمع بين الخبرة الدبلوماسية والثقافة القانونية. وبهاتين الصفتين لم يُجزم الرجل بتأثير مقالاتنا في الواشنطن بوست وغيرها، إيجاباً أو سلباً على سمعة مصر أو على مصالحها في الخارج. وفي العُرف القضائي إذا كان هناك ثمة شك في أي واقع، فإن ذلك يُفسر لصالح المتهم. ولكن القاضي «الفاضل»، سامحه الله أصرّ في حيثيات حكمه على أن: «تقرير وزارة الخارجية المصرية جاء به أن المتهم قد مارس نشاطا من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد». وليت المصري اليوم تعيد نشر تقرير الخارجية المصرية، ليتأكد القارئ أنه لم يرد به من قريب أو بعيد أي من الكلمات التي أوردها القاضي في حيثيات حكمه. وتحديداً لم يذكر تقرير الخارجية كلمة «ضرر» أو «أضرار» على الإطلاق. كما لم يذكر عبارة «مارس نشاطاً»، على الإطلاق، ولا أعلم من أين أتى القاضي «المحترم» بهذه الادعاءات. المهم في البداية والنهاية، أنني عبّرت في مقالي بالواشنطن بوست (21/8/2007) عن «رأي»، يقبل الصح والخطأ. فكان على من لا يتفق مع هذا الرأي أن يرد عليه برأي مقابل، أو يُفنّد ما ورد به من حُجج أو يصحح ما جاء به من أرقام وحقائق، ولا يكون الرد حكما بالسجن. فهذا الأخير، أي السجن، هو الذي يُسيء إلى سمعة مصر بالخارج. لأنه يظهر الدولة المصرية كقاهرة لحرية الرأي بلا حدود. وقد كان هذا تحديداً هو عنوان المقال في العام الماضي. ولذلك تعمدت الواشنطن بوست إعادة نشره في نفس اليوم من العام التالي (21/8/2008)، كما لو كانت توحي لقرائها وللعالم بأن الدولة المصرية قد أصبحت أكثر كبتاً لحرية التعبير، وأكثر قهراً لأصحاب الآراء الحرة. وهذا هو المعنى الذي دارت حوله افتتاحياتها التي صاحبت إعادة نشر المقال. أي أن ما كان الحديث عنه في العام الماضي «فضيحة»، أصبح هذا العام «فضيحة بجلاجل». وهذا ما تردد في الداخل المصري بعد صدور حكم محكمة جنح الخليفة 2/8/2008 على لسان وبأقلام عشرات الكتّاب ومئات المدونين (Bogglers). ومن هؤلاء أذكر على سبيل المثال الإعلامية الجريئة فادية الغزالي حرب (11/8/2008) في مقال لها بعنوان «من الذي يسيء إليك يا مصر؟»، والذي تجاوزت فيه القضية الفردية إلى ما هو أكبر، والذي تحوّل إلى ظاهرة إرهاب جماعي تقوم به الدولة المصرية ضد أصحاب الرأي المخالف. واستشهدت في ذلك بملاحقة رؤساء تحرير الصحف المستقلة. وفي مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، تدعو الكاتبة «المعارضة المشتتة في مصر إلى أن تنتزع مكانا لها في مواجهة النظام الحاكم، دفاعاً عن ضحايا النظام، وحفاظاً على هيبة القانون، في هذا المناخ المأزوم». ويذهب الدكتور زكي سالم (13/8/2008) أبعد من ذلك إلى اتهام صريح للنظام باستخدام القضاء لأغراضه وليس لإقرار العدالة بين الناس. وهو يذكر أن «الأحكام تصدر بناء على هوى أهل الحكم وأوامرهم!، وهذا يعيدنا إلى ما تعرض له نادي القضاة من حرب شعواء بسبب المطالبة المستمرة بحق الشعب في قضاء مستقل، فلا ضمان لتحقيق العدالة في مصر بدون استقلال حقيقي للقضاء. وقد سبق للدكتور سعد أن قضى ثلاث سنوات من حياته في السجن، بسبب حكم سياسي، ثم صدر له الحكم بالبراءة من محكمة النقض، بعد أن أصيب بالشلل في سجنه، وكاد أن يفقد حياته. وهذا أسلوب من أساليب التعامل مع المعارضين! فما هي جرائم د. سعد؟. إنها مرة أخرى مجرد كلمات، عبّر بها عن استيائه من الفساد والاستبداد، وطلب بربط المعونة بالإصلاح السياسي. قالها بشجاعة على الهواء مباشرة في الفضائيات، أو ذكرها في حوارات منشورة، أو كتبها في بحوث وصحف ومجلات...». وممن تناولوا نفس الموضوع عربياً المفكر الإسلامي التونسي صلاح الدين الجورشي، في مقال له بعنوان «سعد الدين إبراهيم... المثقف المُشاغب والمُلاحق» (العرب القطرية 13/8/2008)، وجاء فيه: «د. سعد الدين إبراهيم شخصية مُثيرة للجدل لفترة طويلة، وسواء اتفقت أو اختلفت معه حول مجمل القضايا والمواقف التي دافع عنها ولا يزال، فإنه لا يجوز لك أن تستخف بذكاء الرجل وعمقه الفكري، وقدرته على المحاججة وسعة اطلاعه، إضافة إلى حبه لبلاده مصر، وإيمانه بالديمقراطية، وهي مسائل عرفتها فيه عن قرب بعد أن قرأت له بعضا أهم ما كتب. ثم خالطه، فاختلفت معه في أشياء. ولكنني وجدت لديه خصالاً إيجابية عديدة. إنه من جيل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وحسين مروّة وهشام جعيط وعبد الباقي الهرماسي وسمير أمين وطيب هيزيني وأمين العالم وغيرهم، ممن ملؤوا الساحة الثقافية العربية طيلة السبعينات، ووصولاً إلى التسعينات من القرن الماضي... وإن الحكم الصادر عليه يُشكل جولة جديدة في معركة قضائية وسياسية أخرى، تُخاض ضد هذا الرجل المُصر على مواصلة مشواره القاسي، والذي يُجبره هذه المرة على البقاء خارج مصر إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. لا شك أن آراء سعد الدين إبراهيم قابلة للنقاش... لكن من وجهة نظر حقوقية ومبدئية، لا يمكن القبول بأن يكون الرد على الأفكار بسجن الخصوم السياسيين وتشريدهم وتخويفهم. فعلى السلطات المصرية استخلاص الدروس الضرورية (من وقفة الرأي العام المصري والعربي معه هذه المرة). أما الكاتب المصري وائل عبد الفتاح، في عموده «مُفترق الطُرق» بالشقيقة «الدستور» 5/8/2008، فقد كتب متعاطفاً معنا، ومنوّهاً بمبادراتنا في فتح ملفات لم يجرؤ أحد على طرحها من قبل، وجاءت الأحداث التالية لتؤكد صواب تلك المبادرات. إلا أن الزميل وائل في نفس العمود تحت عنوان «سعد على طائرة الرئيس»، ادعى أنني «كنت مستشاراً للرئيس حسني مبارك، وأنني سافرت معه على طائرته إلى واشنطن بالتحديد سنة 1999». ولكنه في هذا الادعاء جانبه الصواب تماماً. لأنني لم أسافر أبداً مع الرئيس حسني مبارك بالطائرة إلى واشنطن، بل لم أسافر معه بالباخرة أو القطار، أو على ظهور الخيل أو الحمير في أي مكان خارج مصر أو داخلها. فقد سافرت مراراً مع ملوك وأمراء ورؤساء آخرين، إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولو دعاني الرئيس حسني مبارك للسفر معه، لما ترددت في ذلك، ولكن حقيقة الأمر أنه لم يفعل ذلك أبداً، والمرات الست التي اجتمعت فيها به، بين عامي 1978 (وهو نائب للرئيس) وعام 1986 (وهو رئيس) كانت في منزله أو مكتبه. فالسفر مع الرئيس في طائرته ليست شرفاً أدعيه أو تهمة أنكرها، فقط للتصحيح، أن مقال الزميل الكريم هو «واقعة» لم «تقع». فأرجو أن يُدقق معلوماته أو يراجع صاحب الشأن قبل النشر. وعلى الله قصد السبيل ورمضان كريم للقراء وللمسلمين أجمعين.