ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انكشاف الحقيقة الأمريكية بقلم : فهمي هويدي
نشر في التجديد يوم 10 - 09 - 2002

بعدما انقضى عام على فاجعة 11 سبتمبر، بوسعنا ان نقر بان العرب والمسلمين خسروا الكثير، لكن الولايات المتحدة كانت على رأس الخاسرين، حتى أزعم ان خسارتها كانت اكبر من المنظور التاريخي والثقافي، نعم، خسر العرب والمسلمون سمعتهم ومصالحهم، لكنهم خرجوا من العام بمثل ما دخلوا فيه، باستثناء بعض الكدمات والكسور، اما الامريكيون فقد خرجوا من التجربة على هيئة مغايرة لتلك التي دخلوا بها، حيث خسروا ما هو اهم من الهيبة والمكانة. خسروا انفسهم، وخيبوا امل الآخرين فيهم، وتلك لعمري فاجعة اخرى.
(1)
لقد تعرضت الولايات المتحدة في 11 سبتمبر الماضي لهجوم ارهابي اتهم فيه نفر من الناس قيل انهم ينتسبون الى منظمة القاعدة، التي كانت تعيش في كنف نظام متخلف منبوذ في افغانستان، وردت واشنطن بسلوك ارهابي اسقطت فيه نظام «طالبان»، وأهدرت دماء كل عناصره، وانتقمت من الشعب الافغاني، وفتكت بكل من اشتبهت بانتسابه الى «القاعدة»، واعلنتها حربا مفتوحة ضد ما سمي بالارهاب، في كل انحاء الكرة الارضية، وما برحت تلوح بان تلك الحرب لا تتقيد بقوانين او أعراف او حدود، وانها قد تستمر عقدا من السنين او عقدين. ومن المفارقات ان الولايات المتحدة التي تحولت الى ثور هائج لا يرى في الكون غير الثأر والانتقام لان هجوما ارهابيا استهدف برجين في نيويورك وأدى الى مقتل حوالي ثلاثة الاف شخص، هي ذاتها التي استبدت بها روح الثأر والانتقام بعد تدمير اليابانيين لاسطولها في ميناء «بيرل هاربر» اثناء الحرب العالمية الثانية (عام 1941)، فلجأت في عام 45 الى تدمير مدينتين يابانيتين بالكامل (هيروشيما ونجازاكي) على رؤوس سكانها وقتلت اكثر من 250 الف شخص، وكانت تلك هي المرة الاولى في التاريخ التي تستخدم فيها القنابل الذرية لابادة ذلك العدد
الهائل من البشر في صراع مسلح، وهي السابقة التي تدحض الزعم بان اسلحة الدمار الشامل تصبح آمنة اذا ما كانت في يد دولة ديمقراطية، وتغدو خطرا اذا ما كانت بيد نظام مستبد (لاحظ ان هذه اهم الحجج التي تسوق الآن لتسويغ ضرب العراق).
هذا الكلام رددته اكثر من مرة على مسامع من لقيت من الصحفيين الغربيين الذين تقاطروا على بلادنا في اعقاب ما جرى في 11 سبتمبر، ومضوا يمطروننا بالاسئلة التي تركزت حول الحدث وأسبابه وتداعياته، بوجه اخص فان الصحفيين الامريكيين كانوا يهزون رؤوسهم وهم يستمعون الى ما قلت، ثم يلقون علي السؤال التالي: ما الذي كان يتعين على الولايات المتحدة ان تفعله وقد تعرضت للهجوم الارهابي وقتل من ابنائها ثلاثة آلاف شخص؟
خلاصة ما قلت في الاجابة ان احدا لا ينكر على الولايات المتحدة حقها في الرد ومعاقبة من ثبتت بحقهم التهمة، ولكن عليها ان تتصرف بسلوك الدولة العظمى التي تحترم اصول العلاقات الدولية والمؤسسات المعبرة عن الشرعية في العالم، والقوانين والاعراف المرعية. اما ان تستسلم للانفعال والغضب العارم، وتطيح بكل ما تعارفت عليه المجتمعات الانسانية، فانها بذلك تكون قد تعاملت بشرعية الغابة، وليس بالشرعية القانونية او الدولية. من ثم فانها بعد 11 سبتمبر اسفرت عن وجه ومواقف مخالفة تماما لكل ما ادعته لنفسها من مبادىء، واهدرت في ذلك قيما كانت قد اعطتنا دروساً في ضرورة احترامها والوفاء باستحقاقاتها.
(2)
خلال القرن الماضي عرف العالم ثلاثة من الرؤساء الامريكيين ممن دافعوا عن القيم الانسانية المتعالية، والثلاثة هم ودروويسلون وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي، ولا يزال لامريكا اصدقاء محبطون يرغبون في ان يروا صورتها المتسامحة واهدافها النبيلة غير ان سياسة امريكا الانفرادية فيما خص الالغام الارضية والمحكمة الجنائية الدولية واتفاقيات كيوتو الخاصة بالبيئة، كانت كلها مخيبة لآمال هؤلاء.
هذا الكلام ليس من عندي، ولكنه بعض ما جاء في مقالة كان عنوانها «لماذا تبدو وطأتنا ثقيلة على الكرة الارضية» كتبها المؤرخ الامريكي المعروف بول كينيدي الاستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب «ظهور واضمحلال القوى العظمى» (نشرتها صحيفة الشرق الاوسط في 28/2 الماضي).
مثل هذه الانتقادات ترددت في كتابات عدة. فهذا وليام فاف الذي كتب في «لوس انجيليس تايمز» (14/8) يقول ان «الهواة» الذي يقررون سياسات الحكومة الامريكية يتصورون ان «من حق الادارة الامريكية ان تفعل اي شيء تريده، ويعتبرون ذلك امرا مسلما به ومبررا كما ان الحكومة تصر بشكل مستمر على اعفائها من الالتزام بالقانون الدولي، ،ظلت ترفض القيود التي تفرضها الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات الامريكية السابقة، وهي تطالب اليوم بان تعفى ايضا من بعض القيود الدستورية».
هذا التفرد الامريكي الذي عبرت عنه بوضوح ادارة الرئيس بوش اجهض فكرة العولمة وأثبت انها تحمل في جوهرها سيطرة اقلية امبريالية، اذ عندما تصطدم بمصالح الاقوياء فانه يتم الاطاحة بها على الفور، ويلقي جانبا بمشروع العولمة كله، وإلا فكيف يفهم الخطاب الامريكي الاخلاقي في البلقان، والنشاط العسكري الامريكي المستمر للقبض على المتهمين بجرائم الحرب، من الرئيس اليوغوسلافي السابق الى اصغر ضباط الميليشيات الصربية، بينما يصف الناطقون باسم الادارة الامريكية المحكمة الجنائية الدولية ابشع الاوصاف، ويطالبون بحصانة مطلقة للجنود الامريكيين من الاتهام والمحاكمة؟ (د. بشير نافع القدس العربي 11/7).
(3)
ما فعلته الادارة الامريكية في الداخل يفوق ما يتصوره اي عقل، حتى اننا لا نبالغ اذا قلنا اكثر ان لم يكن كل الاجراءات التي اتخذتها الادارة ومررها الكونغرس بعد 11 سبتمبر تمثل عدوانا سافرا على الحريات العامة وعلى مبادىء حقوق الانسان.
هذا الوجه الامريكي اثار دهشة كثيرين، وكان ما كتبه الاستاذ جميل مطر المحلل السياسي المتميز تحت عنوان «امريكا وما دهاها» (الحياة اللندنية 24/8) معبرا عن تلك الدهشة. اذ انتقد في تحليله المشروع الاقتصادي الامريكي ومشروعها الثقافي والسياسي، معتبرا ان الولايات المتحدة بأسرها في ازمة. فقد تساءل مثلا: ماذا دهى الامريكيين حتى يسمحوا لحكومتهم بالتفكير في انشاء نظام تجسس على المواطن الامريكي، بحيث يتحولون الى امة من الجواسيس. اذ انه طبقا لذلك النظام الذي عرف باسم «تيبس» (Tips) سيخضع الأمريكي العادي لرقابة ساعي البريد وجامع القمامة وملاحظ الهاتف وسائق الحافلة العمومية. إذ كلهم يصبحون مكلفين بكتابة تقارير عنه اذا ما اشتبهوا في تحركاته وضيوفه وعلاقاته الشخصية، وهي الحياة الخاصة التي احيطت بقدسية عند الامريكيين، وتحولت الى نموذج يحلم كثيرون في العالم باحتذائه. (ذكرت صحيفة «القدس العربي» في 17/7 ان الادارة الامريكية تعتزم تجنيد 11 مليون جاسوس لمراقبة النشاطات «المشبوهة» داخل الولايات المتحدة).
في إطار اللوثة التي أصابت الادارة الامريكية في اعقاب 11 سبتمبر، أعيد العمل بقانون «الدليل السري»، الذي بمقتضاه يعتقل المرء ويحاكم وتتم ادانته دون ان يعرف حقيقة التهمة الموجهة ضده والوقائع المنسوبة اليه، كما اصبح من الممكن ان يلقى القبض على الانسان ويودع في مكان مجهول، ويمنع من الاتصال بمحاميه لعدة اشهر، في حين يترك لأجهزة الامن تحديد مصيره على هواها. دون اي التزام بمبدأ او قانون.
إضافة الى احتجاجات المدافعين عن الحقوق المدنية الذين انتقدوا بشدة «المكارثة الجديدة» بعد 11 سبتمبر؟، فان بعض القضاة ضاقوا ذرعا بسلوك الادارة الامريكية، وطبقا لما نشرته «واشنطون بوست» (في 23/8) فان محكمة اتحادية سرية رفضت منح وزارة العدل الامريكية صلاحيات جديدة طلبتها لممارسة الرقابة الالكترونية باسم حماية الامن القومي. وقالت صراحة في توبيخ علني نادر ان الحكومة اساءت استخدام القانون وضللت المحكمة عشرات المرات، وان وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية زودوها بمعلومات خاطئة في اكثر من 75 اصدار مذكرات تفتيش ومراقبة للمكالمات الهاتفية.
لفت الاستاذ جميل مطر الانتباه فيما كتبه الى قرار الحكومة الامريكية انشاء وكالة خاصة لصياغة الانباء والتعليقات، وترجمتها الى لغات مختلفة، لتوزيعها على الصحفيين والكتاب في افريقيا والشرق الاوسط واوروبا، لكي تنشر اسماؤهم، وكأنها وجهات نظرهم الشخصية. والهدف من ذلك هو الاحتيال للترويج لوجهة النظر الامريكية، عن طريق خداع القارىء العادي والعبث بمداركه، في عدوان صارخ على حرية التعبير وعلى أبسط مبادىء المسؤولية الاعلامية.
(4)
في غمرة الانفعال وتحت ضغط الحرص على تعزيز المكانة واستعادة الهيبة، استسلمت الولايات المتحدة لفكرة «العسكرة» وتلبستها روح الاستقواء ونزعات الهيمنة الامبراطورية. فارتفعت في ساحتها السياسية اصوات اليمين الاصولي والصهيوني داعية الى ممارسة القوة في بسط السلطان الامريكية بالقوة على جهات الكرة الارضية الاربع، مع تأديب المارقين فضلا عن تهذيب «المنحرفين». بحيث لا تنتفي الولايات المتحدة باسقاط الانظمة المتمردة واخضاعها، وانما تذهب الى حد هزيمة الافكار المناهضة لها والمحرضة ضدها. وفي ذلك لا تكتفي الادارة الامريكية بقمع معارضيها، ولكن تذهب الى حد اعادة رسم خرائط المناطق التي تهمها (الشرق الاوسط في المقدمة)، على النحو الذي يرضي الهوى الامريكي (والاسرائيلي بالتبعية) واستجيب لمقتضيات المصالح والمطامع الامريكية. وهو ما عرضت له تفصيلا في الاسبوعين الماضيين.
ما يحتاج الى وقفة قصيرة هو ما وصفناه «بالعسكرة» في اداء الادارة الامريكية، التي كانت حملات التأديب الموجهة ضد الدول المعارضة من تجلياتها لكن هذا التحول ظهر بشكل اكبر في التحولات التي طرأت على الاستراتيجية العسكرية الامريكية، وهي التي عرضها باستفاضة سبية وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في مقالة نشرتها مجلة «سياسة خارجية» الشهرية (عدد اول مايو الماضي)، المعروفة بانها منبر مؤثر وعاكس لتوجهات الادارة الامريكية. كانت مقالة رامسفيلد بعنوان «التحولات العسكرية» وفيها ذكر ان الاستراتيجية الامريكية التي كانت ما بعد 11 سبتمبر والحرب التي اعلنتها واشنطون على الارهاب في انحاء العالم، حيث اصبحت الولايات المتحدة تدافع «ضد عدو مجهول، وغير محدد، وغير مرئي، وغير متوقع»، الامر الذي يقتضي وضع خطط جديدة، واستخدام اسلحة جديدة. فقد كانت الاستراتيجية الامريكية قبل 11 سبتمبر تقوم على فكرة تمكين الآلة العسكرية من خوض معركتين اقليميتين رئيسيتين في منطقتين متباعدتين في العالم، في اي وقت من الاوقات. ولكن بعد اتساع المسرح بعد 11 سبتمبر «قررنا تركيز الردع المطلوب في اربع مسارح جوية، مع الاحتفاظ بخيار تنفيذ هجوم شامل
كاسح ضد عدو محدد، مع احتمال احتلال عاصمة العدو وتغيير نظامه» (هل ينطبق ذلك على الوضع الراهن، الذي تخوض واشنطون ما تزعم انه معركة ضد الارهاب في دول عدة، بينما تستعد في الوقت ذاته لاجتياح العراق واسقاط نظامه؟).
(5)
في مناسبة مرور عام على ما جرى في 11 سبتمبر، اصدر اكثر من 2000 مثقف امريكي بياناً (نشرت الحياة اللندنية نصه في 30/8) اعلنوا فيه معارضتهم واستنكارهم لسياسة حكومة بلادهم، وجاء البيان تحت عنوان لافت للنظر هو: ليس باسمنا. ليس ذلك فحسب، وانما دعا البيان الشعب الامريكي الى مقاومة السياسة «الظالمة واللاأخلاقية واللاشرعية، التي تنتهجها حكومة الرئيس بوش، واصبحت توجهاتها تهدد العالم بأسره».
انتقد البيان كل ما فعلته الحكومة الامريكية بعد 11 سبتمبر، بدءاً من تقسيم العالم الى اخيار واشرار، وانتهاء باعلان الحرب على جبهات متعددة في الخارج وممارسة القمع في الداخل.
في دعوة الى مقاومة آلية الحرب والقمع، ذكر البيان انه: باسمنا، وداخل الولايات المتحدة، انشأت الحكومة شريحتين من الناس: اولئك الموعودون بالحقوق الاساسية ضمن النظام القانوني الامريكي كحد ادنى، واولئك الذين يفتقرون تماماً الى اي حق. فقد جمعت الحكومة ما يزيد على الالف مهاجر واحتجزتهم بالسر حتى اجل غير مسمى. كما تم ترحيل المئات، في حين ما زال يذوي مئات آخرون في السجن، مما يعيد للذاكرة الذكرى الاليمة لمخيمات الاعتقال للامريكيين اليابانيين اثناء الحرب العالمية الثانية. وللمرة الاولى منذ عقود، اشارت اجراءات الهجرة الى بعض الجنسيات بهدف التمييز في المعاملة.
باسمنا، نشرت الحكومة فوق المجتمع حجاباً قاتماً من القمع. وقد انذر الناطق الرسمي باسم الرئيس الناس «للانتباه الى ما يتفوهون به». لذا يجد الفنانون والمثقفون والاساتذة والمعارضون وجهات نظرهم عرضة للتحريف والتشويه والهجوم والقمع. فما يعرف بالمرسوم الوطني اضافة الى عدد من الاجراءات المماثلة على صعيد الولاية يمنح الشرطة سلطات كاسحة في ما يخص التفتيش والاعتقال، باشراف، عندما يلزم ذلك، دعاوى قضائية سرية ترفع في محاكم سرية.
باسمنا، ثابرت السلطة التنفيذية على اغتصاب ادوار الدوائر الحكومية ووظائفها الاخرى. وقد انشئت محاكم عسكرية لا تتطلب براهين صارمة وتفتقر الى حق الاستئناف، وذلك بواسطة اوامر اجرائية. ويتم الاعلان عن مجموعات «ارهابية» بجرة قلم رئاسي.
(6)
يعيد الينا البيان الثقة في ضمير ونبل بعض عناصر النخبة الامريكية، لكنه يدعونا ايضاً الى طرح السؤال التالي: هل ما تقوم به الادارة الامريكية الراهنة يمثل استثناء على السياسة الامريكية ام انه استمرار لها وتعبير عن الاصل فيها بكلام آخر: ايهما اصدق في التعبير عن الحقيقة الامريكية، اداء الرئيس بوش وفريقه ام بيان المثقفين؟
منذ وقعت احداث 11 سبتمبر، وانا ارجع بين الحين والاخر الى كتاب نفيس اقتنيته منذ ثلاثين عاماً بعنوان «القياصرة القادمون»، لمؤلفه الفرنسي اموري د. رينكور، وقد ترجمه الى العربية الاستاذ احمد نجيب هاشم الذي تولى وزارة التربية والتعليم في وقت لاحق.
اهمية الكتاب في انه يرى في الولايات المتحدة نموذجاً شديد الشبه بالامبراطورية الرومانية، من حيث امتلاكها للحضارة وافتتانها بالقوة، وافتقادها للحكمة والثقافة. وهو يعتبر ان اهل الحضارة مشغولون بالكم وخلفيتهم يكمن فيها المكان، بما يستتبعه من ضخامة وتوسع، اما اهل الثقافة، وهم في رأيه الاوروبيون ورثة اليونان، فهم معنيون بالنوع، وخلفيتهم يكمن فيها الزمان بمعنى التاريخ بعمقه وعبقه، وهو الامر الذي لا يجذب الامريكيين ولا يبهرهم.
وهو يرصد عناصر التشابه بين الولايات المتحدة والامبراطورية الرومانية، ذكر ان الحرية في كل منهما جاءت مقيدة، اذا قورنت بالحرية الفوضوية في اليونان قديماً، او في فرنسا حديثاً.
واستشهد في ذلك بما قاله الفيلسوف الكسيس دي توكفيل (قبل حوالي 150 عاماً) من انه لا يعرف «بلداً مثل امريكا فيه ذلك القدر الضئيل من استقلال الفكر والحرية الحقيقية في المناقشة» و«.. «في ذلك الحشد الضخم الذي تعج به المسالك المؤدية الى السلطة في الولايات المتحدة، لقيت عدداً قليلاً جداً من الرجال الذين اظهروا تلك الصراحة الجريئة حتى يبدو لاول وهلة وكأن عقول الامريكيين قد صبت في قالب واحد. فهم جميعاً يسيرون في اتجاه واحد بدقة بالغة».
وهو ينعى على اوروبا تأثرها بالحضارة الامريكية ذات البصمات الرومانية قال رينكو: من الآن فصاعداً لن تؤخذ الثقافة مأخذ الجد. وستكون مجرد نشاط هامشي، لن يسمح له بالتدخل في هدف الحضارة الخطير الشأن، المتمثل في توطيد الامن وتوفير الرفاهية الاقتصادية لاكبر عدد ممكن من البشر. وحينذاك سيردد كثيرون تلك الملاحظة الفطنة التي ابداها سكستوس جوليوس فرونتينوس (30 104م) اشهر مهندسي روما، ورئيس مصلحة المياه فيها الذي كان شديد الفخر بسقاياته الضخمة، وقد قال فيها: من ذا الذي يجرؤ على ان يقارن هذه السقايات العظيمة التي تنقل الماء بالاهرامات العقيمة، او بأعمال اليونان الشهيرة وعديمة النفع».
لقد عدت الى قراءة عبارة فرونتينوس مجدداً حين طالعت قبل ايام (في 2/9) تصريحاً لمساعد وزير الخارجية الامريكي ريتشارد ارميتاج قال فيه «لدينا النفوذ والقوة والهيبة، والسلطة التي تفوق ما امتلكه بلد في التاريخ، وهذا الوضع يجلب لنا غيرة الآخرين».
انه ذات المنطق الذي يتباهى بالقوة، ويهون كثيراً من شأن العقل والحكمة. الامر الذي يشجعنا على القول بأن بيان المثقفين الامريكيين كان صوتاً استثنائياً، وان اداء البيت الابيض هو المعبر الاصدق عن الحقيقة الامريكية، واذا صح ذلك فإنه يدعوني الى مراجعة المنطوق الذي بسطته البداية، حيث يبدو الاصوب ان الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر لم تخسر نفسها، ولكنها كشفت عن وجهها الحقيقي الذي حجبته زمناً طويلاً الالوان الصارخة والاصباغ الكثيفة
فهمي هويدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.