قبل سنوات، كانت مسيرتي اليومية بالقطار ما بين المحمديةوالدارالبيضاء، أركب كل صباح وكل مساء، وأكاد أقابل نفس الوجوه ونفس السحنات، نفس القسمات ونفس اللهجات، نفس الأقمصة والمحافظ الصقيلة ونفس ربطات العنق، نفس المساحيق ونفس المتحذلقين. مرة كانت مقصورة القطار مختلفة. قبالتي جلس رجل يبدو أنه تجاوز الستين. كانت بذلته تميل إلى شحوب غريب. بذلة نظيفة لكنها تبدو كما لو خرجت من صندوق خشبي من الخمسينيات. كان صامتا وينظر بعيون مندهشة عبر نافذة القطار كأنه يبحث عن شيء ما افتقده. في يده عصا يهدهدها بين الفينة والأخرى. قرب الرجل كانت امرأة لا تقل غرابة. فستانها لا يختلف كثيرا عن فستان أسمهان وهي تغني «ليالي الأنس في فيينا». تنظر بخجل إلى من حولها وتتبادل نظرات حائرة مع الرجل الذي بجانبها، والذي لم يكن سوى زوجها. لكن الشيء الأكثر غرابة في تلك الرحلة القصيرة كان حقيبة عتيقة جدا مربوطة بحبل. لم تعد تلك الحقائب موجودة اليوم في أي مكان، حتى في أسواق التحف. وقتها أحسست كما لو عدت 50 سنة إلى الوراء، وبدا لي ذلك القطار كما لو أنه آلة زمن، واعتقدت أن عشقي لأفلام السفر في الزمن ربما أثر عليّ فوجدت نفسي في قلب تلك الآلة.. ليس في الخيال، بل في الواقع. عندما وصل القطار إلى محطة الدارالبيضاء الميناء، أمسك الرجل بيد زوجته ثم بالعصا، وبدت الحقيبة كما لو أنها عبء زائد لا طاقة للزوجين به. تطوعت لحمل حقيبة الزوجين الغريبين كلفتة إنسانية، أو ربما كانت رغبة مني في دخول زمن ليس زمني. شكرني الرجل بدارجة مغربية لم تعد اليوم موجودة. قال لي «يستْرك ربي أجاري العزيز». راقتني كثيرا هذه العبارة المنقرضة والغريبة وسرت معهما حتى وجدا سيارة أجرة. لم أسألهما ولم يسألاني. أنا فهمت كل شيء وهما فهما كل شيء. بعد أكثر من عشر سنوات على تلك الذكرى، لا زلت إلى اليوم مقتنعا بأن ذلك الرجل وزوجته مواطنان مغربيان من ديانة يهودية، ويبدو أنهما عادا للتو إلى المغرب بعد زمن طويل في مكان ما، ربما في كندا وربما في فرنسا.. وربما في إسرائيل. عادا ربما بنفس الحقيبة التي خرجا بها من هنا.. من الدارالبيضاء. تساءلت وقتها: «هل عادا أخيرا بعد أن اكتشفا أن العالم وهم وأن بلدهما الحقيقي هو المغرب وأن فلسطين بلد للفلسطينيين؟ أم إنهما عادا فقط لشم راحة الوطن الحقيقي قبل أن يرحلا مرة أخرى نحو وطن مزيف؟ أم إن وراءهما حكاية أخرى؟ يهود المغرب مغاربة عاشوا فيه آلاف السنين، لم يطردهم أحد ولم يتعرضوا للتنكيل ولا للقمع. كان فيهم فقراء وأغنياء.. صالحون وطالحون مثل باقي المواطنين، لكنهم اختفوا فجأة، أو باعهم مسؤولون بمائة دولار للرأس لكيان إسرائيل. لم يغادر كل اليهود بلدهم المغرب طواعية، بل كانت هناك كثير من المؤامرات وكثير من الدسائس وكثير من الصفقات، وأيضا الكثير من الأكاذيب والأحلام الزائفة. ما حدث لي مع راكبي القطار في الدارالبيضاء عشت شبيها له في وجدة. فقبل حوالي 5 سنوات كنت أنجز تحقيقا عن آخر يهود وجدة، وبالكاد عثرت على أسرة واحدة تعيش في منزل عتيق، هو فيلا صغيرة بنيت ربما قبل 70 أو مائة عام. حين جلست مع أفراد تلك الأسرة في فناء المنزل، بدا لي مرة أخرى وكأني أركب آلة زمن جديدة وأعود عقودا إلى الماضي. الأم المسنة تتحدث لهجة وجدية لم أسمع مثلها من قبل. لهجة وجدية قحة بتعابير انقرضت لدى باقي الوجديين. المرأة تعيش رفقة ابنيها الوحيدين، هما معا فوق الأربعين. الأكبر يخرج نحو الرصيف وينظر نحو أقصى الطريق الخالي كأنه ينتظر طائرة تحط فجأة وتحمله نحو مكان بعيد، والابن الأصغر قال إنه يعيش غريبا بعد أن رحل كل أصدقائه ومعارفه نحو أوربا أو أمريكا.. ونحو إسرائيل أيضا. حكت المرأة عن مهنة والدها وهي مهنة تمليح رؤوس المتمردين قبل نصبها في سور ساحة سيدي عبد الوهاب، وتذكرت جيرانها بكثير من الحنين، وطرحت هي وابناها سؤالا مؤرقا: نحن مغاربة.. لماذا، إذن، رحل اليهود الآخرون وتركونا؟