يستعد المجلس الأعلى للحسابات هذه الأيام لتعميم تقريره السنوي الجديد على الجرائد، مثلما تعود على ذلك بعد الانتهاء من عرضه على أنظار الملك. وهكذا ستبدأ بعد أيام قليلة «مندبة» جديدة على أعمدة الصحف والمجلات، وسيكتشف المغاربة أسماء المؤسسات العمومية التي نهبت أموالها بسبب سوء تسيير مديريها. وسيكتشفون، مرة أخرى، حجم الأموال التي ضاعت والميزانيات التي فوتت إلى المقربين بدون طلبات عروض. ليعذرنا قراؤنا هذه المرة، فنحن لن نشارك في هذه «المندبة». لسبب بسيط هو أننا ما زلنا بانتظار اتخاذ القضاء للإجراءات القانونية في حق كل الذين أحصى تقرير المجلس الأعلى للحسابات مخالفاتهم واختلاساتهم المالية في تقاريره السابقة. ولذلك فنحن نقولها بصراحة منذ الآن، لا تعولوا علينا لكي ننشر تفاصيل التقرير السنوي الجديد، ما دام القضاء يقف عاجزا عن اتخاذ الإجراءات القانونية التي بحوزته من أجل استرجاع الأموال العمومية التي بددها المسؤولون العموميون الذين ذكرتهم تقارير المجلس الأعلى للحسابات بالأسماء. وفي مقابل إعراضنا عن نشر تفاصيل التقرير السنوي الجديد للمجلس الأعلى للحسابات، سنظل نكرر، بلا ملل، وانسجاما مع دورنا في حماية المال العام، مطالبتنا للقضاء بالقيام بدوره ومتابعة كل الذين وردت أسماؤهم في تقارير المجلس السابقة، من أجل استرجاع الأموال العمومية المنهوبة. وهذه المسؤولية لا يتحملها فقط وزير العدل، وإنما أيضا وزير المالية الذي لديه تحت إمرته مجلس للحسابات اسمه «المفتشية العامة للمالية» والتي تقوم بالتحقيق في صفقات المؤسسات العمومية وشركات الدولة. عندما صدر تقرير المجلس الأعلى للحسابات وتعالت أصوات في البرلمان والصحافة تطالب بمحاسبة المبذرين الذين أتى التقرير على ذكر أسمائهم، انبرى صلاح الدين مزوار للدفاع عن قرينة الشك التي يفسرها القانون لصالح المتهم، وقال إن تقرير المجلس الأعلى للحسابات ليس قرآنا منزلا. لكن صلاح الدين مزوار أصيب بما يشبه «اللقوة» عندما أرسل لجنة من «مفتشيته العامة للمالية» إلى المكتب الوطني للمطارات من أجل إنجاز تقرير حول التجاوزات التي أحصاها تقرير قضاة الميداوي، فأحضر له مفتشوه تقريرا «خانزا» يؤكد كل ما ورد في تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات حول التجاوزات الخطيرة للمدير عبد الحنين بنعلو ومدير ديوانه برق الليل، واللذين عوض أن يحسنا الخدمات المقدمة إلى المسافرين في مطارات المملكة حسنا عائدات حساباتهما البنكية المنتشرة في بنوك العالم. السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم هو: من يحمي هذين الرجلين من المتابعة القضائية، علما بأن الجرائم المالية التي ارتكباها تكفي في أية دولة أخرى لإيداعهما السجن؟ إن إقالة عبد الحنين بنعلو من منصبه كمدير للمكتب الوطني للمطارات لا تكفي، بل يجب تقديمه أمام المحاكمة واستعادة كل الأموال التي بددها طيلة السنوات الست التي قضاها في منصبه. فالرجل غادر المكتب الوطني للمطارات بثروة وعقارات عائلية داخل المغرب وخارجه. ويكفي أن نعرف أن بنعلو اشترى هو و«شريكه» أمين برق الليل شقتين في ماربيا بإسبانيا في الشارع نفسه بتاريخ 20.10.2009، سجل برق الليل شقته في اسمه فيما سجل بنعلو شقته في اسم زوجته الدويب سكينة. كما أن بنعلو أنشأ شركة «خاردينيس دويب» باسم زوجته في «مالغا». أما برق الليل فقد أنشأ، بالإضافة إلى شركاته الثماني التي تحدثنا حولها في عدد سابق، شركتي «صوطوص» و«موروس دي لا كوسطا» في مدينة «مالغا» الإسبانية برأسمال يصل إلى 420 مليون سنتيم في 31 غشت 2009 وأسند تفويض تسييرها إلى حلاق إسباني يدعى «غوميز» سبق له أن استفاد من صفقات مجزية مع المكتب الوطني للمطارات، فيما أسند تسييرها إلى خاله طبيب العيون الدكتور «ميمي» الذي سبق أن تدبر له برق الليل عقدا سنويا مع المكتب الوطني للمطارات يقوم بموجبه باحتكار الخدمات الطبية المقدمة إلى مستخدمي المكتب لصالح عيادته مقابل 3000 درهم في الشهر. ولعل البعض لازال يتذكر الأخبار التي راجت في صالونات الرباط والدار البيضاء حول اقتناء عبد الحنين بنعلو لشقة فاخرة بأكثر من مليارين في قلب باريس، وكون هذه «البيعة» كانت بمثابة «الشرية» التي أطاحت برأسه من المكتب الوطني للمطارات. واليوم لا نتحدث عن مجرد شائعات، وإنما نتحدث عن شقة بعنوان ومالك هو عبد الحنين بنعلو، صاحب الشقة الموجودة بالعنوان التالي «48، زنقة دو بيري rue de berri ،75008، الدائرة الثامنة، باريس». ومن سيذهب إلى موقع www.meilleursagents.com سيعثر على موقع العمارة الفاخرة التي تحتضن شقة عبد الحنين بنعلو، والتي كلفه المتر المربع الواحد منها عشرة ملايين سنتيم. وبما أن مساحة الشقة تتجاوز 150 مترا، «حسبو نتوما». وهي الشقة التي تكفي زيارة خاطفة لموقع السجل التجاري لباريس وكتابة اسم زوجة بنعلو، الدويب سكينة، وأسماء أبنائه، غالي بنعلو ومريم بنعلو والمهدي بنعلو، لكي نكتشف أن هذه الشقة الفخمة ليست سوى المقر الاجتماعي لشركة «ميرامي» MIRAME العقارية والمسجلة في اسم زوجة بنعلو وأبنائه. ورغم كل هذه الممتلكات والشركات مترامية الأطراف، لم تكلف العدالة المغربية نفسها فتح تحقيق مع هذين الرجلين اللذين اشتغلا جنبا إلى جنب في المكتب الوطني للمطارات، واستطاعا أن يخرجا كل هذه الأموال تحت أنف مكتب الصرف، ضدا على القانون الذي يمنع الموظفين العموميين من تسيير الشركات الخاصة داخل المغرب، فما بالك بتسييرها خارجه. عندما جاء المدير الجديد، دليل الكندوز، إلى رئاسة المكتب الوطني للمطارات، كان أول شيء قام به هو نفي أمين برق الليل من مكتبه الفخم ووضعه في مكتب الضبط حيث لم يعثر سوى على مكتب كالح وكرسي و«الدص». فقد اكتشف المدير الجديد أن برق الليل جهز مكتبه القديم بصالون وتلفزيون وفيديو وعدد كبير من الهواتف، كما حول مكتبا مجاورا لمكتب بنعلو، وبموافقة منه، إلى قاعة للرياضة مجهزة بدراجات وبساط متحرك وشاشة تلفزيونية مسطحة مثبتة على حائط مكسو بالخشب. كما كانت هذه القاعة مجهزة بحمام صونا بخاري. وهي القاعة التي كان مقررا فتحها في وجه رجال الوقاية المدنية العاملين بالمطار لكي يتدربوا فيها على مواجهة الحرائق، قبل أن يقرر الرجلان الحميمان تحويلها إلى ناد رياضي خاص بهما. ولولا أن «حكم» برق الليل وعبد الحنين بنعلو انتهى بتعيين المدير الجديد، لكانا وظفا «دلاكات» في هذا الحمام لمسد أطرافهما بسبب التعب الذي يصيبهما من فرط توقيع الصفقات للمعارف والأصدقاء. وقد كنا نعتقد أن السيد أمين برق الليل محظوظ، ولذلك لم تتم جرجرته أمام القضاء كما يصنعون معنا بسبب كلمة أو جملة، إلى أن اكتشفنا أنه ليس محظوظا بل مسنودا، خصوصا عندما ثار على قرار المدير الجديد ورفض الالتحاق بمكتبه الجديد وبدأ يتغيب عن العمل بمبرر مرض زوجته. وهي «الثورة» نفسها التي قادها رئيسه السابق عبد الحنين بنعلو على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي التي فتحها في وجهه صهره وزير العدل السابق والرئيس الحالي لمجلس النواب، عبد الواحد الراضي. ومنذ تلك «الخرجة» الإعلامية التي قادها بنعلو، والتي نفى فيها توفره على أية شقة في باريس، هدأت العاصفة من حوله وتراجع القضاء عن استدعائه. لهذا، فالسؤال الكبير الذي يطرحه الجميع اليوم هو من هي الجهة التي تحمي بنعلو وبرق الليل؟ هل هما فقط شخصان معزولان أم إنهما ليسا سوى رجلي قش تختفي وراءهما مصالح عائلية وسياسية كبيرة؟ كيف ننشر طيلة كل هذه الأشهر الأخبار والتقارير بالأسماء والأرقام والعناوين حول الشركات والأرصدة البنكية والعقارات التي يملكها هذان الرجلان داخل المغرب وخارجه، والتي أسساها باسميهما وأسماء أفراد عائلتيهما أثناء مزاولتهما لمهمتيهما، مستغلين نفوذهما، ومع ذلك لا أحد يتحرك؟ هل مازالت هناك عدالة في هذه البلاد. هل مازال هناك قضاة. هل مازال هناك قانون؟ وهل سيستمر وزير المالية صلاح الدين مزوار في التشكيك في تقارير المجلس الأعلى للحسابات بعد توصله بتقرير «المفتشية العامة للمالية» الذي يؤكد كل ما جاء في تقارير قضاة الميداوي؟ لقد قال وزير المالية إن تقرير المجلس الأعلى للحسابات ليس قرآنا منزلا، فماذا سيقول في تقرير مفتشيته العامة هذه المرة. إنه ليس زابورا؟ لقد تم نهب ميزانيات بالملايير من المكتب الوطني للمطارات، وتعرضت البنيات التحتية للغش وتم اختلاس الميزانيات بمئات الملايين في صفقات وهمية اغتنى بها هذان الرجلان. أليس هناك قاض واحد في النيابة العامة لديه الجرأة لكي يفتح تحقيقا حول هذه الجريمة التي ننشر أدلتها كل يوم؟ من يدري ربما كانا بريئين ونحن من يستحق الذهاب إلى السجن. «المهم واحد فينا خصو يتشد».