لعل واحدة من حسنات الحملة المنظمة التي قادها صارم الفاسي الفهري، رئيس غرفة المنتجين السينمائيين، ضد «المساء»، نيابة عن عائلة الفاسي الفهري وانتقاما لصديقه وممول رحلاته نور الدين الصايل، هي أنها كشفت عن قضية خفية وخطيرة تتعلق باستعمال أموال الدعم المقتطعة من ضرائب المغاربة لتلميع صورة شخص واحد هو نور الدين الصايل. فالعريضة التي وقعها المخرجون والمنتجون والممثلون المستفيدون، في أغلبهم، من أموال الدعم لا تدافع عن مؤسسة المركز السينمائي، وإنما تدافع عن شخص مديرها الآمر بالصرف. وهذا يكشف الاستغلال الفاضح للمال العام من أجل تلميع صورة المدير الذي «لطخته» تقارير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2007-2008. أي أن الصايل لا يكتفي بأخذ البارود من دار القايد وإنما يأخذ معه «الحبة» أيضا. لقد فتحت العريضة التحريضية، التي جمعها صارم الفاسي الفهري ضد «المساء»، الباب على مصراعيه أمام مسؤولين عموميين آخرين لكي يجمعوا بدورهم عرائض يحتمون بها من المتابعة القضائية التي باتت تتهددهم بعد صدور تقرير المجلس الأعلى للحسابات. ولن نستغرب إذا فتح عبد الحنين بنعلو، المدير السابق للمكتب الوطني للمطارات، بدوره عريضة للتضامن معه ضد «المساء» التي اقتحمت عليه حياته الشخصية عندما تحدثت عن إنفاق سعادته لمبلغ 62.670 درهما على مبيت زوجته وأبنائه في أحد فنادق مراكش من صنف خمس نجوم لسبع ليال بمعدل 2800 درهم لليلة الواحدة. لن نستغرب إذا ما اتهمنا بالتدخل في حياته الشخصية وذوقه الخاص وميوله الرياضية لأننا كتبنا، استنادا إلى تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات، أنه أنفق 46 مليونا من ميزانية المكتب الوطني للمطارات على اقتناء هدايا تتكون من علب فاخرة للسيغار وحقيبة لمعدات الغولف وكؤوس كريستال من محلات «الدوتي فري» في مطاراته. مدراء المؤسسات العمومية من صنف نور الدين الصايل لا يكتفون فقط بتبديد المال العام، وإنما يستعملون المال العام كدرع يحمون به أنفسهم من سهام الصحافة المستقلة. وسنعطي بعض الأمثلة لكي يقتنع قضاة المجلس الأعلى للحسابات بأن أول ملف يجب أن يفحصوه في أي مؤسسة عمومية يحلون ضيوفا عليها هو ملف الميزانية المخصصة للدعم والإشهار. فهذه الميزانيات هي الطعم الدسم الذي يستعمله بعض هؤلاء المدراء إما لشراء صمت الصحف التي لا تستطيع العيش بدون عائدات الإشهار، أو معاقبة الصحف التي تنتقدهم بحرمانها من هذه العائدات. لعل القراء المتتبعين للصحف الوطنية لاحظوا هذه الأيام أن هناك حملة إشهارية تقوم بها القناة الثانية بمناسبة اليوم العالمي للبيئة. لكن قلة قليلة قد تكون لاحظت أن جريدة «المساء» هي الجريدة الوحيدة التي قاطعتها القناة الثانية ولم تخترها لنشر إعلاناتها. وطبعا، فقرار مقاطعة القناة الثانية لجريدة «المساء» ليس قرارا اتخذه فيصل العرايشي، المدير العام للقطب الإعلامي العمومي، الذي توجد القناة الثانية ضمن القنوات التابعة له. والدليل على ذلك أن «القناة الأولى» و«القناة الأمازيغية» و«الرياضية» تتعامل جميعها إشهاريا بشكل عادي مع «المساء» كما مع بقية الجرائد الأخرى. في ما يتعلق بالقناة الثانية، فقرار حرمان «المساء» من الإشهار هو قرار اتخذه مديرها سليم الشيخ تحت تأثير نائبته سميرة سيطايل، والسبب المباشر هو أن «المساء» لم تتراجع يوما عن انتقاد طريقة تدبير السيدة سميرة لمديرية «أخبارها»، واستغلالها لسلطتها من أجل تمرير تقارير تلمع صورة زوجها السفير ببلجيكا، وتحويلها لمديرية الأخبار إلى ما يشبه الثكنة العسكرية بشهادة نقابة المستخدمين والشهادات الطبية التي بحوزة الصحافيات اللواتي أرسلتهن إلى المصحات من فرط الضغط والتحرش النفسي بهن. جزاؤنا، طبعا، كان هو حرماننا من حقنا في الحصول على إشهارات مؤسسة عمومية كالقناة الثانية تمول من ضرائبنا وضرائب بقية المغاربة. لو كانت القناة الثانية مؤسسة خاصة لاعتبرنا قرارها منع الإشهار عن جريدة معينة قرارا سياديا يدخل ضمن حريتها الكاملة في تدبير ماليتها. لكن في حالة القناة الثانية، فالأمر يتعلق بمؤسسة عمومية، والمفروض في مسيري المؤسسات العمومية أن يسهروا على إنفاق المال العام بذكاء وحكمة وانتباه شديد. وقانون الصفقات الإشهارية الخاصة بالمؤسسات العمومية يفرض، من أجل ضمان استثمار مربح للحملة الإشهارية، أن يتم إعطاء الأولوية في نشر الإعلانات للجرائد الأكثر مبيعا. وحسب آخر أرقام مؤسسة التحقق من الانتشار OJD، فجريدة «المساء» توجد، وللسنة الثالثة على التوالي، في مقدمة اليوميات الأكثر انتشارا، ويفصلها عن اليومية المصنفة في الترتيب الثاني أكثر من ثلاثين ألف نسخة. لذلك، فالمنطق والقانون والبداهة والحرص على التدبير الجيد للمال العام يفرض أن تكون «المساء» أول جريدة تحصل على إعلانات القناة الثانية. لكننا نكتشف أن مسيري هذه القناة فضلوا تبديد المال العام على نشر إعلاناتهم في جرائد لا تبيع في المغرب كله أكثر من عشرة آلاف نسخة في اليوم، وهو ما تبيعه «المساء» في مدينة واحدة، فقط لأن مدراء هذه الجرائد يمنعون على محرريهم انتقاد القناة الثانية ومديرية أخبارها. هكذا، نفهم أن القناة الثانية تستعمل أموال الإشهار، التي هي أموال دافعي الضرائب، من أجل مقايضة بعض الصحف والمجلات الإشهار بالهدنة الإعلامية. وهي الخطة نفسها التي ينتهجها الصايل، عندما يقايض ولاء وتضامن المخرجين والمنتجين والممثلين بأموال الدعم التي يصرفها لهم كل سنة. لقد كنا في «المساء» أكثر الجرائد انتقادا للتدبير الإجرامي للمكتب الوطني للمطارات من طرف عبد الحنين بنعلو. وفي الوقت الذي كنا فيه نحن نكشف مساوئ وكوارث مطاراته، كان آخرون ينشرون إعلانات إشهارية تتغزل في «المنجزات التاريخية العظيمة» للمكتب الوطني للمطارات. والآن، عندما سقط بنعلو من عرشه، أشهروا سكاكينهم وانهالوا عليه بالطعن من الخلف، وذهب بعضهم إلى المطالبة بمحاكمته. لقد كان حريا بهؤلاء الجبناء أن «يترجلوا» عندما كان بنعلو مديرا على رأس المكتب الوطني للمطارات. أما اليوم، فلا داعي لتمثيل بطولة الربع ساعة الأخير. وما دمنا نتحدث عن المطارات، هل تعرفون أن بنهيمة، مدير الخطوط الملكية الجوية، يفعل تماما ما قام به بنعلو مع الصحافة. ولعلكم تستغربون عندما تركبون إحدى طائرات «لارام» وتكتشفون وجود جرائد، عافها القراء، معروضة مجانا على متنها. ولسبب يعرفه بنهيمة وحده ليس هناك أثر لجريدة «المساء» التي يسأل عنها الركاب باستمرار. وليس هذا فقط، بل إن بنهيمة يمنع نشر إعلانات شركته على صفحات الجريدة رقم واحد في المغرب دون منازع، مفضلا تبديد أموال الشركة على حملات إشهارية في جرائد ومجلات محدودة الانتشار وفاقدة للمصداقية، فضيلتها الوحيدة أنها تدغدغ الأنا المتضخمة للسيد المدير العام للخطوط الجوية الملكية الذي سنرجع، الأسبوع المقبل، إلى الحديث عن تدبيره الرديء لكارثة الغمامة البركانية. إن أول شيء يجب على قضاة المجلس الأعلى القيام به كلما حلوا بمؤسسة عمومية هو محاسبة مدرائها على طريقة صرفهم لميزانية الدعم والإشهار. فعوض استعمال هذه الميزانيات للترويج لمنتجات المؤسسة، يستعملها كثيرون للترويج لأنفسهم وشراء ذمم الصحافيين وإسكاتهم وضمان ولائهم وإغماض أعينهم عن مراقبة اختلاساتهم وتجاوزاتهم، عملا بمبدأ «جو مونج تي مونج» je mange tu manges . ولكن ما دمنا على قيد الحياة سنعمل ما بوسعنا على «توحيلها» لهم في «القراجط». في هذه المهمة يستطيعون التعويل علينا، وليس ضجيجهم المغلف بالكذب والبهتان والتضليل هو ما سيمنعنا من الاستمرار في فضح جشعهم ودكتاتورية بعضهم السخيفة. ونحن هنا لا ننتقد تبديد بعض مدراء المؤسسات العمومية لأموال الدعم والإشهار واستعمالها لحماية أنفسهم من المتابعة والنقد، لأن «المساء» ممنوعة من إشهاراتهم. فنحن ربما الجريدة الوحيدة في المغرب التي ترفض تخصيص أكثر من ثلاثين في المائة من صفحاتها للإشهار. كما أننا الجريدة الوحيدة ربما التي ترفض نشر الإشهارات التي تتعارض مع مبادئها وخطها التحريري، كإعلانات «المغربية للألعاب» التي لم يفهم مديرها لماذا رفضنا نشر إعلانات شركته على صفحة كاملة. كل هذا لكي نقول لهؤلاء السادة، الذين يستغلون ميزانية الإشهار لتكميم أفواه الجرائد، إننا من ناحية الإشهار مرتاحون جدا، «وهاذاك الإشهار ديالهم غير يزيدوه فيهم». وإذا كنا نحن في «المساء» زاهدين في إعلانات هذه المؤسسات العمومية التي لا يروق لمدرائها تناولنا لتسييرهم وتدبيرهم المالي والمهني لها، فإن قضاة المجلس الأعلى للحسابات يجب أن يكونوا متشددين في محاسبتهم على طريقة صرفهم لميزانيات الإشهار والدعم، لأن الأمر يتعلق بأموال دافعي الضرائب وليس بأموال خاصة في ملكية هؤلاء المدراء. سؤال واحد يكفي أن يطرحه قضاة الميداوي على هؤلاء المدراء لكي يبتلعوا ألسنتهم ويخفضوا رؤوسهم خجلا، هو «لماذا تعطون الإشهار لجرائد تافهة لا يقرؤها أحد، في الوقت الذي تحرمون فيه جريدة، توجد على رأس مبيعات الصحف في المغرب، منه منذ ثلاث سنوات؟». إذا كنتم تحرصون على إنفاق المال العام فيجب أن تنشروا إعلاناتكم في الجرائد الأكثر انتشارا حتى يراها زبائنكم المفترضون. أما إذا كنتم تحرصون على «رصيدكم» الخاص و«سمعتكم» الخاصة ومصالحكم الخاصة على حساب رصيد وسمعة ومصالح المؤسسة التي تسيرونها فهذا نقاش آخر. والمكان الأنسب لإثارته هو المحكمة. من جانبنا، نعتقد أننا قمنا بواجبنا في إيقافكم أمام محكمة الشعب، بانتظار أن تقوم العدالة بدورها وتعمل على إيقافكم أمام محاكم وزارة العدل.