بمجرد عودته من واشنطن حيث شارك في مؤتمر حول حوار الأديان، حزم عباس الفاسي حقيبة سفره وتوجه نحو «الفيتنام»، أو «البيطنام» كما يسميها قدماء المحاربين. هذه المرة ليس لكي يترك الحوار الاجتماعي مع النقابات معلقا ويذهب للمشاركة في حوار الأديان كما صنع في واشنطن، ولكن لكي يقوي الشراكة الاقتصادية للرباط مع «هانوي». وأيضا لكي يبارك للفيتناميين الجهود الجبارة التي بذلوها من أجل الحصول على استقلالهم. وهي المبادرة التي لم يقم بها عباس الفاسي مع الشعب المغربي الذي خلد قبل أيام الذكرى الثالثة والخمسين لاستقلاله. ولا بد أن عباس الفاسي وهو يبارك للشعب الفيتنامي استقلاله نسي أن الجنود المغاربة الذين حشرتهم فرنسا خلال الحرب العالمية في السفن وذهبت بهم للقتال في مستعمراتها، قد شاركوا في مقاتلة الفيتناميين بالوكالة لصالح الفرنسيين، وأذاقوهم بأسا شديدا. إلى درجة أن «هوشي منه» الزعيم الشيوعي راسل الأمير عبد الكريم الخطابي يطلب منه أن يصدر فتوى للجنود المغاربة يشرح لهم من خلالها أن قتال المغاربة إلى جانب الفرنسيين ضد الشعب الفيتنامي محرم شرعا، وأنهم لا يجب أن يقفوا مع المحتل ضد إرادة شعب يقاوم من أجل سيادته، وأنهم إذا كانوا يختلفون مع الفيتناميين في الديانة فإنهم لا يجب أن يختلفوا معهم في حقهم الإنساني في الحرية. وفعلا أصدر الأمير الخطابي فتواه ووجهها إلى المغاربة الذين يقاتلون الفيتناميين إلى صفوف الفرنسيين. وكان من نتائجها تغيير الكثير من الجنود المغاربة للبندقية من كتف إلى كتف وتحولهم من صف الفرنسيين إلى صف المقاتلين الفيتناميين. حتى أن الحزب الشيوعي المغربي أرسل جنرالا هو الجنرال «أنهما» إلى الفيتنام لكي يقوم بتأطير الجنود المغاربة داخل الجيش الفيتنامي. وإذا كان عباس الفاسي من هواة التاريخ فما عليه لكي يعرف تفاصيل رحلة هذا الجنرال المغربي الذي سبقه إلى الفيتنام سوى مراجعة كتاب الدكتور عبد الله ساعف «الجنرال أنهما». وسيكتشف أن علاقة المغاربة بالفيتنام لم تكن بكل هذه «الحيوية» التي تريد قصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء تصويرها اليوم. ورغم أن عباس لا تطأ قدماه الأرض إلا لكي يطير مجددا في رحلة حول العالم، إلا أنه مع ذلك يجد الوقت لكي يراسل وزير الدولة والوزراء وكتاب الدولة والمندوبين السامين ويطلب منهم الاستعداد جميعا لتخليد الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي سيحتفل بها العالم في العاشر من دجنبر المقبل. وحسب عباس فالذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان يجب أن تكون مناسبة لإبراز «المكاسب المهمة التي حققها المغرب في مجال حقوق الإنسان والنهوض بها ثقافة وممارسة». ولهذا يطلب عباس من الحكومة التي يرأسها والبرلمان ووسائل الإعلام العمومية والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم أن ينخرطوا جميعا في الاحتفاء بهذه المناسبة السعيدة، وأن يقدم إليه كل واحد منهم برنامج احتفاله. وبعملية حسابية بسيطة نستنتج أن المدة الزمنية التي تفصلنا عن يوم الاحتفال العالمي لا تتعدى خمسة عشر يوما، وبالنسبة للوزارات والمؤسسات العمومية التي تجد صعوبة في تقديم برنامج احتفالها بهذه الذكرى، نظرا لضيق الوقت، فإننا نتطوع لاقتراح بعض الأفكار على سعادتهم، فربما يجدون بعضها جديرا بالأخذ بعين الاعتبار. بالنسبة لوزارة الداخلية فأحسن ما يمكن أن تخلد به الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو تنظيم أمسية في الهواء الطلق، وعرض شريط مصور لأحداث سيدي إفني الدامية. مع شهادات للنساء اللواتي تم اعتقالهن في مخافر الأمن وتعذيبهن وإهانة كرامتهن وتمريغ شرفهن في الوحل. كما سيكون عرض لقطات من «يوتوب» خلال «لونطراكت» فكرة ممتازة، خصوصا ذلك الشريط الذي يظهر فيه عشرة من رجال العنيكري يقومون برفس وركل مواطن أعزل لم يقترف ذنبا آخر غير وجوده في الشارع أثناء مرور كثيبة الخراب تلك. وهو بالمناسبة الشريط الذي وعد وزير الاتصال بفتح تحقيق حوله ومعاقبة الجناة في حالة ثبوت اقترافهم لما يستوجب العقاب، وإلى اليوم لم يظهر ما يفيد أن جهة ما قضائية أو أمنية فتحت حتى فمها لإدانة ذلك الاعتداء الوحشي على كرامة المواطن، فبالأحرى أن تعاقب الجناة. أما الشرقي أضريص، مدير الإدارة العامة للأمن الوطني، فيمكنه أن يشارك في الاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بشهادة للشرطي محب الذي أطلق عليه اليعقوبي زوج الأميرة النار بمسدسه، والذي إلى حدود اليوم لم يتجرأ أي وكيل للملك على استدعائه للمثول أمام القضاء. وسيكون على الشرقي أضريص أن يشرح في برنامجه الاحتفالي هذا العلاقة بين حقوق الإنسان وحقوق البخوش، وما يحدث بينهما أحيانا من احتكاك. أما وزارة الصحة فأمامها خيارات كثيرة للمشاركة في هذا الاحتفال العالمي، فهي مخيرة إما بتقديم عرض طبي مركز حول الأمراض النفسية والعصبية الجديدة التي يتعين على المسؤولين وذريتهم إعلان إصابتهم بها بمجرد انتهائهم من مخالفة أو جريمة، ككورساكوف اليعقوبي، وعته أفيلال، وجنون ابن والي كلميم، أو بين تقديم عرض سريع حول أفضل طريقة وزارية لفصل الأم عن ابنها وزوجها. مع تقديم أمثلة بالطبيبات المائة اللواتي تستعد وزيرة الصحة لفصلهن عن العمل بسبب رفضهن مقايضة مناصب الشغل بأزواجهن وأبنائهن. وحتى تكون مشاركة وزارة الصحة في هذا الاحتفال مؤثرة، لا بأس من أن تشير ياسمينة، وزيرة الأسرة سابقا، إلى أنها ستوقع قرار طرد الطبيبات قبل عيد الأضحى بيوم أو يومين. بالنسبة لمشاركة وزارة العدل في الاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فلن نجد أحسن من الحكم الأسطوري الذي دخل به القضاء المغربي إلى كتاب «غينيس» للأرقام القياسية، والقاضي بتغريم «المساء» مبلغ 612 مليون سنتيم. ونقترح أن تنظم وزارة العدل مائدة مستديرة، أو مستطيلة، حسب ما يراه نجاروها مناسبا، لتذكير المواطنين بأطوار هذه المحاكمة منذ الاجتماع المصغر ل«لثلاثي أمنا» حول طاولة لعب الورق بنادي وزارة العدل بحي الرياض، إلى اجتماع نواب وكلاء الملك الأربعة بمحكمة طنجة، إلى رفع الشكاية بموافقة وزارة العدل، مرورا بإصدار القاضي العلوي لحكمه الخارق للعادة وانتهاء بتأكيده في الاستئناف والسطو على الحساب البنكي للجريدة وحساب مديرها. أكيد أن وزارة العدل ستظهر للعالم بأسره بمناسبة هذه الذكرى الستينية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان من خلال هذه المحاكمة التي تمت باسم الملك، مدى حرصها على احترام أقدس حق من حقوق الإنسان وهو الحق في التعبير. أما البرلمان فأعتقد أنه لن يحتاجنا لكي نقترح عليه برنامجا مستعجلا يشارك به في الاحتفالات التي دعاه إليها عباس. فما عليه سوى أن يختار بين عرض صور الدكاترة المعطلين الذين يسلخون يوميا على أعتابه وأمام أنظار ممثليه، وما بين ممارسة هؤلاء الممثلين للعزوف عن الحضور والتصويت على قانون المالية الأخير، في الوقت الذي تشتكي فيه الدولة والطبقة السياسية من عزوف المواطنين عن القدوم إلى مكاتب الاقتراع والتصويت على المرشحين. ولعل أكبر «صبونصور» لهذا البرنامج «المكثف» (من التكتاف وليس الكثافة) هو الإعلام العمومي، الذي يدعوه عباس بدوره لحشو شريحته في الشريط وتقديم برنامج احتفاله بالعيد العالمي لحقوق الإنسان. ولعل أكبر إنجاز حققته إحدى قنوات هذا الإعلام العمومي مؤخرا هو اختراع القناة الثانية للتلفزيون «الكاتم للصوت»، أسوة بالمسدسات الكاتمة للصوت. خصوصا عندما يتعلق الأمر ببث اعتذار لا يمكن «سرطه» ولا «سرط» الجهة التي أرسلته، خصوصا إذا كان حجم هذه الجهة يفوق حجم الحنجرة التي ألفت القناة الثانية «تدويز» ضحاياها عبرها. كما يمكن للقناة الثانية المشاركة في الاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتلك الوقفة التي نظمتها ضد «لوجورنال» بسبب رسومات مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم لم تنشرها المجلة. ومع ذلك لم تعتذر القناة لا للمجلة ولا لمشاهديها الذين يمولونها، والذين افترت عليهم بذلك الخبر الكاذب. وطبعا هناك وزارات ومؤسسات عمومية أخرى يمكن أن تشارك في برنامج هذه الاحتفالات المجيدة، «لإبراز المكاسب الهامة التي حققها المغرب»، كما يقول عباس. وللمزيد من التفاصيل حول طريقة الاحتفال يمكن الرجوع للتقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، الذي يعدد بالأرقام اعتداءات المسؤولين والوزراء على حق المواطنين في حماية مالهم العام بأكثر من مائة مؤسسة عمومية، وتقرير ديوان المظالم الذي يضع وزارة العدل والداخلية على رأس المؤسسات التي يشتكي من شططها وظلمها المواطنون المغاربة. وكل إعلان عالمي لحقوق الإنسان وأنتم هكذا، فمن شب على شيء شاب عليه.