يبدو أن الخلاف بين الاستقلال والاتحاد الاشتراكي لم يعد مقتصرا على المغرب، وإنما وصل صداه إلى الخارج. فقد أصبح اليازغي، وزير الدولة بدون حقيبة، متخصصا في مطاردة طائرة الحكومة العباسية الفهرية العابرة للقارات. وبمجرد ما يصل الفاسي إلى دولة أجنبية لحضور مؤتمر دولي أو عربي حتى يجد اليازغي قد سبقه. في آخر مؤتمر في الكويت، دخل الفاسي، الفهري وليس عباس، إلى قاعة المؤتمر لكي يجلس في المعقد المخصص للمغرب، فاكتشف أن اليازغي سبقه وجلس فيه. وقد شعر المنظمون الكويتيون بالحرج عندما رأوا وزيرا مغربيا بقضيه وقضيضه يحتل مكان زميله ويرفض مغادرته بحجة أنه الثاني من حيث الأهمية السياسية بعد الوزير الأول. والرجل معه حق، فرتبته بين الوزراء هي وزير دولة، رغم أنه يحمل حقيبة فارغة يحلو لشبيبة حزبه أن تشبهها بالصاكاضو. وقبل يومين طار الوزير الأول عباس الفاسي إلى تركيا للمشاركة في الملتقى العالمي للماء، حيث سلم جائزة الحسن الثاني للماء. وفي الوقت الذي نشرت فيه جريدة الوزير الأول الخبر في الصفحة الأولى، تعمدت جريدة الاتحاد الاشتراكي نشر خبر آخر يتعلق بمشاركة محمد اليازغي، وزير الدولة، في المائدة المستديرة المنظمة على هامش الملتقى العالمي للماء، بعد أن تلقى دعوة كريمة وشخصية من الرئيس المدير العام لمؤسسة «فيوليا لأصدقاء الماء»، بوصفه وزيرا سابقا في الماء والبيئة. وطبعا لم يشر كاتب الخبر في جريدة الحزب إلى أي تفاصيل بخصوص الجهة التي تكلفت بدفع نفقات السفر لسعادة الوزير بدون حقيبة، الذي عرف الماء في المغرب على عهده أكبر أزمة في تاريخة، وعجز حتى عن سن قانون يمنع صناعة وترويج «الميكا الكحلة» كما صنع أقرانه في الجزائر. وهكذا ففي الوقت الذي سيكتفي فيه عباس الفاسي بتسليم جائزة الحسن الثاني للماء في الملقى، فإن اليازغي سيقدم محاضرة تحت عنوان «إصلاح قطاع الماء». فيظهر أن الوزير الذي يطالب بعض أعضاء مكتبه السياسي بالإصلاح الدستوري، يكتفي من إسطنبول بالمطالبة بإصلاح قطاع الماء. فالقاعدة الأصولية تقول إذا حضر الماء بطل التيمم. وواضح أن الاتحاديين يستعملون يافطة الإصلاحات الدستورية من أجل التيمم فقط، خصوصا عندما يشعرون بالجفاف يزحف نحو قلاعهم الحزبية. وعندما نراجع لائحة وزراء عباس الذين يوجدون خارج الوطن أو الذين يستعدون للمغادرة لفترة طويلة، نستغرب كيف أن وزراءنا يقضون في الخارج وقتا أطول من الوقت الذي يقضونه في وزاراتهم. فعباس الفاسي، الذي انضاف إلى لائحة ضحايا فضيحة النجاة، التي تلتصق به، شاب آخر رمى نفسه أمام القطار قبل يومين ليصل عدد المنتحرين في صفوف ضحايا النجاة خمسة ضحايا، لا يكاد ينزل من طائرة إلا لكي يمتطي أخرى. أما اليازغي الذي يجرجر وراءه حقيبته الوزارية الفارغة، فقد أصبح متخصصا في مطاردة عباس الفاسي ووزير خارجيته، وبمجرد ما «يحطون الكالة» في مؤتمر دولي أو عربي حتى يجدوا «باك» اليازغي «مبندا» في مكانهم. ولا بد أن لزوجته «سوعدة» التي ترافقه إلى كل مكان يذهب إليه، يدا في هذه المطاردة الدبلوماسية المشوقة. فالسيدة حرم اليازغي لن تغفر للفاسي إقصاء أبنائها من الحكومة، في الوقت الذي منح فيه أبناء القبيلة الفاسية الفهرية وزارات ومناصب هامة على رأس مؤسسات عمومية. وأتصور أن الشغل الشاغل لمدام «سوعدة اليازغي» أصبح هو مراقبة تحركات عباس الفاسي وأسفاره الخارجية، وفي كل مرة ينتهي إلى علمها أنه تأبط ذراع حرمة لالة أم البنين لكي يأخذا الطائرة، تنغز» زوجها وتحثه على الوصول إلى «الحفلة» قبل «الكوبل» الوزاري السعيد. لكن حرب الاتحاديين مع الاستقلاليين لا تخفي فقط رغبة الوزراء «المكردعين» في الانتقام من حكومة عباس بوضع العصا في عجلاتها المفشوشة أصلا، ولكن هناك اليوم خطاب سياسي منظم يبثه والعلو والأشعري في كل اللقاءات والحوارات التي أعطياها مؤخرا. وفي الوقت الذي يتكلف والعلو بنظم قصائد الغزل في مدح الأزمة الاقتصادية، والافتخار بأنه لا يخشاها بل بالعكس، هو «مزعوط» و«مربوط» فيها، يتكلف الأشعري باستنهاض الصحافي الراقد في داخله لكي يكتب رسائل عبر جريدة الحزب يطلب فيها من وكيل الملك فتح تحقيق معه حول ممتلكاته. والأشعري ليس وحده من ينطبق عليه مثال «مول الفز»، وإنما سبقه إلى هذه «اللعبة» رفيقه والعلو عندما نشر مقالا تحدث فيه عن ممتلكاته وتعويضاته بعدما انتشرت أخبار في الصالونات الرباطية تتحدث عن تعويضات بمئات الملايين سنويا كتعويضات على تحصيل الضرائب التي ارتفعت في عهده بشكل صاروخي. وأول شيء يلاحظه قارئ «رسائل الغفران» هذه، هو أن «محنشيها» أصبحوا يتبرؤون فجأة من ثرواتهم التي جمعوها طيلة عشر سنوات من العمل الحكومي «الدؤوب». وأصبحوا «طالبين العدم»، بعد أن كانوا إلى وقت قريب يرتادون أفخم المسابح وصالات العناية بالبشرة وتقليم الأظافر. هكذا أصبحت الثروة عيبا وتهمة يجب التبرؤ منها قبل الانتخابات التي سيجد فيها هؤلاء الأثرياء الجدد أنفسهم مجبرين على مقابلة الشعب لطلب أصواته مجددا. السؤال الذي يطرح نفسه الآن ليس هو لماذا يعلن والعلو أنه «مزعوط» في الأزمة الاقتصادية، أو لماذا يعلن الأشعري أنه شبه «مزلوط» رغم أنه قضى عشر سنوات في الحكومة يتلقى راتبا محترما، وعندما غادر منصبه احتفظ بتقاعده المريح. وإنما السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه هو لماذا يصرح الوزيران الاتحاديان السابقان بكل هذا الآن وليس قبل هذا الوقت. والجواب هو أن السي والعلو والسي الاشعري يريدان أن يعيدا إلى أذهان المغاربة والنظام تلك اللحظة التي قال فيها الحسن الثاني أن المغرب مشرف على السكتة القلبية، وأنه التقى اليوسفي وأقنعه بالمشاركة في إخراج المغرب من «بيت الخطر»، فوافق زعيم المعارضة الاتحادية على العودة إلى الوطن وتحمل مسؤوليته التاريخية. ولعل «فيلة» الاتحاد الاشتراكي العجوزة، يريدون أن يسوقوا أنفسهم في هذه الأزمنة الاقتصادية الصعبة كمنقذين محتملين للمغرب من السكتة القلبية التي تتهدده ويخفي أعراضها وزير المالية عن أنظار الشعب. وبما أنهم لا يستطيعون أن يقولوها مباشرة للملك، فإنهم يحاولون بطرق ملتوية التلميح إلى قدراتهم السحرية العجيبة في معالجة السكتة القلبية والأزمة وما إلى ذلك من أمراض الرأسمالية المزمنة. بل ذهب الأمر بأحدهم إلى أن أعلن أن النتائج الإيجابية التي حققها الاقتصاد المغربي في عهد وزير المالية صلاح الدين مزوار هي بفضل الإصلاحات المالية والاقتصادية التي جاء بها والعلو عندما كان وزيرا للاقتصاد والخوصصة في حكومتي اليوسفي وجطو. والحال أن الجميع يعرف أنه إذا كان الاقتصاد الوطني لازال واقفا على رجليه فبفضل عائدات الفوسفاط أولا، والتي تضاعفت سنة 2008 ثلاث مرات بفضل الإدارة المحكمة للطراب الذي حاربه والعلو طويلا عندما كان مديرا لوكالة تقنين الاتصالات، إلى درجة أن الطراب «طج» و«سمح» لهم في منصبه وهاجر إلى أمريكا، قبل ان ينادي عليه الملك لكي يتحمل مسؤولية إدارة الفوسفاط. ولازال الاقتصاد المغربي واقفا على رجليه ثانيا بفضل عائدات تحويلات عمالنا المهاجرين في الخارج التي بدأت في التراجع، وثالثا بفضل عائدات السياحة. ورابعا بفضل عائدات الضرائب التي يجنيها بنسودة والتي ارتفعت سنة 2008 بشكل قياسي بعد أن فهم بعض «أرباب» الشركات أن بنسودة لديه «كارت بلانش» لكي «يعصر» كل الشركات كيفما كان اسم مالكها ويستخلص ضرائبه منها. فقد ذهب ذلك الزمن الذي كان فيه موظفو الإدارة العامة للضرائب يراقبون مصعوقين كيف يدخل أحد الجنرالات باحثا عن المدير لكي «يجبد» له أذنية بسبب ضريبة الأرباح التي أرسلتها إدارته إليه بعدما باع أحد أراضيه الشاسعة. لذلك فعندما يروج والعلو وحواريوه أسطورة العبقرية الاقتصادية الاشتراكية التي بفضلها لازال المغرب واقفا على رجليه، نشعر بالدهشة. خصوصا عندما نعرف أن أقصى ما قام به والعلو طيلة عشر سنوات على رأس وزارة المالية والاقتصاد، هو بيع أغلب المؤسسات العمومية للأجانب، وفرض ضريبة القيمة المضافة على كل شيء صالح للاستهلاك. المغرب يعيش بعائدات الفوسفاط والسياحة والضرائب وحوالات عمالنا المقيمين بالخارج. أما «الهضرة» فالمغاربة لديهم قول مأثور في هذا المجال يقول «الهضرة ما تشري خضرة».