يبدو أن القطرية قد فقدت تسويغها الثقافوي في أن تكون مرحلة انتقالية نحو ما يتجاوزها من إطارات الاتحاد أو الوحدة أو في الأقل، توصيفة أولية في التكامل التنموي، أو في حدود دنيا من أشكال الدفاع القومي عن وجود مجتمعاتها وحرّياتها الإنسانية المأمولة. فقد صمدت القطرية طيلة أكثر من نصف قرن من عمرها (الاستقلالي) ضد كل محاولة ثورية أو انقلابية أو دستورية، في اختراق قلاعها ومدّ بعض جسور التلاقي بين أسوارها المنيعة. غير أنه إذا كانت لها تلك الأسباب الذاتية في المناعة ضد ما يتعدى حدودها المصطنعة أصلا، فإنها، كما يبدو أخيرا، لم تعد تملك تلك المناعة ضد ما سوف يختزلها إلى أصغر مكوّناتها الأهلوية. حين فقدت القطرية آخر ادعاءاتها الرمزية بأنها هي الطريق الاستراتيجي المتاح وحده ما بين الاستقلال الوطني الصغير إلى الاستقلال القومي الشامل، أمست أضعف من أن تقاوم نزعات تحلّلها الكلياني، الذي لم يعد له من سند إلا بفئاته الحاكمة، المستفيدة وحدها من استمرار خارطة التقطيع، ذلك الاستقلال الموهوم، لأوصال أمة ممنوعة من الحق في الحياة الطبيعية، فكيف إن كانت تمتلك كلَّ مؤهلات العصر لأن تأخذ مكانها التاريخي في طليعة مجتمع دولي حقيقي، إن كان له أن يوجد يوما ما. الفجيعة ليست في (قدرية) هذا التفكيك الذاتي للدولة القطرية، الذي يشرع في التحقق العياني لبعضها والتحقق المؤجل والمرتقب لمعظمها، بل هي الفجيعة البائسة في هذا الانصياع (القومي) لآمرية المرحلة النهائية من إعدام الأمة العربية وتحويلها إلى فتاتِ نفاياتٍ لبشرية، لن يتبقَّى لها من معالمها الإنسانية إلا مصائر الجوع والمرض لغالبيتها، والحرية المطلقة لعربدة الفساد والاستغلال، المحتكرة لأقلياتها الحاكمة المتحكّمة. فالمزيد من تجزئة المجزأ القديم لن يقدّم حرية أوسع أو سعادة أوفر إلى المواطنين داخل هذه القواقع المستحدثة، ولن ينشر سلاما بين هذه المجاميع المغلقة على بعضها، بقدر ما هي متضادة في ما بينها، متنافسة متصارعة على توزيع الحصص، من تلك المصالح العامة التي كانت مشتركة نسبيا في عهدة القطر الواحد. فحين تحل التجزئة لما بعد القطرية، سوف ينفرط عقد الشعب الواحد إلى عديد من الأقليات، ليست بينها أية غالبيات تحميها، وتحمي ذاتها معها. سوف تتساوى الأقليات في الضعف والافتقار إلى أبسط مقوّمات الدفاع السياسي أو العسكري عن استقلالها الوهمي. لن تشكل الأقليات شعوبا، وهذه لن ترقى، بنيويا وحضاريا، إلى مستوى دولة. دول الطوائف أو الأقليات هي أحط أشكال الحكم والإدارة الدستورية في تاريخ العلاقات الدولية، والتاريخ العربي والإسلامي على الخصوص. فليس أخطر على السلام الإقليمي، والعالمي، في هذا العصر، من إعادة بعثرة الأمم التاريخية الكبرى وحتى الوسطى منها. ذلك هو مفهوم ثابت انتهت إلى تأكيده ثقافة الغرب بالنسبة إلى تجاربه المتراكمة السياسية، والنظريات العلمية المشتقة منها، التي ستخصه وحده. من هنا، كان من أولويات الممارسة الاستعمارية للغرب الأخذُ بذلك المفهوم ولكن معكوسا، حيث كان شعار هذه الممارسة هو المثل الشائع: فرّق تسُدْ. واليوم تنهمك أمريكا وإسرائيل معا، كدأبهما، في تفعيل مختلف عوامل التفرقة والتفتيت، ليس على المستوى الجغرافي في ما بين الكيانات الدولية، فحسب، بل هو الضرب في العمق الاجتماعي لكل منها، لكن يجب الاعتراف، من ناحية أخرى، بأن عصور الانحطاط المديد الذي عاشت عصورَه أممٌ الشرق عامة، الموصوفة بالتاريخية منها، قد جرف بناها الفوقية وجفف النسغ الحيوي المغذي لخلاياها، مما أضعف من روابطها الجامعة وأفقر أهراماتها المتداعية من قمحها الحضارية المؤسِسة والداعمة لمعالم شخصيتها المفهومية، في عين أجيالها المتتابعة طيلة قرون من ظلمة العقل وتبعثر الإرادة الجماعية وانسحاب الفئات الواعية من مساحات العمل العام. معظم هذه الكيانات الدولانية، التي تغطي قارة إفريقيا وأكثر من نصف آسيا، لم تكن من صنع شعوبها، بل أمست عثرة سياسية وقانونية أمام تطورها البنيوي. إنها نتاج خارطات من مخلّفات الاستعمار القديم، والموروثة والمؤتمن عليها من قبل سلالته الأمبريالية المعاصرة، فليست ثمة دولة، كبيرة منها أو صغيرة، ترى نفسها كما تشعر وتتمنى ضمن حدودها الدولية المفروضة عليها حاليا. لا يمكن القول، على سبيل المثال، إن نموذج الدولة الأمة، الذي انتهى إليه التطور السياسي المدني للغرب، قد ينطبق، بشكل ما، على أي من رسومات هذه الخارطة الاستعمارية، خاصة عندما أمست أخيرا عُرضة لمختلف اهتزازات الداخل والخارج معا، فالتصدُّع والتشقّق في كل من الشكل الدستوري للدولة والشكل المورفولوجي لمكوّنات المجتمع، يبرهنان معا على كون هذه الدولة العربية والشرقية حولها، ليست لها من حماية مفترضة إلا ما كان ومازال يوفره لها مخترعوها الأصليون، وهم بالطبع الأجانب الأغراب الطارئون على تاريخ القارتين وجغرافيتيهما. لكن إذا كانت هذه الخارطة الأجنبية كليا أمست في مهب الرياح (العصرية)، فإن عوامل تفتيت وحداتها القائمة ليست عصرية حقا، إن لم تكن مضادة لكل معايير العصر. إنها تأتي بالتغيير المضاد لأبسط شروط قيام نموذج الدولة الأمة. إنها رياح تغيير عاتية غبية، تعصف بالدولة والأمة معا، ولا تخلّف وراءها إلا قاعا صفصفا من كل شيء، إلى درجة أن كارثة التفكيك المتنقلة راهنا ما بين أقطار طرفية ومركزية، تكاد تمزج رياحها الأجنبية بزوابع أهلوية، حتى يبدو أحيانا أن حركات الطرد الصادرة عن الهويات الفرعية ضد بعضها في القطر الواحد أصبحت تغالب هوية القطر عينها، في الوقت الذي لا ترى فيه حرجا في الاستمداد العلني للعون الأجنبي، تغطية لضعف بنيتها (الجزيْئية) التي آلت إليها. وهي تعتقد أنها اختارتها بإرادتها، بينما لم تُردْ فعلا إلا ما اُريد لها، من فوق رأسها أو من وراء ظهرها أو بكلتا يديها معا، وتلك هي الطامة الكبرى. إذن، النهضة العربية مهددة بفقدان أرضيتها (القطرية) التي اعتادت أن تشتغل وتتحرك على/ وبين تضاريسها. كانت النهضة تعيش كلّ مباذل القطرية، لكنها استخدمتها كمسارح لدرامية أحداثها، آملة في التمكن يوما من انتقال الدراميات من خشبات المسارح إلى قاعات المتفرجين. هذه الجماهير التي تقضي زهرة شبابها مع كل جيل، وهي قعيدة كراسي الفرجة، على من يكتب ويُخرج ويُمثل مصائرها، بدون إذن منها غالبا. فما هو ذلك المرض العضال الذي يدأب على فصل رأس النهضة عن جسدها، كلما استطاع هذا الجسد أن يسترد رأسه، ولو إلى حين، ويحطم خشبة من التابوت المدفون هو فيه. هذه اللحظة الذروية البائسة من كل مسرحية نهضوية، تكررت فصولا وعروضا، متنوعة بالوجوه والشخوص، لكنها تنتهي إلى الخاتمة الواحدة، حيثما يسدل الستار على الجسد الفاقد لرأسه، والباحث عنه إلى ما لا نهاية. هل كانت القطرية الآفلة اليوم أو غدا، واعدة حقا برهانات العصر الذهبي الذي ستتمخض عنه لا محالة، كما اعتقدت جيوش العقائد والثوريين والعلمانيين وحتى الإيمانيين. ألم تكن القطرية مقرا ومستقرا لأضعاف أضعاف العلل المستديمة التي لن تولدها إلا المخلوقات الشوهاء، وليس الكائنات النورانية التي لم تأتِ أبدا. قد يرد البعض بأن الجسد العليل لن ينتج الرأس السليم. كلما النهضة عجزت عن إنتاج عقلها النهضوي. لقد بقيت مجرد أحلام عائمة غائمة، سائحة في مواسم من فراشات الأفكار، ظنَّها البعض نسورا كاسرة، لكن سرعان ما تبين أنها غربان ناعقة بأوخم العواقب والمآتم. هل تظل النهضة بالحرف الكبير منزهة حقا عن كل تاريخها. أين هو الخطأ في النهضة؟ هل كانت مسؤولة فعلا عن ترسيخ (مبدئية) الفكرة القائلة بأن القطرية مرحلة انتقال إلى ما هو أفضل، لكنها أوصلتنا إلى الأسوأ. فهل كان ذلك خطأ في النهضة أم في التأويل والمنهج؟ الأجوبة مؤجلة كالعادة. وفي الوقت الضائع بين أسئلة النهضة لذاتها كفلسفة، وأجوبتها كتاريخ لها وعليها، قد يتدخل بعض الوعي المدعي للموضوعية، فيبدأ من الاعتراف بأن القطرية لم تأت برهان الأفضل، لكنها في ظروفها الراهنة من صراعها مع التفكيك، فإن التشبث بها قد يمنع ما هو أسوأ منها بكثير، وذلك على طريقة الاختيار ما بين أهون الشرور. ليس الفكر الوحدوي هو المتصدي الأول لكل هذا النقاش جملة وتفصيلا فحسب، بل هو فكر العصر كذلك، الذي يقول إن النهضة والتجزيئية -والقطرية هي بؤرتها المركزية- نقيضان في تجربة التقدم الإنساني الكوني. ولن تكون الحالة العربية الإسلامية شاذة عن هذه القاعدة، بل داعمة مجدّدِة لمنطوقها الواقعي. فالمايحدث الراهن هو أن القطرية تدمرها نتائجها الفاشلة، ولعلها سوف تنقضي بانقضائها. ولن يكون البديل عنهما معا إلا ذلك الرهان العربي القديم قدم الثقافة المدنية، القائل بإمكان استرداد النهضة لبراءة صيرورتها في عين ذاتها، أولا، كلما أعوزها البرهان على حقيقتها ضدا على وعثاء الواقع وأباطيله، بشرط أن تبرهن (الحقيقة) أو التاريخ على صدق النهضة وليس العكس. لكن المشكلة هي أن شمعة الفكرة وحدها قد لا تبدّد الظلام. لعلها فقط تسميه باسمه.