يعتبر سؤال التحول الديمقراطي من الأسئلة القلقة بامتياز في مجال التفكير السياسي. لذلك تعددت المقاربات وتشعبت الآراء. فثمة من يرى أن الديمقراطية تأتي مع البارجة الأمريكية، العراق.. طرف أخر يرى أن للجيش دور في ذلك إن هو وعي دوره التاريخي في تحقيق الديمقراطية، موريتانيا .. فئة ثالثة تعتقد أن المسألة مشروطة بمدى اتساع انتشار ثقافة الديمقراطية بين صفوف شرائح واسعة من المجتمع. كما أن هناك قطاع من السياسيين والمتقفين بدأ يتسع في السنوات الأخيرة يتصور أن الأمر مرتبط عضويا بصيرورة اجتماعية تجمع الديمقراطيين في إطار مشروع ديمقراطي متكامل يؤمن بالمدخل السياسي كقاطرة لوضع بلدان الوطن العربي على سكة الانتقال الديمقراطي الحقيقي ... تعدد الإجابات واختلاف الزوايا في التعاطي مع سؤال الانتقال الديمقراطي الإشكالي حقا يجعلنا نؤكد على فكرة غياب الديمقراطية في عالمنا العربي? لكن من الناحية المنهجية فالعلوم الاجتماعية لا تدرس غياب الظواهر فهي بالكاد تسعى لفهم عناصر ومحددات الظواهر الموجودة أو التي لازالت في بداياتها أو مراحل متقدمة من ظهورها. معنى هذا أننا نبحث في استشراف الطريق إلى الديمقراطية وليس في غيابها . من جهة أخرى نعتقد أن نخبنا المشتغلة على سؤال الإصلاح لم تؤسس بالشكل الكافي لهذا السؤال. عدم حصول تحول نحو الديمقراطية يكشف أن العملية لا تحصل وكأنها تطور طبيعي بل لابد لها من تأسيس إلى جانب ربطها بالفعل والممارسة .كما يرى الدكتور عزمي بشارة في كتابه في المسألة العربية. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي . يؤكد المفكر السياسي روستـوفي عمله التحليلي لعملية التحول الديمقراطي الذي نشر سنة 1970 أن هناك مجموعة من الخصائص تميز الانتقال من نظام سياسي سلطوي إلى ديمقراطية ليبرالية . فهو يرى أن الارتباطات بين مجموعة من العوامل والأنظمة الديمقراطية-الليبرالية ليست سببية.والأمر نفسه يصدق على المعتقدات والأفعال. بعد روستو توالت المقاربات التحليلية بحثا عن تقليعات وتوصيفات تعرض لمميزات وخاصيات موضوع الانتقال الديمقراطي، مستحضرة متطلبات الوصف الفيزيقي بغية محاصرة كل عناصر الموضوع. في هذا الاتجاه نذكر العمل الذي قام به كل من دونل و شمايتر تحت عنوان تحولات من النظم السلطوية سنة 1986 ، والذي أصبح مرجعا لمن أراد فهم خطوط و منعرجات التحولات الديمقراطية. هذا الجهد في البلتولوجيا يسعى لمحاولات في الإجابة عن أسئلة أساسية متمردة على إجاباتها أكثر منه إجابات نهائية حاسمة. قبل تحديد بعض المفاهيم الهامة مثل ماذا نعني بالتحول الديمقراطي؟ أو اللبرلة أو الدمقرطة ؟ دونل و شمايتر يقران بداية أن هناك ثلاث اعتبارات قبلية تمس الموضوع والمنهج أولا الديمقراطيات السياسية ماذا نفهم من الديمقراطيات الليبرالية تحديدا كهدف مقصود في حد ذاتـه ؟ ثانيا مستويات الممكن والمتحمل والمنتظر والغير المنتظر في التحولات السياسية. أخيرا وارتباطا بما سبق ثمة إشارة منهجية مفادها أن العلم القار الذي يدرس النظام القائم والثابت لا يصلح لدراسة وتحليل موضوع متبدل، أي التحديد قبليا لما هي القطاعات الاجتماعية، المؤسسات.. التي تحتل مكانة مهمة في العملية. التمييز المفهومي الأول هو بين اللبرلة والدمقرطة. الأول يهم ءاعادة تعريف وتوسيع جملة الحقوق الفردية والجماعية بهدف حماية المواطنين والتنظيمات من تعسف الدولة، بمعنى أن بداية التحول السياسي تعني خلق مسافة بين نظام وآخر. النظام السلطوي والنظام الديمقراطي الليبرالي (النظام هنا هو مجموع القوانين والشروط الواضحة أو الغير الواضحة التي ترسم أشكال وقنوات الولوج إلى مواقع الحكم كما تحدد معايير هذا الولوج وفقا لاستراتيجياتها ). فالحقوق والحريات في مرحلة اللبرلة مرتبطة إلى حد كبير بجانبها الليبرالي. أما الدمقرطة فترتبط بحقوق المواطنة كما أوردها كبار الفلاسفة السياسيين جون لوك و مونتسكيو و جون راولز صحيح أنه يصعب عزل سيرورة اللبرلة عن سيرورة الدمقرطة لأن قيم الحرية ، المساواة والمشاركة السياسية من خلال الانتخاب العام وحق الجميع في الترشيح للوصول لمراكز القرار تتحرك داخلهما معا. لكن هذا لا يؤثر على نتيجة الجهد العلمي الذي قام به الباحثان والتي تؤكد أن عملية التحول الديمقراطي تتم عبر مراحل . تبتدأ بلبرلة الحقوق والحريات مرورا بدمقرطة المشاركة السياسية وحق تأسيس الجمعيات والهياكل التنظيمية من أحزاب ونقابات، وانتهاء بإقرار دمقرطة الحقوق الاجتماعية، التعليم، الصحة، الترفيه... إن دراسة انتقالات تمت في الماضي وفي مراحل تاريخية سابقة وفي أقطار مختلفة نستنتج منها بعض السمات العامة على الرغم من استنتاجها استقراء إلا أنها تصلح لتفسير ما جرى ولكن من دون أن تتحول إلى نظرية كاملة شاملة. إذا أردنا إسقاط ذلك على كل السياقات التاريخية. من جهة أخرى ندرك أن الحديث عن التحول الديمقراطي في العالم العربي يختلف عنه في البلدان التي أجريت فيها الدراسات التي عرضنا لها لاختلاف السياقات الثقافية والحضارية. لكن هذا لا يعني ترحيلها عن أنظارنا وإبعادها عن حقل تأملنا. فقد تتقاطع السياقات أحيانا بعضها مع بعض، خصوصا وأن عالم الاجتماع الإنساني لا يستقيم إلا بتوسيع فضاء الحريات والحقوق في مواجهة تغول النظم السياسية. بلدان العالم العربي لها سمة خاصة متمثلة في الدولة القطرية التي لا شرعية لها أصلا، تفتقد الشرعية الفكرية والسياسية، أنتجتها معاهدة سايكس بيكو المشؤومة في إطار مشروع إمبريالي يسعى إلى السيطرة على خيرات شعوب المنطقة وضمان مصالح استراتيجية بها بعد مسلسل التتريك الذي حاول إفقاد الأمة العربية جوهرها القومي العروبي. لذا يمكن تجميع عناصر سؤال التحول الديمقراطي في عالمنا العربي من خلال دراسة تجارب التحول الديمقراطي في أوربا الجنوبية وأمريكا اللاتينية من جهة واستحضار خصوصية البلاد العربية المفتقدة دولته القطرية للشرعية من جهة ثانية، إلى جانب استدعاء البنيات العميقة المكونة للعقل السياسي العربي، عقيدة- غنيمة - قبيلة التي يكشف عنها الجابري في رحلة إماطة اللثام عن كيفية تكوين العقل السياسي العربي وتتبع مسار تكوينه من جهة ثالثة مع عدم إغفال متغيرات أخرى مرتبطة بالاقتصاد الزراعي واقتصاد الريع، ترييف المدينة ونقل هذا الترييف إلى العمل السياسي، غياب طبقة وسطى قوية... بمعنى آخر نقول إنه ربما تكون مسؤولية الديمقراطيين العرب التاريخية في حمل المشروع الديقمراطي أصعب. في عالمنا العربي نحتاج إلى قوى سياسية منظمة تطرح سؤال التحول بجد وتعطي لعناصره الأهمية الكافية، فصل السلطات، الانتخاب الحر، استقلال القضاء... وذلك بدسترة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، مع تخصيص حيز واضح للهوية القومية كإطار جامع لكل البلدان الناطقة بالعربية في أفق وحدة حديثة تمكن من تجاوز الجماعة العضوية في عملية بناء الدولة - الأمة ونحو تأسيس مواطنة متساوية حتى في الدولة العربية القطرية. بعد تأسيسها تصبح المواطنة بحد ذاتها بمعزل عن الانتماء القومي معيارا للحقوق. فبإمكان المواطنة في الدولة القطرية أن تتعايش مع الانتماء القومي وتزدهر في ظله لو عرف كل منهما حدوده. - عزمي بشارة 2007 في المسألة العربية. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي. مركز دراسات الوحدة العربية . بيروت. - محمد عابد الجابري 1990 نقد العقل العربي 3 العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته مركز دراسات الوحدة العربي. بيروت. تقعيد الفقه بين الأحناف والشافعية أشرنا في مقال سابق إلى جملة مؤشرات دالة على قيمة القواعد الفقهية، وأكدنا خلال ذلك على اهتمام العقل الفقهي القديم بمسألة التقعيد، والصياغة المنهجية للتفكير. فبالنظر إلى تراثنا الفقهي يتضح أن مسألة القواعد كانت ذات قيمة نظرية ومنهجية بالغة، حتى أنها كانت تورد في مورد المراتب العالية للتفكير، فتخصص بمن هم أهل لها من حيث الملكة العقلية والرصيد العلمي. بل يبدو أن بعض الفقهاء كانوا يحترسون من إعلان هذه القواعد وإشاعتها، ومما يروى من الطُّرَف في شأن ذلك، ما يحكى عن أبي سعيد الهروي عندما سمع أن الإمام أبا طاهر الدباس أحد أشهر الأئمة الأحناف في عصره أرجع جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة، فعزم على السفر إليه من أجل تعلمها. لكن المفاجأة كانت في أن الإمام الدباس لم يكن يعلن تلك القواعد، إنما كان حريصا على كتمانها. لكن جرت العادة أنه عندما ينتهي من إلقاء دروسه، وينصرف كل من في المسجد، يبدأ في تسميع نفسه هذه القواعد السبعة عشرة لتذكرها. لذلك لم يكن أمام الهروي إلا اصطناع الحيلة من أجل سماع تلك القواعد، فعزم على البقاء بعد أن انصرف الناس، فتخفى في المسجد ملتفا بحصير، ولما أغلق أبوطاهر الباب، أخذ في سرد تلك القواعد، فلما بلغ القاعدة السابعة، يقول الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر: +حصلت للهروي سعلة فأحس به أبوطاهر فضربه وأخرجه من المسجد، ثم لم يكررها فيه بعد ذلك؛! إذن بسبب السعلة رجع الهروي إلى أصحابه بسبع قواعد فقط بدل السبعة عشر! لا يهمنا هنا ما في هذه الحكاية من اختلال قد يشكك في مصداقيتها.. مثل كتمان أبي طاهر للقواعد، مع أن هذا يدخل في باب كتمان العلم وهو إثم ظاهر لا سبيل إلى تسويغه! كما في الحكاية بنسقها الذي رويت تكلف واضح، خاصة في القول بأن الهروي تخفى بعد أن خرج الناس بالالتفاف بالحصير، هذا مع أن الإمام الدباس كان ضريرا، ومن ثم لم يكن الهروي محتاجا لأن يلتف بحصير حتى يتخفى!! لكن بصرف النظر عن كل ذلك، نرى أن الحكاية ربما تم إيرادها هذا المورد للدلالة على قيمة القواعد والمبالغة في تثمينها حتى أنها تكتم، فلا يبلغ المرء إليها إلا باصطناع الحيلة! ويبدو من سياق الحكاية السابقة، أن الشافعية ما قامت بتقرير القواعد إلا بعد أن سمعت بقواعد الأحناف.. حيث يقول السيوطي بعد أن أورد ما حصل للهروي: +قال القاضي أبوسعيد: فلما بلغ القاضي حسينا ذلك رد جميع مذهب الشافعي إلى أربع قواعد؛. وهنا يظهر أن اختصار القاضي حسين للقواعد الشافعية كان رد فعل على التركيب الحنفي لقواعد النظر الفقهي.