ما فتئ من يهمهم أمر الجسم السياسي المغربي يتحدثون عن أمراضه التي أصبحت مزمنة، حيث تحول دون قيامه بالأدوار التي يفترض أن يقوم بها. وسنركز هنا على مرضين، أولهما ذو طبيعة ذاتية يتمثل في الترحال السياسي وثانيهما ذو طبيعة موضوعية يتجلى في التعددية الفاقدة لمعناها، سواء على الصعيد الحزبي أو على الصعيد النقابي. مع بداية الدخول السياسي الجديد، فرضت ظاهرة الترحال السياسي نفسها بقوة مرة أخرى، وذلك بانتقال العديد من المستشارين الجماعيين والبرلمانيين من أحزابهم ليلتحقوا بأحزاب أخرى. والملفت للانتباه أن هناك رفضا لهذه الظاهرة على مستوى الخطاب وتكريسا لها على مستوى الممارسة. لقد نوه جميع الفاعلين السياسيين بمقتضيات المادة الخامسة من قانون الأحزاب السياسية الجديد، الذي دخل حيز التنفيذ في فبراير 2006، والتي حظرت على البرلمانيين تغيير انتماءاتهم الحزبية طيلة مدة ولايتهم البرلمانية، لكن سرعان ما تبينت للجميع أيضا صعوبة تنزيل هذه المقتضيات على أرض الواقع قبيل إجراء استحقاقات 12 يونيو 2009 الجماعية. ورغم أن سلطات الإدارة الترابية أمرت باحترام تلك المقتضيات، فإن القضاء كان له رأي آخر. آنذاك، طرح سؤال مركزي: هل الإكراهات التي تحول دون وضع حد للترحال السياسي ناجمة عن اجتهاد في فهم النصوص القانونية أم هي ناتجة عن ترسبات أفرزتها الممارسة السياسية وكرسها منطق الدفاع عن المصالح الظرفية؟! وبصرف النظر عن طبيعة الأجوبة التي يمكن تقديمها، فالظاهر أن هناك خللا في استيعاب دلالات الديمقراطية التمثيلية، حيث يجد الفاعل السياسي نفسه أمام سؤال التمثيلية، فقوة الأحزاب -كما جرت العادة على ذلك- تقاس بعدد المقاعد المحصل عليها عبر صناديق الاقتراع، لذلك نجد في بريطانيا أن أي برلماني في مجلس العموم، عندما يقرر تغيير انتمائه الحزبي، تبطل عضويته وتنظم انتخابات جديدة في دائرته. وهذا الإجراء يستند إلى فلسفة تتمثل في كون الناخب لا يصوت على شخص مرشح وإنما يصوت على الحزب الذي يمثله هذا المرشح. وعليه، فإن مسألة التمثيلية السياسية تكتسي كامل معانيها من خلال هذا الإجراء. أكيد أنه حان الوقت للتعاطي مع العمل البرلماني من زاوية الحكامة الجيدة، وبالتالي ستضاف إلى المعجم السياسي مفردة سياسية جديدة وهي مفردة الحكامة البرلمانية التي تفيد بأن نجاعة الأداء البرلماني لا تقتصر على ضرورة الاستفادة من الإمكانيات التي يتيحها النص الدستوري، والمتمثلة أساسا في قيام البرلمانيين بوظيفتي التشريع ومراقبة العمل الحكومي، بل تربط ذلك الأداء بطبيعة سلوك ممثلي الأمة واستبطانهم لمفهوم المؤسسة البرلمانية. إن هذه المفردة الجديدة تتشكل في لحظة تُثار فيها العديد من التساؤلات حول واقع المؤسسة البرلمانية في المغرب، تلك التساؤلات التي لا تقتصر على تقييم أداء هذه المؤسسة فقط بل تطال سلوك الفاعلين البرلمانيين كذلك. ورغم التصورات التي تشكلت لدى الرأي العام حول واقع هذه المؤسسة، والتي أفضت إلى إصدار أحكام قيمة مسبقة، فإن الباحثين يجدون أنفسهم أمام واقع معقد جدا، لا يكفي لفهمه وفتح مغاليقه الرجوع إلى النصوص القانونية بل ينبغي بذل جهد فكري كبير لاستحضار الموروث السياسي الذي يساعد، بكل تأكيد، على رصد العوامل التي تحكم سلوك البرلمانيين وتؤثر على أداء المؤسسة البرلمانية. يركز الكثيرون على ضعف الصلاحيات المخولة للمؤسسة البرلمانية في النص الدستوري. وأكيد أن هناك حاجة إلى تقوية هذه الصلاحيات كما تطالب بذلك العديد من القوى السياسية، كما أن هناك حاجة إلى تجاوز منطق التضارب الذي يحكم العلاقة بين الغرفتين المكونتين للبرلمان، غير أن ذلك -في حال تحققه- لا يكفي للحديث عن حكامة برلمانية بمعزل عن سلوك البرلمانيين، خاصة من خلال ظاهرتي الغياب والترحال السياسي. تأسيسا على هذه الرؤيا، كانت هناك حاجة إلى الربط بين السلوك البرلماني وأداء المؤسسة البرلمانية. فبدون تكامل هذين العنصرين وتفاعلهما لا يمكن أن نتحدث عن حكامة برلمانية. ويبدو أن الحديث عن الحكامة البرلمانية يراد منه أن يشكل وسيلة من وسائل الحد من ظاهرة الترحال السياسي. هذا في ما يعود إلى المرض السياسي ذي الطبيعة الذاتية، أما المرض ذو الطبيعة الموضوعية الذي ينخر الجسم السياسي المغربي، والمتجلي في التعددية الفاقدة لمعناها، فيعبر عن نفسه من خلال مسلسل الاستحقاقات الانتخابية الذي عاشه المغرب سنة 2009. شارك في المسلسل الانتخابي لسنة 2009 تسعة وعشرون حزبا سياسيا، بشكل منفرد، باستثناء ثلاثة أحزاب سياسية قدمت ترشيحات مشتركة، هي حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي والحزب الاشتراكي الموحد. إن المسلسل الانتخابي لسنة 2009 أبرز، بالملموس، طبيعة التعددية الحزبية المغربية، الفاقدة لمعناها السياسي، وذلك من خلال ثلاثة مؤشرات: - يتعلق المؤشر الأول بتكريس البلقنة السياسية. فرغم كل ما قيل عن ضرورة عقلنة التعددية الحزبية، فإن مسلسل تناسل الأحزاب لم يتوقف. ورغم الخطاب الذي اعتمده حزب الأصالة والمعاصرة من أجل عقلنة المشهد السياسي، بدءا بدمج خمسة أحزاب فيه، هي: الحزب الوطني الديمقراطي وحزب العهد وحزب البيئة والتنمية وحزب مبادرة المواطنة والتنمية وحزب رابطة الحريات، فإن ثلاثة أحزاب منها انفصلت عن الأصالة والمعاصرة، وأعادت تأسيسها، بعد تغيير طفيف في أسمائها. فالحزب الوطني الديمقراطي أصبح يسمى بالحزب الديمقراطي الوطني، وحزب العهد أصبح يسمى حزب العهد الديمقراطي، وحزب البيئة والتنمية أصبح يسمى حزب البيئة والتنمية المستدامة. إضافة إلى ذلك، شارك، ولأول مرة، في المسلسل الانتخابي لسنة 2009 حزبان سياسيان جديدان، هما حزب الوحدة والديمقراطية، المنشق عن حزب الاستقلال، وحزب المجتمع الديمقراطي. - يتمثل المؤشر الثاني في ظاهرة «الترحال الانتخابي». وهنا، لا نقصد انتقال برلماني من فريق برلماني إلى فريق برلماني آخر، وإنما نتحدث عن انتقال عدد كبير من أطر بعض الأحزاب ومسؤوليها الجماعيين للترشح بألوان أحزاب سياسية أخرى. وهذه الممارسة طالت جميع الأحزاب السياسية، وإن تركزت الأنظار على حزب الأصالة والمعاصرة، فقط. - يتجسد المؤشر الثالث في طبيعة المستقلين، أو اللامنتمين، الذين شاركوا في المسلسل الانتخابي لسنة 2009، فهناك مفارقة كبيرة بين ما حصلوا عليه من مقاعد في الاستحقاقات الجماعية ليوم 12 يونيو، إذ لم تتجاوز 72 مقعدا، بنسبة 0.3 في المائة، والحلول في المرتبة العشرين، وبين احتلالهم المرتبة الأولى، بنسبة 25 في المائة، في انتخاب مجالس العمالات والأقاليم، والمرتبة الأولى، بنسبة 24 في المائة، في انتخاب المجالس الجهوية، والمرتبة الأولى، كذلك، في رئاسة مجالس العمالات والأقاليم. وما يفسر هذه المفارقة هو أن أغلب الذين ترشحوا كمستقلين لم يكونوا كذلك، بل هم «متحزبون»، فشلوا في الحصول على تزكيات أحزابهم فترشحوا بتلك الصفة. إن المؤشرات الثلاثة تبرز أن المسلسل الانتخابي كرس، بالفعل، تعددية فاقدة لمعناها السياسي، وأن مشروع العقلنة ما زال مشروعا مؤجلا. إن ما ينطبق على الأحزاب السياسية يطال المركزيات النقابية، أيضا. فقد جرت انتخابات مناديب العمال وممثلي المأجورين، أو ما يسمى بانتخاب اللجان الثنائية متساوية الأعضاء، بين 14 و19 ماي 2009، ولوحظ تفاوت على مستوى تمثيلية حضور المركزيات النقابية بين القطاع العام والقطاع الخاص. إن «التعددية» الفاقدة لمعناها السياسي لا تقتصر على المشهد «الحزبي»، وإنما تمس أيضا المشهد «النقابي»، ولم يعد لمفهوم المركزية النقابية الأكثر تمثيلية أي معنى، رغم ضرورة حصولها على نسبة 6 في المائة. وتعبر البلقنة النقابية عن نفسها من خلال عدد المركزيات النقابية، التي تنافست على تسعة مقاعد في انتخابات تجديد ثلث مجلس المستشارين، يوم 2 أكتوبر 2009، إذ بلغ عددها 16 مركزية نقابية، مع التذكير بأن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل قاطعتها.