يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ «في الخرطوم، شكل أسامة مجلس شورى مؤلفا من واحد وثلاثين عضوا كان يتولى تخطيط عمليات القاعدة، وكان يضم لجانا لكل منها اختصاصها، من المال والجوازات إلى السفر ووسائل الإعلام (لجنة الإعلام كان رئيسها يلقب بأبو رويتر وذلك في لمعة فكاهية نادرة) إلى الشؤون العسكرية وقضايا الفتوى وسواها من المسائل الدينية. لكن إذا اعتمدنا الشهادة التي أدلى بها فضل (أحد الذين خرجوا عن القاعدة في ما بعد) فإن القاعدة قصرت نشاطها العسكري في السودان على ما سماه مجرد «تمارين استعدادية» على الأسلحة الخفيفة والمتفجرات كانت تتم في بعض الممتلكات الزراعية قرب الخرطوم ودامازين التي تبعد حوالي ثلاثمائة كيلومتر جنوب شرق العاصمة. «هذا الكلام لم يكن بعيدا عن الحقيقة لأن القاعدة لم تهجر معسكرات التدريب التابعة لها في أفغانستان... في غياب أسامة في السودان، كانت هذه المعسكرات في أفغانستان تدرب عديدا من المقاتلين وتصدرهم إلى كاشمير وآسيا الوسطى والشيشان والبوسنة، أما في السودان فلم يبد أن أسامة كان يريد حربا هنا» يقول جوناثن راندل. وكيف لبن لادن أن يريد الحرب في «دولته» الجديدة الآخذ في استثمار ثرواته فيها ويقيم منشآتها الحديثة والمنتجة. عين أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة كانت تترصد ما تقومه به الولاياتالمتحدة في منطقة الخليج والقرن الإفريقي، فبعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل سياد بري عام 1991، ونشوب الحرب الأهلية بما ترتب عنها من تبعات اقتصادية وكوارث إنسانية، قرر الكبار تدخلا أمميا لحفظ السلم في هذا البلد الفقير؛ فاستقرت فيه جيوش الهند وباكستان وغيرها من الجيوش، لكن ما كان يؤرق بن لادن ويثير توجسه هو هذا الجوار الأمريكي الذي بات يلاحقه؛ فعلاوة عن تهديد التدخل الدولي للجناح الإسلامي ضمن الفصائل الصومالية المتناحرة فإن إقامة قواعد عسكرية أمريكية هناك تعد بمثابة إحكام فكي الكماشة على معقل القاعدة الجديد. من ثم نجد أن ما أصدرته القاعدة من فتاوى لجنتها العلمية التابعة لمجلس الشورى الذي أقيم في السودان يتلخص في ثلاثة محاور، أولها ضرورة إخراج الأمريكيين من أرض الحجاز «الطاهرة»، ثم استكمال ذلك بطردهم من الخليج العربي، وبعد هذا وذاك، التصدي لنية واشنطن إرسال قوات ضخمة إلى الصومال، في إطار عمليات الأممالمتحدة للإغاثة التي ستبدأ عام 1992. قلق شاطرته الجبهة الوطنية الإسلامية، باعتبار أن نجاح الولاياتالمتحدة في القضاء على إسلاميي الصومال سيشجعهم على عدم التردد في تكرار السيناريو مع السودان. فكان أن سارع أسامة إلى إرسال مندوبين «عسكريين» عن القاعدة إلى الصومال لاستطلاع الأمر وتحضير الساحة، فيما أقام خلية لتنظيمه بالعاصمة الكينية نيروبي. «في غضون ذلك، وعلى الرغم من أن نشاطات الشيخ بن لادن في السودان كانت تتمحور بشكل رئيس حول السياسة، قرر مهاجمة القوات العسكرية الأمريكية بعمليتين تنفذان في الخارج، فتمثلت الهجمات الأولى للقاعدة بتفجيرات استهدفت في العام 1992 جنودا أمريكيين مسافرين في أثناء إقامتهم في فندق «غولد مور» في عدن-اليمن، مما أودى بحياة ثلاثة وجرح خمسة. أما العملية الثانية، فنفذت في العام 1993 عندما جرى إسقاط طوافتين من طراز «الصقر الأسود» خلال هجمات في مقدشيو (أعيد تصويرها لاحقا في فيلم هوليود «سقوط الصقر الأسود»). والجدير ذكره أن هجوم مقدشيو نُفذ تحت إمرة أبي عبيدة البنشري، القائد العسكري في تنظيم القاعدة الذي غرق عام 1996 في حادثة عبارة في بحيرة فيكتوريا. وسرعان ما سحبت الولاياتالمتحدة قواتها من الصومال، وهو أمر أخبرني الشيخ بن لادن لاحقا بأنه أسف له كثيرا، ذلك أنه كان يخطط لشن حرب استنزاف على تلك القوات...» يقول الفلسطيني عبد الباري عطوان. بينما الأمريكي جوناثن راندل يذهب بعيدا في شكه حول حقيقة نفوذ القاعدة في الصومال، ومشاركتها في العمليات ضد الأمريكيين هناك، ويقول إن إسقاط المروحيات أمر جار به العمل منذ عقود. ويضيف أنه «على الرغم من جعجعة أسامة ورغبته في طرد الجنود الأمريكيين بالقوة من العربية السعودية، يبقى أن هدفه الرئيسي آنذاك كان لا يزال مركّزا على آل سعود وليس على الولاياتالمتحدة (علما بأن الفارق بين الاثنين بالنسبة إلى الكثيرين من العرب كان شبه معدوم). إبقاء الأمريكيين خارج السودان كان يعني حماية الملجأ الجديد للقاعدة الذي هو من ضمن العالم العربي خلافا لأفغانستان. كل الأسباب العقلانية كانت تقضي بأن يبقى خفيض الصوت، فمن السودان كان أسامة يستطيع الاعتماد على تعاطف السودانيين بل على تواطئهم معه ومساعدته في إرسال رجاله في مهمات إلى الخارج». الثابت بالنسبة إلى هذا الأمريكي، الذي ألف كتابا حول بن لادن وطاف أصقاع العالم لجمع معلوماته، أن تحركات القاعدة ومشاركتها كانت تتم على مستويات أخرى أكثر وأكبر أهمية. من خلال فتحها لقنوات تدفق الإمدادات المالية والتكفل بطرق أبواب المستعدين للمساهمة، ونقل الحقائب المليئة بالأوراق المالية والقيام بالتحويلات اللازمة، بتواطؤ ومشاركة من الجبهة الوطنية الإسلامية والأجهزة السودانية. والهدف الأساس من تلك المجهودات التمويلية هو تمكين التنظيم من السلاح اللازم. ويذهب راندل إلى حد القول بسعي القاعدة إلى الحصول على عتاد نووي مقابل ملايين الدولارات. تعود هذه المعطيات لتصب في صالح فرضية المشاركة المباشرة للقاعدة في مواجهة الأمريكيين بالصومال، من خلال دفاعها المبكر عن معقلها السوداني، وتوفيرها العتاد والخبرة اللازمين لإسقاط المروحيات، والذي كان بمثابة الحل السحري لدحر السوفيات عن أفغانستان، لينقلب السحر على الساحر.