لا تخفى على أحد المكانة المتميزة التي أصبحت تحتلها مسألة حقوق الإنسان في عالمنا اليوم، إذ أصبحت تعتبر مقياسا، بل شرطا أساسيا للتقدم والتحضر، فبمقدار ما يتمتع به الفرد من حقوق -يمارسها على مستوى الفعل ويكفلها له القانون- نعتبر المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الفرد قد بلغ درجة من الرقي الحضاري والإنساني. لقد شهدت بلادنا نضالات خاضتها كل القوى الديمقراطية وكذا الجمعيات الحقوقية، تمخضت عنها مكاسب تجلت في التنصيص دستوريا على احترام حقوق الإنسان، والسعي إلى بلورة هذا المطلب عمليا من خلال إنشاء أجهزة على مستوى الدولة لصون هذه الحقوق والدفاع عنها، والأهم من هذا وذاك إقرارها كمادة تربوية تلقن للمتمدرسين بغاية تكريسها في سلوك وممارسات الأفراد، باعتبارها الأداة الوحيدة لبناء دولة الحق والقانون، وباعتبار أن بلدنا لا يزال يعاني مشاكل، لعل أخطرها استفحال ظاهرة الأمية وغياب تكوين وتعبئة سياسيين للمواطنين. في هذا السياق يثار هذا التساؤل: كيف يمكن أن ننشر هذا النوع من التربية الحقوقية في مجتمع طغت الأنانية والمصلحة الشخصية وانعدام القيام بالواجب؟ وبعبارة أوضح، ألا يمكن أن تكون هذه التربية تكريسا لوضعية فاسدة نحاول أن نتجاوزها، إذ بدلا من أن نبذل جهدا في اتجاه تكريس الإحساس بالمسؤولية والواجب لدى المواطنين ونشر قيم الغيرية والمصلحة العامة والشعور بالمواطنة، نلجأ إلى تلقين الناشئة الحقوق وكيفية المطالبة بها دون توعيتها بما عليها من واجبات؟ ألا يمكن أن يؤدي هذا السلوك إلى عكس ما نصبو إليه، وأخطره التمركز حول الذات والانغلاق عليها؟ ولعل الجميع يلاحظ كيف أن مجتمعنا انحسرت فيه قيم التضحية والإيثار والتكافل والتضامن، فأصبح سلوك الفرد لا توجهه إلا المصلحة الذاتية الآتية، ولا يقيس معاملاته إلا بقياس المنفعة مهتما فقط بالمطالبة بحقوقه ومتناسيا المسؤوليات والواجبات الملقاة على كاهله إزاء الوطن، فتجده دائم البحث عن سبل التملص من أداء ما عليه من خدمات وواجبات تجاه الدولة، كدفع الضرائب مثلا، متنصلا بذلك من كل مسؤولية تطوق عنقَه بها مواطنتُه، المفترى عليها والحالة هذه. وهذه الأنماط من السلوك تكاد تتمظهر في كل المجالات في مجتمعنا، فواجب تربية الأبناء يقع أولا على عاتق الأسرة، لكننا نلاحظ أن الأخيرة تخلت عن هذه المهمة وفوضتها إلى روض الأطفال والمدرسة، بدعوى الانشغال بالعمل، وواجب خدمة المواطن من طرف الموظف العمومي أصبح شبه منعدم، وكذلك الشأن بالنسبة إلى التاجر والصانع والمقاول والطبيب والمحامي والأستاذ.. إلخ، فهناك أمثلة لا حصر لها تبين أن المصلحة الشخصية ودافع الإثراء هو المحرك الأساسي للأشخاص فيها، وليس الواجب والشعور بالمسؤولية. إن مسألة تخليق الحياة العامة، سياسيا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، التي ينادي بها أصحاب الضمائر الحرة اليوم، لا يمكن أن تتحقق إلا «بثورة بيضاء» تبدأ من الأسرة، الخلية الأولى للنظام المجتمعي، وتمتد إلى المدرسة والجامعة والشارع، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني من خلال فتح أوراش للتكافل والتضامن يكون شعارها «قم بواجباتك تضمن حقوقك». وهنا أيضا يأتي الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه الأحزاب الديمقراطية، إن هي أرادت أن تقوم بدورها التاريخي، إلى جانب تلك المؤسسات طبعا، والتي يتوجب عليها اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن تنكب على وضع استراتيجية موحدة لتعبئة الجماهير وتوعيتها بكل واجباتها، وليس فقط واجب التصويت، حتى يتمكن الجميع من تخطي العوائق التي تقف أمام عملية التنمية الشاملة التي ننشدها جميعا، فكيف نوضح للمواطن، مثلا، أن له حقوقا سياسية كحق الانتخاب وحق الترشيح وحق المشاركة في تدبير شؤونه العامة ونحن لم نقم بعد بربط هذه الحقوق في ذهنه وفي ممارسته اليومية بضرورة قيامه بواجباته، أجل هناك حق للمواطن في الانتخاب يضمنه له الدستور، لكن في المقابل يتوجب عليه أن يحسن استعماله، ذلك أن هذا الحق ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة فقط، لأنه لو كان غاية في ذاته لكان من حق صاحبه أن يتصرف فيه وفقا لنزواته ورغباته ضاربا عرض الحائط بالوظيفة الاجتماعية للحق، إذ يتضمن هذا الحق واجب خدمة الوطن والمجتمع، الذي يحتم عليه أن يكون اختياره للمرشح اختيارا صائبا نابعا من قناعته ومن شعوره بالمواطنة الذي يجعله لحظة ممارسته لهذا الاختيار مدفوعا بالرغبة في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، مما يجعل من الاختيار عملا مسؤولا، وهذا لعمري هو الدور الأساسي الذي يجب أن تقوم به، كما أشرنا، الأحزاب السياسية وكذا مؤسسات المجتمع المدني، خاصة بالنسبة إلى مجتمع كمجتمعنا حيث لا زالت ترزح فئات واسعة في الأمية، مما يضعها في إطار مغلق ومنعزل يغيِّبها عن المشاركة في الحياة العامة. ودور هذه المؤسسات لا يقل أهمية عن دور الفاعلين السياسيين، فهي إن كانت ضمنيا تدافع عن حقوق الأفراد من خلال الخدمات والمساعدات التي تقدمها فهي في نفس الوقت تعبئ هؤلاء الأفراد من أجل خدمة المواطن، وذلك بتحفيزهم بطريقة غير مباشرة على القيام بواجباتهم، وهكذا تعمل من خلال نشر قيم التكافل والتضامن والتآزر التي تكرس في نفس الوقت الشعور الدائم بالواجب، الشيء الذي يدفع المواطنين إلى المساهمة في خدمة الوطن، إلى جانب الخدمات الأساسية التي هي من صميم مسؤولية الدولة، هكذا نجد أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني تشتغل جنبا إلى جنب وتتكامل خدمة لهدف واحد، هو المواطن. أما في مجتمعنا، وللأسف، فنجد أن الكل يواجه الدولة من خلال المطالبة بالحقوق، الشيء الذي أدى إلى انتشار عقلية اجتماعية لا تتقن إلا لغة المطالبة بالحقوق والاحتجاج بكل أصنافه، وهذا مثال من بين أمثلة كثيرة لا حصر لها في مجتمعنا، ففي الوقت الذي يتعين فيه على الفاعلين الاقتصاديين (من مؤسسات ومقاولات)، وخاصة في هذه الظروف الراهنة التي يتجاوزها بلدنا، اتخاذ المبادرات في اتجاه تأهيل طرق اشتغالهم -وذلك بالرفع من جودة إنتاجهم، ومواكبة أساليب التسيير والتدبير الحديثة المبنية على الكفاءة والتخصص، وإبعاد الزبونية في التسيير، والإلمام بالتقلبات الاقتصادية وانعكاساتها على الأسواق الوطنية والدولية، ووضع استراتيجية مستقبلية تحسب لظاهرة العولمة حسابها، والتفكير في ابتكار وسائل تمويل ذاتية بأقل تكلفة، وتحسين وضعية الشغيلة من خلال تقديم خدمات اجتماعية إليها ذات قيمة نوعية من تطبيب وتأمين وسكن لائق... إلخ- نجدهم على العكس من ذالك، لا يزالون يطالبون الدولة بامتيازات وإعفاءات ضريبية. وبمقارنة مقاولاتنا بمثيلاتها في الدول الصناعية الكبرى، نجد أن هذه الأخيرة لم تصل إلى المكتسبات التي تتمتع بها إلا بعد جهد جهيد ومسيرة طويلة قدمت خلالها الكثير من التضحيات. وهنا تحضرني قولة وجهها الرئيس الأمريكي الراحل جون ف. كيندي للأمريكيين: «لا تسألوا دائما ما الذي يمكن أن تفعله لكم بلدكم، بل اسألوا: ماذا يمكن أن تفعلوه أنتم لبلادكم». إن المشكل الذي يعاني منه مجتمعنا ويقف عائقا أمام تطوره ونمائه يرجع في أساسه إلى مسؤولية أولئك الذين قاموا بإفراغ حقوق الإنسان من محتواها وجوهرها الأساسي ألا وهو: الشعور بالواجب. إذ كيف سيتأتى لنا، مثلا، حق التعليم وحق التطبيب والعلاج وحق الشغل وصد العدوان الخارجي إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية، إذا تملص المواطن من أداء واجباته، وأهمها واجب أداء الضرائب. انطلاقا مما سلف، نستنتج أن أساس التربية أو التكوين الذي يتعين علينا أن نلقنه لناشئتنا هو إيقاظ الشعور بالواجب في دواخلها وبعث روح الانتماء إلى الوطن بين جوانحها، ولن يتأتي هذا إلا بتعبئة المواطن من خلال تأطيره داخل تنظيمات سياسية ديمقراطية وتشجيعه على الانخراط في العمل الجمعوي. هذه التنظيمات التي يتوجب أن تعيد النظر في طرق اشتغالها والتفكير في ابتكار وسائل جديدة أكثر إقناعا وذات فعالية من أجل إعادة المصداقية إليها، حتى تعود الثقة إلى النفوس وينخرط الجميع في معركة البناء على ضوء برنامج ديمقراطي حداثي تحت قيادة عاهلنا الشاب.