منذ سنوات الشباب ونحن نسمع مرارا وتكرارا أن المواطن لا خيار له من التعاطي للسياسة وممارستها. فقد أكد لنا آباؤنا وإخواننا الكبار وأساتذتنا في الثانوية والجامعة أن الإنسان، كيف ما كان موقعه الاجتماعي، فإما أن يمارس السياسة أو تمارس عليه. كما بين التاريخ أن تطور المجتمعات قد ارتبط بمستوى تحويل كل أفراده إلى فاعلين سياسيين ولو بدرجات متفاوتة. كما عبرت مراحل التاريخ الإنساني عن الاستمرارية في تطور الفكر والفعل السياسيين وازاهما تطور للأنظمة السياسية بإيديولوجيات مختلفة ومتباينة، إلى أن أصبحت كلمة «الديمقراطية» مفهوما شائعا وأساسيا في العمل السياسي وجزءا من كيان الحضارة الإنسانية. فهي مصطلح سياسي يوناني الأصل ويعني حكم الشعب، وان الشعب مصدر السلطات، وقد ظهرت في الغرب كرد فعل للاستبداد والظلم والدكتاتورية. وبمعنى آخر، الديمقراطية أسلوب من أساليب الحكم يقوم على الرأي العام، وإنه نظام يستلهم شكله من رأي الأمة ويطبق في المجتمع الذي يتمتع بإرادة تضمن له الحد الأعلى من الحقوق والحريات الفردية والجماعية. وأمام الاعتراف بالديمقراطية كأسلوب عالمي لتنظيم الحكم والمجتمع وكتتويج لتطور الفكر السياسي الدولي، يتبادر إلى الذهن مباشرة دور المثقف في تطوير هذا الأسلوب وطنيا ودوليا وتسخيره لخدمة الصالح العام. وعليه ارتأينا في هذا المقال الإسهام في مناقشة مفهوم وحال الديمقراطية في السياق المغربي (1) والأدوار الممكنة للمثقف من أجل تطويرها وتثبيتها (2) . 1 مفهوم وحال الديمقراطية في السياق المغربي إن ما عرفه المغرب من تراكمات سياسية منذ بداية التسعينات (بداية مسلسل التوافق السياسي)، جعل المغاربة لا يهتمون إن كانت كلمة «الديمقراطية» حديثة أو قديمة، بل ما يهمهم هو ما تعنيه. إضافة إلى ذلك، أقر معظم الأدباء والمفكرين والسياسيين وغيرهم ممن تمسهم هذه الكلمة من قريب أو بعيد، أن ليس في مفهوم «الديمقراطية» ما يعاب، إذا ما تعاملنا معه بموضوعية وإخلاص ونزاهة فكرية. وكلمتي «إخلاص» و»نزاهة» يعنيان استعمال المفهوم لتطوير العمل السياسي وتسخيره لخدمة القضايا الإنسانية ومواجهة كل النيات التي تستعمل كل الآليات لتوظيف الديمقراطية بشكل يتناسب وأهواء ورغبات الأقليات بالاقتصار على تكريسها على مستوى الخطاب للإفلات من لوم اللائمين. كما أن الانتقال من استعمال الديمقراطية كآلية لتضليل العقول والاستهزاء بالآخرين والازدراء بآرائهم إلى استعمالها من أجل التطور الحضاري يستدعي الاعتراف بها كبنية أساسية للحضارة. ونعني بالحضارة على هذا المستوى البنية الصحية التي تعمل وتساعد على ولادة الديمقراطية الحقيقية. إنها الرحم الطبيعي الذي تنمو داخله من المرحلة الجنينية إلى مرحلة النضج. وعليه، فمستقبل ديمقراطيتنا، التي تجاوزت فترة الجنينية، أصبح من أولويات انشغالات كل الفاعلين ببلادنا. فإذا استبشرنا خيرا كون حضارتنا المغربية تمكنت من إنجاب مفهوم «الديمقراطية»، فإن المغاربة يطمحون إلى تنميتها وتطويرها للحيلولة دون إجهاضها. وهذا يستدعي بالطبع إيمان الأم (الحضارة المغربية) بأن عليها تسليم زمام الأمور لولدها (الديمقراطية) لتمكينه من أن يصبح آلية حقيقية ووحيدة لتحقيق تطور المجتمع المغربي، وأن هذا التسليم إنما هو حق مسلم لذلك المولود، خاصة وأن حياة وبقاء الأم يبقى مرهونا ببقاء ونضج ولدها. ومن أجل ذلك، يبقى من واجب كل الفاعلين في مختلف مستويات المسؤولية المؤسساتية والسياسية والمدنية العمل على تحويل ديمقراطيتنا الدستورية إلى مجموعة من القيم والوسائل والآليات الثابتة التي تمكن من حماية التعددية السياسية، واحترام الرأي الآخر، وتداول السلطة، وحريات التعبير والتنظيم، والمساواة بين المواطنين بغض النظر على الانتماء القبلي والعرقي والطبقي، وحرية الانتخابات،... وموازاة مع هذه المطامح، تعيش ديمقراطيتنا إشكالات وظواهر تهدد تطويرها وعلى رأسها ظاهرة سلطة المال والفساد والتي سيطرت على سلطة الأفكار. ونظرا لاستفحال هذه الظواهر، أصبح المتتبعون في السنوات الأخيرة يتكلمون عن تطوير ما يسمى بظاهرة «الديمقراطية الرقمية» على حساب الديمقراطية السياسية والاجتماعية كقيمة مجتمعية وكوسيلة للتغيير والإصلاح والتقدم. والغريب أن تطور هذه الظاهرة بالمغرب يندرج في سياق دولي يجعل من الديمقراطية وسيلة ضرورية للاستمرار في تراكم مقومات الرقي والازدهار المجتمعي. كما تزامن هذا الوضع مع الحسم الدولي في المسألة الديمقراطية كآلية وحيدة للعمل السياسي الوطني والدولي. لقد تأكد من خلال أحداث التاريخ المعاصر كون الدول التي تمكنت في القرن الماضي من تحقيق التغيير والتقدم المادي من دون ديمقراطية (ألمانيا الهتلرية، اليابان، الإتحاد السوفيتي سابقا،...)، لم تستطع أي منها أن تضمن استمراريتها بنفس النهج. لقد تأكد اليوم أن الإرث السلبي الثقيل الذي راكمه المشهد السياسي المغربي منذ الاستقلال إلى مطلع التسعينات جعل الديمقراطية تعاني اليوم من صعوبة التأصيل والتثبيت. وبالرغم من ذلك، لا أحد ينكر أن الدولة المغربية قد قررت الانفتاح السياسي منذ 1990 وأصبحت منذ ذلك الديمقراطية مقبولة كشعار ومرغوبة في سياق توافقي أكد فاعلوه ضرورة تطويرها كأسلوب وطني لممارسة السلطة والحكم في البلاد. فبالبرغم من المجهودات والعناء والمعاناة التي تحملها عبد الرحمان اليوسفي وحكومته (البداية التاريخية الرسمية لتحيق التناوب التوافقي في الحكم) وما تلاها من إصلاحات قانونية وتشريعية ومبادرات وطنية مختلفة، لم يكتب بعد للديمقراطية أن تصبح قيمة متأصلة لدى الفرد المغربي، ولم ترق بعد إلى مستوى اعتبارها حاجة يحس بها المواطن كما يحس بالحاجة إلى المأكل، والملبس، والمسكن. لا زال المجتمع المغربي لم يع بعد أن وضعه المجتمعي والاقتصادي جد مرتبط بأسلوب الحكم وبمدى قدرته على النضال من أجل حقه في الديمقراطية كما يطالب بالأكل إذا داهمه الجوع، أو الملبس أو المسكن إذا لم يتوفر على الوسائل الضرورية لتوفيرهما. لم نصل بعد إلى هذا المستوى ، لكنني أعتقد أنه يجب أن لا ننسى أن الدولة بفاعليها الشرفاء المؤسساتيين والحزبيين والنقابيين والمدنيين قد حققت تقدما كبيرا مقارنة مع ما قبل 1998 . يتبع