منذ طفولتنا ونحن نسمع العبارة التالية "من علمني حرفا صرت له عبدا". وعلى عكس ما يتوهمه التقليديون الرجعيون، كلمة "حرف" لا تعني هنا الحرف في حد ذاته بل تعني العلم. وعبارة "علمني حرفا" ليست مرتبطة بالحفظ الفقهي وما ينتجه من سلوكيات الطاعة العمياء للمفهوم السطحي للمحتوى العلمي، بل تعني تلقين العلم واستيعابه عقليا مع ضرورة طرح الفرضيات في شأن الإشكاليات غير المبررة علميا، وفتح المجال للبحث التجريبي والاجتهاد العقلي لتطوير المعرفة عبر الأزمنة. إنه مسار لا نهاية له بدأ مع آدم عليه السلام ولن ينتهي إلا يوم البعث. والعبارة في مجملها تبرز قيمة التعليم والعلم إلى درجة تجعل المتعلم يحس أمام من علمه علما نافعا بالاحترام التام وتجعله كذلك يتذكر دوما البصمات العلمية للمعلم في حياته. وإلى جانب ذلك، تترك المؤسسات التعليمية من الابتدائي إلى العالي ذكريات جميلة في حياة المتعلم إلى درجة تجعله يطمح في تكريمها سواء عبر تأسيس جمعيات أو مجموعات عبر الانترنيت لقدماء تلامذة أو طلبة المؤسسة الأكثر تأثيرا على مساره العلمي وعلى تكوين شخصيته. وعندما نقرأ الكتب الفكرية والعلمية وتأثير محتواها وخلاصاتها على تطوير حياة الإنسان، يتبادر إلى ذهننا مباشرة أن وراء ذلك المدرسة والمدرس. وعليه، لا أحد يمكن له أن يجادل كون المنظومة التعليمية بمنطقها ووسائلها تتحمل مسؤولية كبيرة في النهوض بالشعوب والمجتمعات لكونها تلعب أدوارا جوهرية في تكوين شخصية أفراد المجتمع. إنها المصباح الذي ينير العقول ويطور العقليات ويضمن النجاعة في الفعل الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي. ونظرا لأهمية التعليم في حياة الأفراد والجماعات، يبقى من واجب المثقفين والمفكرين والمتتبعين ورجال التربية والتعليم التأمل في وضعه، وتاريخه، وحصيلته، وآفاقه ورهاناته ومن تم اقتراح الأفكار والخطط والتساؤلات المرتبطة بإصلاحه وتحويله إلى جسر متين يمكن المغرب من المرور من فصيلة الدول النامية التقليدية إلى مصاف الدول الديمقراطية الحداثية. بالطبع، وضع تعليمنا لا يبشر بالخير. فبالرغم من الأهمية القصوى التي عبرنا عليها أعلاه، طرح مشكل التعليم باستمرار كمشكل مزمن، مشكل احتل دائما الصدارة ضمن مجموعة من المشاكل التي لم يكتب لها أن تحضى لعقود مضت بإرادة سياسية لتصحيحها بعيدا كل البعد عن الحسابات السياسية. لقد عاش المغرب مبادرات وإجراءات كثيرة منذ الاستقلال لكن بدون أن تلمس الأبعاد العميقة لهذه الأزمة الدائمة. وعندما نتكلم عن الأبعاد العميقة نقصد بذلك توضيح علاقة المنظومة التربوية والتعليمية بالمنطق السياسي. إن التعليم يعتبر مجالا حيويا ومشتلا خصبا لترسيخ منطق سياسي معين واختيارات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية معينة. وفي هذا الصدد، قال المفكر محمد عابد الجابري في كتابه "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب" سنة 1985 (الطبعة الأولى سنة 1973) أن التعليم يتضمن في جوفه، من خلال تطوره، أبعادا سياسية، واجتماعية أثرت وتؤثر وستؤثر، لا على الثقافة والتعليم فقط، بل على مجموع المشاكل الأخرى على اختلاف أنواعها، وتفاوتها في الأهمية والخطورة". وعليه، فلهذا المشكل جذور لها تاريخ ميلاد ونشأة، وتطور بعد ذلك ونمى إلى درجة أصبحت كل المبادرات لإصلاحه مجرد مبادرات سطحية لا جدوى منها لأنها لا تستحضر بوضوح تام المنطق السياسي في مجمله. فما يعيشه قطاع التعليم من مظاهر ومعضلات يصعب فهمها بدون الرجوع إلى الوراء والوقوف بتأمل على تاريخ نشأة وولادة المشكل الذي أصبح مزمنا فيما بعد. إن خلق منظومة تعليمية ناجعة وسليمة لا ترتبط باتخاذ إجراءات تقنية مستعجلة، بل تتطلب تعميق التفكير في أصل المشكل من خلال ربط مظاهره الآنية بالماضي. فإضرابات الطلبة والتلاميذ مثلا، ورد فعل المسئولين، والنتائج الهزيلة التي تسفر عنها الامتحانات، والمستوى العام الآخذ في الانخفاض، ومظاهر العنف والاتجار وتناول المخدرات التي تعرفها المؤسسات التعليمية، والتعاطي لدروس التقوية التي أصبحت موضة تتباهى بها العائلات، ... كلها ظواهر ناتجة عن منطق منظومتنا التعليمية، المرتبط ارتباطا وثيقا بالمنطق السياسي العام. وفي هذا السياق، قال الجابري في كتابه السالف الذكر:"إن المعطيات الأساسية، الجوهرية، التي يعاني منها تعليمنا الآن (1973)، بل بلادنا وشعبنا، إنما نقرؤها، بوضوح، من خلال تعرية جديدة لجذوره، وكشف واضح عن الإطار الذي نشأ فيه وبقي يتحرك في حدوده.. إن الإرادة في الإصلاح لن تكون مجدية إلا في حالة الرجوع إلى تحليل وتشريح الأسس التي قام عليها تعليمنا الحالي، ومضمونها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي". إن ما كتبه المفكر العروي بشأن منطق الازدواجية "الأصالة/المعاصرة" ذات المفهوم التقليدي في مجال السياسة كمقابل لازدواجية "دولة المخزن/دولة الحماية" في كتابيه "السنة والإصلاح" و"من ديوان السياسة"، أشار إليها المفكر عابد الجابري في كتابه السالف الذكر في مجال التعليم. لقد أكد هذا الأخير أن التعليم القائم في المغرب المستقل ما هو إلا امتدادا واستمرارا لنوعين رئيسيين من التعليم: تعليم وطني، تقليدي، أصلي، والذي كان قائما قبل الحماية، وحافظ على وجوده مضمونا وشكلا، وتعليم استعماري أقامته الحماية لأبناء المغاربة، حافظ هو الآخر على مضمونه ووجوده مضمونا وشكلا. وبالرغم من إدخال بعض التعديلات وبعض التغييرات في هذين الصنفين، فقد بقي الإصلاح سطحيا لم يبرح إطار الهيكل الأصلي لكل منهما، ولم يتجاوز إطار البنية العامة التي نشأ فيها. لقد أكدت صفحات التاريخ أن الدولة قبل الحماية كانت تحرص كل الحرص على تكريس التقليد والنقل ومحاربة كل ما له علاقة باستعمال العقل كالفلسفة وعلم الكلام. فجامعة القرويين، كأبرز مؤسسة تعليمية آنذاك والتي كانت خاضعة لنظام "الخبزة"، أعطت صورة منحطة وبائسة للمنظومة التعليمية. ولوصف هذا الوضع البائس، لن نجد أحسن مما قاله الجابري في نفس الكتاب:" أما الدراسة فهي أقوال مكررة معادة باستمرار، لن يفوتهم منها شيء سواء تغيبوا اليوم أو غدا، أو انقطعوا عاما أو عامين، لم يكن للزمان حساب يومئذ، وبالتالي لن يكون للإحصاء أي مدلول أو مغزى: فالطلاب هم أنفسهم طوال سنوات قد تمتد إلى العشرين والثلاثين بل وإلى الخمسين. إن الشيء الوحيد الذي كان يتغير هو سحناتهم وملامحهم: شبابا، فكهولا، فشيبا". المهم في هذا الأمر، هو ما مورس على هذه المؤسسة من رقابة صارمة من طرف المخزن آنذاك حيث يتم تعيين الأساتذة واختيار المقررات والبرامج بعناية فائقة. ففي عهد المولى محمد بن عبد الله (1757-1790)، تم إصدار ظهير يحدد بدقة المواد التي يجب دراستها والمواد التي يجب تركها، والكتب التي ينبغي الاعتماد عليها. لقد تضمن هذا الظهير عبارة في غاية الأهمية والتي تبين حرص النظام السياسي على تكريس التقليد ومحاربة ما عدا ذلك:"إننا أمرنا بإتباعها والاقتصار عليها، ولا يتعداها إلى ما سواها". لقد كان واضحا حرص الدولة التقليدية على محاربة استعمال العقل في المنظومة التعليمية الأصيلة. ويتضح ذلك في عبارة ثانية وردت في نفس الظهير:"ومن أراد أن يخوض في علم الكلام، والمنطق، وعلوم الفلاسفة، وكتب غلاة الصوفية، وكتب القصص، فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون. ومن تعاط ما ذكرنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه". واستمرت هذه المؤسسة على هذا الحال إلى حدود إعداد فرنسا للترتيبات الخاصة بالتعليم في إطار عقد الحماية. وعند دخول هذا العقد حيز التنفيذ، وخوفا من انتشار التأثيرات المشرقية والتفكير في الهجرة إلى المشرق للدراسة، تم إقرار تجديد هذه الجامعة بإدخال "إصلاحات" جزئية. وفي هذا الصدد، قال المسيو مارتي في كتابه "مغرب الغد" :"يحب أن نعمل على تجديد القرويين لأنه إذا لم نفعل ذلك نحن، فإن هذا التجديد الذي تفرضه الظروف سيتم بدوننا وضدنا.. لذلك وجب الاحتفاظ في المغرب بهؤلاء الشبان النازحين من عائلات مرموقة، بدل تركهم يذهبون إلى الشرق لتلقي العلم الذي ستحرمهم منه القرويين في حالة عدم تجديدها. وبخصوص تساؤله بشأن ماذا يمكن أن يأتي به هؤلاء الشبان من الشرق؟، أجاب بسؤال آخر"ألا يعودون مزودين بميول انجليزية أو بروح النهضة الإسلامية والتعصب الوطني؟". ومما سبق نستنتج بما لا يفيد الشك أن التعليم والتربية بالعقل يثيران تخوف السلطات السياسية. فململة العقل، ومحاولات الخروج من وضعية التنويم المفتعل للعقول يهددان باليقظة وخلق المفاجئات، التي بإمكانها أن تتحول إلى مكاسب تنموية في حالة توفر شرط الديمقراطية والحرية، وإلى الخوف من العصيان في حالة استبداد النظام السياسي. وبعد الاستقلال، ورث المغرب السياسي نتائج منطق الحماية، منطق توج بتوحيد البلاد، وإخضاع بلاد "السيبة" للسلطة المركزية، والحفاظ على الازدواجية التي تكلم عليها المفكر عبد الله العروي "الأصالة التقليدية/المعاصرة السطحية". أي أن هذه الازدواجية لم يتم بناءها في مجال التعليم بمنطق "تعليم أصيل/تعليم عصري"، بل ورثت البلاد تعليما عتيقا منحطا ولم يقتصر التعليم الحديث إلا على اليهود المغاربة، الذي نجد لديهم فعلا مدارس عصرية حديثة كأساس قام عليه التعليم الإسرائيلي في المغرب. وحسب الدكتور محمد عابد الجابري، فهذا التعليم قديم جدا ويرجع تاريخه بالمغرب إلى سنة 1864 ميلادية. وبذلك يتضح جليا أن للتعليم دور كبير في تكريس منطق سياسي ما. فبتحديثه تتوفر شروط تحديث المجتمع، وبتأزمه تتفاقم حدة تأزم المجتمع وتخلفه. بالتعليم الصحيح الحداثي تقوى النفوس والأبدان وتتفتح العقول وتعم الحرية والديمقراطية. ولتبيان دور التربية والتعليم في تقوية المجتمع والدولة، ألقى المسيو هاردي، مدير التعليم بالمغرب زمن الحماية، خطابا وجهه لجماعة من المراقبين المدنيين بمكناس سنة 1920، قال فيه:"منذ سنة 1912، دخل المغرب في حماية فرنسا، ولقد أصبح في الواقع أرضا فرنسية، وعلى الرغم من استمرار بعض المقاومة في تخومه، تلك المقاومة التي تعرفون انتم وإخوانكم في السلاح مدى ضراوتها، فإنه يمكن القول أن الاحتلال العسكري لمجموع البلاد قد تم. ولكننا نعرف، نحن الفرنسيون، أن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل: إن القوة تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان. وإذا كانت هذه المهمة أقل صخبا من الأولى، فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الغالب وقتا أطول" (ورد هذا الخطاب في كتاب الجابري السالف الذكر). وحسب نفس الكاتب، من أجل تحقيق منطق هذا الخطاب، تمت ملائمة أنواع التعليم حسب الفئات الاجتماعية المكونة للبلاد. وهكذا استفادت النخب الاجتماعية (الأعيان) من تعليم تطبيقي يهدف إلى تكوينها تكوينا منظما في ميادين الإدارة والتجارة، أما التعليم الموجه لجماهير المدن الكادحة وجماهير البادية المتخلفة فكان يقتصر على المهن اليدوية حسب الوسط الاقتصادي مع جعل اللغة الفرنسية لغة ستمكن من ربط التلاميذ بفرنسا وتاريخها. بهذا المنطق، اقتصر هدف فرنسا في تكوين نخب الأعيان لمساعدتها على تدبير شؤون البلاد التجارية والإدارية وضبط الأمن العام (دور الوساطة الضيقة)، وإخضاع قوة عمل عامة الشعب لمنطق خدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية. وفي نفس الوقت تم الاستغناء عن التعليم الأهلي لأن فرنسا كانت تعتبره منبعا للاضطراب الاجتماعي (صنع رجال صالحين لكل شيء ولا يصلحون لأي شيء، مهمتهم تنحصر في المطالبة). بهذا المنطق المدروس، تمكنت فرنسا بملائمة التعليم لمصالحها من خلال قيامها بتشخيص للطبقات الاجتماعية وتسخيره لخدمة مصالحها الاستعمارية (جماعات دنيا نصف مستعبدة، الشعب المكون من الفلاحين، ورعاة، وعمال منتظمون في اتحادات مهنية أو غير مهنية، وهناك البورجوازية التجارية والقروية، وفي أعلى السلم هناك "رجال المخزن" الذين يديرون البلاد، و"رجال الدين" الشرفاء، والعلماء، والمتصوفين، وأصحاب الزوايا( ومن أجل تحقيق أهدافها كاملة، حرصت سلطة الحماية على إبعاد النخب المغربية عن الأفكار الغربية العلمانية، وذلك من خلال اتخاذ إجراءين مهمين أولهما الإبقاء على الشباب في المغرب وعدم السماح لهم باستكمال دراستهم في الخارج إلا إذا كان الأمر يتعلق بطلاب الشعب العلمية والتقنية، وثانيهما، الحفاظ على الروح الدينية في المدارس الثانوية والخاصة بالمغاربة. إنه إجراء يراد به إبقاء المثقفين المغاربة في إطار وضعيتهم التقليدية تجنبا لإدخال الفكر الحداثي للمدارس وما من شأنه أن يحدث من ثورات في المجتمع المغربي (خلق شروط استمرار الفكر الديني التقليدي السائد). وبعد أكثر من خمسين سنة عن استقلال المغرب، أعتقد أن مشكل التعليم لا زال يحتفظ براهنيته. وبالرغم من محاولات عديدة لإصلاحه، والتي توجت بالميثاق الوطني للتربية والتكوين وما واكبه من إصلاحات إدارية وهيكلية مهمة، لا زالت التقارير تصنف المغرب في مراتب متأخرة لا تليق بموقعه الجغرافي، وتتناقض مع الإرادة السياسية لبناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. حسب تقديرنا الخاص، فالمجهودات المبذولة لتحديث وتطوير المنظومة التعليمية لا زالت بعيدة عن عتبة متطلبات القرن الواحد والعشرين ولم تلمس عمق الإشكالات المتراكمة. فتقييم نتائج "أجرأة" الميثاق السالف الذكر من طرف الباحثين، والتي تم نشرها في تقرير الخمسينية كان سلبيا. الإشكاليات ذات الأولوية بقيت مطروحة وبدون معالجة: العلاقة بين التربية والتعليم والاقتصاد لا زالت مختلة، وبرامج ومخططات محو الأمية لم يكتب لها النجاح، والمدرسة المغربية بقيت على هامش اهتمامات المجتمع والأسر، وعلاقات الفاعلين في الحقل التربوي لا زالت تشكو من الضبابية والغموض. فموازاة مع المجهودات في مجال تعميم التمدرس، تشكو المدرسة من نسب عالية من الهذر المدرسي، وضعف المستوى التعليمي للتلاميذ، وارتفاع نسب التكرار خاصة عند بلوغ المستويات المفصلية بين الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، والجامعي. إجمالا، ما قامت به الدولة في مجالات تطوير الموارد البشرية، والمادية، والمالية (إضافة 7000 منصب شغل إضافي للتدريس، الزيادة في الميزانيات السنوية، وتطوير الجوانب البيداغوجية بمراجعة المناهج والبرامج، نهج حكامة لا متمركزة جهويا وإقليميا ومحليا،...) لم يتحول إلى دعامات وأسس لخلق وتفعيل حكامة تربوية قادرة على الاستجابة لرهان التحديث والإسهام في الإسراع في وثيرة بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. في اعتقادي، رفع رهان التحديث يبقى مرتبطا إلى حد بعيد بمدى قدرة المنظومة التربوية على تعميم طرق وآليات التربية العلمية على كافة الفضاءات التربوية. إنه رهان خلق التقائية تامة ودائمة لكل المتدخلين في هذا المجال الحيوي من آباء، وأمهات، ومدرسين، ومنظمات المجتمع المدني لتحويل هاته الطرق والآليات والمناهج التربوية إلى دليل محفوظ بحكم الممارسة في أذهان كل الساهرين المباشرين وغير المباشرين عن تربية الأجيال. إنه في الحقيقة حلم تحويل حياة المجتمع إلى مسلسلات دائمة للتربية والتعليم والتكوين من خلال ضمان النجاعة العلمية لفضاءات التربية بشكل متزامن: في الأسرة، والشارع، والمدرسة، والإعدادية، والثانوية، والجامعة، والإدارة العمومية والخاصة، والحزب، والنقابة، والجمعية، والتعاونية،... في الحقيقة يبقى من العار أن نعيش في القرن الواحد والعشرين، زمن التدفق المعرفي، ظاهرة مغادرة الأطفال للمدرسة دون مؤهلات (400000 مغادرة سنة 2007)، وتفاقم ظاهرة التكرار، واستمرار ارتفاع نسبة الأمية، وبدون تعليم أولي عصري،... إن رفع تحدي إنجاح التأهيل والقدرة على التنافس يتطلب ترسيخ قيم المواطنة، والانفتاح، والرقي، وحرية الفكر، والتحصيل، والفكر النقدي، واحترام الاختلاف من خلال إعادة الاعتبار للمؤسسات والفضاءات التعليمية وتحويلها إلى آليات حقيقية للتنمية البشرية. وهذا لن يتأتى إلا من خلال تجاوز المنطق التدبيري الكلاسيكي واعتماد ثقافة التعاقد لتجديد الثقة في مدرسة للجميع، ومدرسة في صلب اهتمام الجميع. إن اتخاذ قرار تنصيب المجلس الأعلى للتعليم سنة 2006 عقب صدور تقرير البنك الدولي سنة 2005، ووصفه للوضع التعليمي في البلاد بالمزري في تقريره الأول حول إنجاح المدرسة (حصيلة متباينة : إنجازات حقيقية واختلالات ما تزال قائمة منظومة بأداء لم يرق بعد إلى مستوى الانتظارات إشكالية الحكامة على مختلف المستويات انخراط المدرسين أمام ظروف صعبة لمزاولة المهنة نموذج بيداغوجي أمام صعوبات الملاءمة والتطبيق الموارد المالية وإشكالية تعبئتها وتوزيعها مسألة التعبئة والثقة الجماعية في المدرسة)، لا يمكن أن يعبر إلا على شفافية الدولة في تعاطيها مع هذا المشكل المزمن. انه اعتراف بتعقيد الوضع التعليمي في البلاد نتيجة ثقل التراكمات السلبية منذ القدم وحاجته إلى إصلاحات حقيقية ومستعجلة. إن تعبير جلالة الملك محمد السادس عن قلقه بشأن السياسية التربوية والذي دفعه إلى اعتبار المسألة التعليمية هي القضية الأولى بعد قضية الوحدة الترابية، أبان بالواضح على أهمية ودور هذا القطاع في بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي يريده جلالته. لقد كان خطاب العرش سنة 2007 حاسما في اعتبار التعليم والتربية من الأوراش التي ينبغي أن تحضى بالأولوية، أولوية تحتاج إلى إجراءات مصاحبة في المجال الصحي (الرفع من نسبة التغطية الصحية)، وتنمية الدخل الفردي. إنه رهان الرفع من مستوى المؤشرات الثلاث التي تعتمد عليها المنظمات الدولية لترتيب البلدان في مجال التنمية البشرية. وأمام هذا الاهتمام البالغ بالقضية التعليمية، جاءت الحكومة الحالية بخطة للتدخل تميزت عن ما سبق من محاولات الإصلاح بابتداع مصطلحين بارزين ألا وهما مصطلح "الاستعجال" ومصطلح "التنزيل". وتلازم هاذين المصطلحين في هذه الفترة بالذات، أعطانا انطباعا وكأن وزير التعليم استغل الطابع الإستعجالي كذريعة لفرض التنزيل. وفي انتظار النتائج الإستعجالية والتي أعتقد، في حالة تحقيقها، أنها لتربحنا بعض الوقت لفتح المجال لبلورة مخطط على المستوى المتوسط والبعيد، نكتفي في هذه المرحلة بالتنبيه أو التذكير، من باب المسؤولية الوطنية، أن المخطط الاستعجالي المنزل قد تجاوز المبادئ الموجهة من أجل أثر أقوى وأكثر استدامة للإصلاح التي ركز عليها المجلس الأعلى للتعليم وخصوصا المبدأ الثاني الذي يؤكد على التطبيق المتناسق للمقاربة التصاعدية، المنطلقة من المؤسسة والمستوى المحلي (الجماعات المحلية) إلى المستوى الجهوي والوطني، في رسم الأهداف والتخطيط ورصد الموارد اللازمة. لقد فرض الاستعجال خلق هيئة قيادية، ومنسقيات وطنية بعدد المشاريع، وفرق عمل مركزية وجهوية، بالموازاة مع الهياكل الإدارية الموجودة وما تزخر به من تجارب وخبرات، لأجرأة تنزيل المخطط. ولكي لا نكون متشائمين، وفي انتظارنا لما سيأتي من إصلاحات، لن نتجرأ منذ البداية بوصف منطق الإصلاح ب"منزلة بين المنزلتين" كما ورد في كتاب المفكر عبد الله العروي "من ديوان السياسة". ولكن، يبقى من واجبنا أن ننبه كذلك أن حلم تحقيق تلاحم فعلي ودائم للدولة بالمجتمع قد أنهكته وضعية "المنزلة بين المنزلتين" في كل شيء. لقد عاش المغاربة يتخبطون في زخم التطورات العالمية بشخصية مركبة كما قال "بول باسكون". عاشوا كمجتمع شبه رأسمالي، وشبه إقطاعي، وشبه اشتراكي، وشبه حداثي،... إنها مخلفات منطق الازدواجية الديماغوجية التي صنعتها سلطة الحماية وكرسها النظام المخزني ما بعد الاستقلال. وأمام ما استوعبناه من إشارات ايجابية تعبر عن إرادة الدولة في العهد الجديد لتحديث نفسها وتحديث المجتمع، وما تتبعناه من تسخير للمال العام لخدمة الطبقات الشعبية المهمشة (محاربة الفقر والهشاشة)، ومن ترتيبات تدخل في مجال إصلاح الشأن الديني، نعيد طرح إشكالية تفكيك وإعادة بناء أصالتنا وهويتنا عبر بوابة التعليم والتربية هذه المرة. وللتذكير فقط أننا قد سبق لنا أن تطرقنا لهذا الموضوع في مقال سابق على صفحات هذه الجريدة تحت عنوان "في الحاجة إلى بناء أصالة معرفية في خدمة الحداثة في مغرب القرن الواحد والعشرين". وعندما نطرح هذه الإشكالية، نطرح بالموازاة بعض النقط المصاحبة التي نعتبرها مقدمات لفتح النقاش في هذا الشأن: · النقطة الأولى: عندما نتكلم عن مسألة البناء الفكري والمعرفي للأصالة المغربية لدعم الحداثة لا نعني بذلك دعوة إلى "التوفيق" بين القديم والجديد، بين "الأصالة" و"المعاصرة"، بل نعني بذلك القيام بغربلة علمية وفكرية للتراث الموروث وتسخيره لبناء شخصية مغربية حداثية قوية ومندمجة عالميا. · النقطة الثانية: إثارة قضية "الأصالة والمعاصرة" لا يجب اعتبارها إشكالية رئيسية ستستبد بتفكيرنا الحديث والمعاصر. · النقطة الثالثة: إن الأصالة والمعاصرة مفهومان لا يتعارضان، ولا يجب أن نضع الأولى مقابل الثانية كضد أو نقيض من باب احترامنا للتاريخ وحركة الفكر. · النقطة الرابعة: يجب الحسم اجتماعيا مع من يعتبرون التراث الموروث بكل أشكاله "سيدا" علينا معتمدين على كل الوسائل لتنويم المجتمع و"سجنه" فيه. · النقطة الخامسة: إن القيام بعملية تفكيك وإعادة بناء الحاضر بقديمه وجديده بمستوييه المادي الاجتماعي والروحي الفكري بطريقة منهجية علمية سيؤدي إلى اختفاء قضية "الأصالة والمعاصرة" بشكل نهائي. ستندثر نهائيا كل نوازع الهروب إلى الوراء بدعوى الأصالة، والفرار إلى الأمام بدعوى المعاصرة. · النقطة السادسة: أمام ما تعيشه المنظومة التعليمية من مصطلحات جديدة ك"الاستعجال"، و"التنزيل"، و"منسقيات عمل مركزية جديدة"، وغزارة "المذكرات الوزارية"،... ، ندعو، في حالة ما إذا مكننا المخطط الاستعجالي الحالي من ربح الوقت اللازم، إلى فتح ورش دمقرطة التعليم عبر التعبئة الشاملة في التخطيط والإنجاز، ومن تمكين أبنائنا من الحصول على حد أعلى ممكن من الثقافة العامة الوطنية، ومن التباري الديمقراطي الشفاف من أجل الولوج إلى مختلف التخصصات، ومن الحرية في اختيار التوجهات السياسية والفكرية، ومن اكتساب المهارات التقنية والفكرية والفنية والمهنية، ومن ممارسة السياسة وإفادة الوطن، والاستفادة من خيراته في إطار احترام مبدأ "تساوي الفرص". وفي الختام نقول أن دافعنا الأساسي لطرح الإشكالية السالفة الذكر، واستحضار النقط أعلاه، لا يمكن أن يخرج عن نطاق أملنا الكبير في خلق التقائية وطنية لكل المساعي الرسمية وغير الرسمية لبناء نموذج مجتمعي مغربي وعربي وإسلامي يعالج كل الثقوب السوداء التي أحدثتها الأصوليات المعاصرة في ذاكرتنا. إنها دعوة للقيام بمعالجة عقلية طريفة للتراث والدين قائمة على مكاسب العقل الحديث وصورة المجتمع المدني وبخاصية مبدأ الحرية وأخلاق المواطنة الكونية، ولعقلنة منظومتنا التعليمية والتربوية بشكل تمكن أبناءنا والأجيال القادمة من الاستفادة من فضاءات تربوية تستجيب لمتطلبات العصر، وقادرة على رفع تحدي حماية قيم الحداثة والتقدم بشكل دائم.