1 - مقدمة لم يهتم دين من الأديان السماوية أو مذهب من المذاهب التي عرفتها البشرية بالفرد الذي ينتمي إليها، كما اهتم الإسلام بكل ما أتيح له أن يكون له من أتباع هذا الدين العظيم، هذا الدين الذي حرص على أن يحمل دائما راية التوجيه والرعاية والعناية بأبنائه، كما حرص على أن يكونوا دائما في أرفع المستويات الإنسانية من حيث صحة الجسد وسلامة العقل وطهارة الروح؛ دين يستهدف رفع المستوى المادي والروحي للجماعة الإنسانية، عن طريق تنظيم اجتماعي مرتبط بالسماء ارتباط المخلوق بالخالق، وبمفاهيمه الخاصة التي تختلف عن مفاهيم المبادئ الأخرى في قليل أو كثير فله نظريته حول الفرد وحول المجتمع وله نظمه للحكم وقوانينه. والإسلام دين الحياة يتناول بتعاليمه جميع مظاهرها وألوان النشاط فيها ويسعى لتحقيق فكرته الشمولية لسائر القيم المادية والمعنوية. ولا ينطبق مفهوم الإسلام على جماعة من الجماعات البشرية إلا إذا حكمت هذه الجماعة الإسلام في كل مرافق حياتها: في مالها وسياستها، في تشريعها وقوانينها، في علاقتها الخارجية وارتباطاتها الدولية بل إن هذا يعطي للعبادة في الإسلام مفهوما شموليا يعني كل خدمة اجتماعية من شأنها أن تقدم المجتمع وتساعد على رقيه وتقدمه. 2 - عناية الإسلام بالطفل: ما من فترة في تاريخ حياة الفرد لها أثرها الخطير في صياغة شخصيته مثل فترة الطفولة، فإن النفس في هذا الطور من الحياة، أشبه ما تكون بالصلصال الطري، الذي يستجيب لأصابع الخزاف، وهي، من ثم أكثر تقبلا للمؤثرات الخارجية التي تحدد ما إذا كان الطفل سيغدو سوي النفس أو غير سويها، في أطوار حياته التالية. فإن النماذج الأساسية للسلوك التي تتطور في هذه المرحلة، تنحفر في أغوار النفس بحيث يستحيل محوها - وإن أمكن تعديل تفاصيلها على مر السنين - وبحيث تؤثر على نحو أو آخر في كل ما يطرأ على الشخصية بعد ذلك. والجدير بالذكر أن الكتب السماوية على اختلاف مذاهبها توصي برعاية الطفل وحمايته. ففي القرآن الكريم أكثر من خمس عشرة آية تفرض على المؤمنين ذلك. كما أننا نجد استنكارا صارخا لبعض العادات الاجتماعية المستهجنة التي سادت في الجاهلية. مثال ذلك الآية الكريمة القائلة: «ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا» فمن هذه الآية وغيرها يتبين لنا جليا أن القرآن الكريم جاء ليعالج خللا اجتماعيا لم تنجح الغريزة في تقويمه. وهكذا قامت التعاليم الدينية قبل القوانين الاجتماعية في الدول المختلفة بالدفاع عن حقوق الأولاد إذا ما عجز أولياء الأمر أو المجتمع عن رعايتهم. ونجد أن الدين الإسلامي قد كفل للإنسانية حياة سعيدة بما احتوته رسالته السماوية من عدالة اجتماعية وقوانين تشريعية كان للطفل فيها النصيب الأوفر من الحقوق والواجبات على مجتمعه وأسرته؛ واعتنى الإسلام أشد العناية بالطفل فمنع كل استغلال لهذا الإنسان الضعيف وأوصى (بالترغيب والترهيب) برعايته وحمايته وتوفير أسباب السعادة والاطمئنان له. 3 - بناء المرأة في الإسلام: إن الدارس للحضارة الإنسانية وتطورها يجد أن المرأة مرت بمراحل قاسية ومتواصلة. إذ كانت المرأة في العصور القديمة تحتل في المجتمع مكانة مهينة سواء في الحضارة الرومانية أو اليونانية أؤ الهندية أو الصينية. وقد كتبت إحدى سيدات الطبقة العليا بالصين رسالة قديمة تصف فيها مركز المرأة، قالت: (نحن النساء آخر مكان في الجنس البشري ويجب أن يكون من نصيبنا أحقر الأعمال). إلى أن جاء الإسلام فكرمها وشرفها وأقر مكانها الذي يجب أن تكون فيه. فلم يجعل للزوج أي ولاية على زوجه في مالها أو رأيها أو لقبها إلى سائر مقومات أهليتها، وقرر إلى ذلك قاعدة التماثل في المعاملة بينها وبين الرجل على جميع المستويات. وقد وثب الإسلام بالمرأة إلى أبعد غاية من كمال النفس وسمو الحياة واتزان الأخلاق وأدب السلوك، فياضة النفس بما شاءت من الأدب والرفعة والعفة والصيانة والعز والشرف والكرامة، قدرها حق قدرها وكلفها بكل ما عليها وجعلها مسؤولة عن نفسها وعقيدتها وعبادتها وبيتها ومجتمعها، وفتح لها أبواب المثل العليا والقيم الأخلاقية الرفيعة حتى تصل إلى ذروة ما قدر لها من سمو ونجاح. ويقول الدكتور محمد عزيز الحبابي: «بلغت المرأة بفضل الإسلام، درجة عليا من التطور، ولئن كانت مجرد درجة وغير نهائية، فإنها درجة حاسمة. لقد حلت الفردية الدينية والشخصية الشرعية محل الاندماجية القبلية، فانفصل الفرد عن روح القطيع الجماعي، وأضحى ذاتا وموضوعا في اعتبار الفقه، إذ يتوجه الدين الى كل فرد من أفراد الأمة، ويهتم القرآن والسنة والفقه بالمرأة نفس الاهتمام بالرجل، إنها روح ديمقراطية جديدة» (1) 4 بناء الأسرة في الإسلام كانت الأسرة فيما قبل الإسلام مشتتة العناصر متقاطعة الأواصر لا يصلها رحم ولا تشفع لها قرابة. قد خيم عليها الحقد والبغضاء والتناحر. واعتنى الإسلام بالأسرة، لأنها الخلية الأولى في المجتمع، فشرع الزواج والطلاق، وفرض النفقة للزوجة على زوجها وللابن على أبيه، وللأب على ابنه وسمى عقد الزواج ميثاقا غليظا ووصفه بأنه علاقة مودة ورحمة. كما تكفل ببيان أحكام الأسرة مع الإشارة الى أسرار التشريع مفصلة تارة ومجملة أخرى في آيات وسور متعددة وأحاديث كثيرة من إرث ووصية ونكاح وطلاق، وبين أسباب الألفة ووسائل حسن المعاشرة وشيد صرح المحبة بين أفرادها على تأسيس حقوق معلومة في دائرة محدودة، وحدد مسؤولية الفرد نحو أسرته. وتأخذ الأسرة في الإسلام، في حدودها واتساعها، ونطاقها معنى واسعا، فهي تشمل الزوجين والآباء والأولاد والأخوة وأولادهم والأعمام والأخوال وأولادهم. والإسلام حريص على أن تكون الأسرة أول مدرسة عملية للطفل، فيها يتلقى سلوكه الباكر، وفيها يتلقى دروسه التطبيقية، لأن التربية البيتية تقوم بدور إيجابي وفعال وحاسم وأكثر فائدة، إذ هي الضمانة الوحيدة لقيام تربية تعاهدية، من حيث أنها تنطلق من موطن الخلية الأولى للوجود الإنساني، وأنها المثال النموذجي الذي يحتذى ويتخذ مقياسا للتربية الصالحة. كما أن بناء الإنسان في الإسلام لا يبدأ من بداية فترة الشباب أو المراهقة أو الطفولة، إنه يبدأ قبل ذلك بكثير، يبدأ منذ التفكير في بناء الأسرة، فالإسلام لا يغفل عما للوراثة والبيئة من أهمية في حياة الفرد ومستقبل الأمة، لأن التربية أعمق من التعليم وأشمل، فهي تعني عملية التغيير الموجه الذي يؤخذ به الطفل منذ صغره لتنمية مواهبه وقدراته واستعداداته الى أقصى حد ممكن ولتزويده بالاتجاهات والمهارات والخبرات حتى يستطيع أن يعيش سعيدا، وأن يواجه الحياة بنجاح، وأن ينفع نفسه ومجتمعه. ولهذا رفع الإسلام من قيمة الأسرة وأعلى شأنها وأقامها على أسس سليمة وبناها على دعائم قوية، وجعل لها كيانا مستقلا. 5 مسؤولية الفرد في الإسلام: الإسلام دين الديمقراطية الحقة، دين يدعو كل مؤمن الى أن يرفع رأسه عاليا وأن يعيش عزيز النفس، كريم الذات، عالي الهمة بالسلوك الحميد وليس بالتعالي والتفاخر بالأنساب والأموال. ذلك أن الضعيف قوي بالإسلام والفقير غني بالاسلام. كما يولي عنايته القصوى بالقدوة الصالحة السليمة لما لها من أثر بالغ في بناء الشخصية الفردية وتكاملها. فالفرد في نظر الإسلام هو في مجتمعه الإسلامي جزء من كل يكمله، ويكتمل به ويعطيه ويأخذ منه، ويحميه ويحتمي به، ولا نستطيع مطلقا أن نجد في التشريع الإسلامي انفصالا بين مسؤولية الفرد نحو المجتمع، ومسؤولية المجتمع نحو الفرد، لأن هاتين المسؤوليتين هما أولى وسائل الإسلام في الإصلاح العام، وفي التكافل الاجتماعي الواسع النطاق. والإسلام قرر مبدأ المسؤولية على الفرد لقاء ما يحيطه به الناس، بشكل يتكافأ مع ظروفه، ومهمته الموكولة إليه، وكفاءاته التي يمتاز بها. ولكي يمنح الإنسان حرية التعبير والعمل المشروع، وضع مبادئ ونظما اقتصادية للعمل والتملك والإنفاق. وأدى تطبيقها الى تحقيق التعاون والرخاء بين أفراد المجتمع، وهذا التضامن هو الذي يجعل المجتمع راشدا، والأمة فاضلة، والمدينة الإسلامية عامرة بالعدل وبالخير. وما كان المسلمون أفضل الأمم في نظر الإسلام إلا لأنهم حافظوا على شعار الإنسانية الأصيل، ألا وهو هذا الجانب من الضمان الجماعي. والخلاصة أن الإسلام دين العقل والقوة والصراحة والاعتراف بالشخصية الإنسانية وتكوينها تكوينا صريحا. 1- انظر مجلة دعوة الحق - العدد 7-6 السنة الحادية عشرة - مايو 1961 م ص: 16