بعض السادة الولاة لم يستوعبوا بعد أن سر الاستقرار الاجتماعي يكمن في ضمان الكرامة الإنسانية للمواطنين. وأهم ضامن لهذه الكرامة هو الحق في السكن داخل «عمران» يحترم حاجيات المواطن الأساسية. بعد الزلزال الذي ضرب «العمران» مؤخرا، أشياء كثيرة تغيرت داخل ولاية فاس خلال الشهر الأخير بسبب الفوضى العقارية التي استفحلت داخل هذه المدينة التي تنهار مبانيها بين يوم وآخر على رؤوس ساكنيها. ومباشرة بعد صدور العمود حول المنعشين العقاريين الذين استفادوا في فاس من أراضي الدولة ولم يسددوا ما عليهم من واجبات، عقد اجتماع عاجل في الولاية، صدرت على إثره تعليمات بإرسال رسائل رسمية إلى كل من لم يحترموا كناش التحملات أو من لم يؤدوا المستحقات الإدارية للأملاك المخزنية، تحت طائلة سحب الأراضي، التي منحت لهم لإنجاز المشاريع التي التزموا بها مع الولاية، منهم. وبالتزامن مع ذلك، «أصابت» حركة انتقالية عددا من سواعد الوالي الغرابي وأذرعه اليمنى، وأولها كان مدير ديوانه، القايد، الذي تم تنقيله إلى الدارالبيضاء، ورئيس قسم الشؤون العامة الذي تم إرساله إلى تطوان، ورئيس مصلحة الاستعلامات العامة الذي ذهب إلى وجدة، وباشا المدينة الذي تم إرساله إلى الدارالبيضاء ووضع الغرابي مكانه «باشا» أكدال بوجرينجة الذي قضى أكثر من سبع سنوات في المنصب نفسه والمدينة نفسها. وإذا كانت الداخلية قد قررت «تفكيك» دولة الوالي الغرابي بفاس، وتشتيت مساعديه الأقربين على مدن المغرب، فإن مسؤولين آخرين تم تعيينهم بعيدا عن ولاية فاس ولازالوا مع ذلك يستفيدون من ميزانية الولاية، رغم اشتغالهم بعيدا عنها. وعلى رأس هؤلاء الكاتب العام السابق لعمالة فاس، بنريباك، الذي دافع عنه الغرابي واستطاع أن يجد له منصب عامل بعمالة الفحص أنجرة بطنجة. ورغم تعيين سعادة العامل في عاصمة البوغاز، فإن شوقه إلى فيلته بطريق «إيموزار» بفاس لا يفارقه، خصوصا وأن أطفاله لازالوا يدرسون في مؤسسة تعليمية بفاس، حيث وضع رهن إشارتهم سائقا وسيارة تابعين لعمالة طنجة، تتزود بالبنزين من عمالة فاس. فهذه ربما هي سياسة اللامركزية كما يفهمها عامل طنجة ووالي فاس. وإذا كان الكاتب العام السابق لعمالة فاس والعامل الحالي على عمالة الفحص أنجرة ينفذ تعليمات الوالي الغرابي بالحرف، فإن عامل إقليم مولاي يعقوب والكاتب العام السابق لولاية الرباط، رفض الترخيص بالبناء لشركة «إيدياليستا إموبيليي» التي يمتلكها مصطفى أمين وفصيح، رئيس المجلس الجهوي للسياحة بفاس، بسبب تغييرهما لدفتر التحملات، بحيث حولا مشروعا سياحيا بمنطقة «عين الشقف»، مساحته 9000 متر مربع بالملك المخزني، إلى مشروع سكني بمباركة من الوالي الغرابي الذي منحهما امتياز «الاستثناء المعماري». ولو أن «مريد» المفتش العام لوزارة الداخلية يزور فاس على رأس لجنة تقصٍّ وبحث تأتي من الرباط إلى فاس للتحقيق في ملف «الرخص الاستثنائية» التي منحها الوالي الغرابي للمقربين والأصحاب، لأصيب بالفزع من عدد هذه الرخص وهويات المستفيدين منها. فسعادة الوالي أعطى استثناء في رسم عقاري بالقرب من الكلية مساحته خمسة هكتارات، كان مخصصا في الأصل لمقبرة، فحوله الوالي بتوقيع منه إلى مشروع سكني لصالح شركة «بارتونير إيموبيليي» وتحولت المقابر إلى تجزئة سكنية من 109 بقع و27 فيلا. كما منح سعادة الوالي استثناءات معمارية دفعة واحدة لخمسين هكتارا في طريق مكناس بالقرب من «ماكرو»، و20 هكتارا بالقرب من «ماكرو»، و50 هكتارا في طريق «عين الشقف». وما يحدث في كل المدن، قبل تسليم رخص «الاستثناء المعماري»، هو أن لجنة من الوكالة الحضرية تجتمع مع لجنة من القطاع الوصي، وبناء على تقرير يرفع إلى الوالي يقرر هذا الأخير في إعطاء موافقته على منح «الاستثناء» أو رفضه. في حالة الوالي الغرابي، يحدث العكس تماما، فالوالي يوافق أولا ثم يضغط على المصالح الخارجية لكي توقع على المحاضر بأثر بعدي. ولعل أكبر مستفيد من هذا التعامل «الاستثنائي» للوالي هو شركة «فتح الجديد»، والتي أصبح على وزارة التعليم أن تدخلها ضمن كتب التاريخ، بحيث يتضمن درس «من بنى فاس» اسم شركة «فاس الجديد»، والتي أصبحت تستحوذ على أغلب مشاريع البناء في فاس ونواحيها. عندما نرى كيف نظم «كسوس»، أحد كبار المساهمين في شركة «فتح الجديد»، عشاء باذخا على شرف الوزير الأول عباس الفاسي في قصر عامر بطريق «إيموزار»، نفهم العلاقة الخاصة والحظوة المتميزة التي أصبحت تحظى بها هذه الشركة العقارية التي نجد ضمن المساهمين فيها الموجودين في الواجهة الموثق «بنجلون» والمهندس «السوباعي» والملياردير «كسوس»، والذين يحظون بالعناية «المركزة» للعمدة الاستقلالي شباط ووزير الإسكان الاستقلالي توفيق احجيرة، الذي عاد مصدوما من باريس بعد تلقيه قرار إعفاء مدير «العمران» بالهاتف، فدخل المسكين في اعتكاف طويل بفيلته بالرباط. والمدهش في مسار هذه الشركة العقارية المحظوظة أنها استطاعت، في ظرف زمني قياسي، أن تحصل على أوعية عقارية كبيرة في مختلف مناطق وعمالات فاس. فالشركة تتوفر على أزيد من 300 هكتار بمنطقة «بنسودة»، معقل شباط الانتخابي، وأيضا في طريق «فرو» وطريق «إيموزار» بالقرب من كلية الآداب. وما يجمع بين هذه الأراضي أنها كلها حظيت بقرارات «الاستثناء المعماري» التي يمنحها الوالي الغرابي. وعندما قدمت الشركة طلبات البناء إلى الولاية، كانت تبرر طلب الحصول على «الاستثناء المعماري» بالرغبة في بناء مشاريع عمومية، مقدمة تصاميم وهمية لهذه المشاريع، لكي يكتشف الجميع أن الأراضي التي اشترتها الشركة، بفضل قرض سخي أخذته من «البنك الشعبي» وصل إلى 43 مليارا، تحولت بقدرة قادر إلى مشاريع تجارية. إن السؤال الذي طرحناه بالأمس حول المآل القضائي لبعض مدراء مؤسسة «العمران» الذين اغتنوا على ظهر مآسي البسطاء، يطرح نفسه علينا بقوة ونحن نتأمل كيف استطاع بعض المسؤولين وكبار الموظفين في المؤسسات العمومية بفاس أن يجمعوا الثروات من وراء تحويل المدينة إلى غابة كثيفة من الإسمنت في غياب أي إحساس بالخطورة الأمنية لهذه الهمجية المعمارية التي شوهت العاصمة الروحية للمملكة. فالوالي الغرابي يتصرف في الوعاء العقاري كما لو أنه ملكية خاصة، لأنه يعرف أن مآله، في أسوأ الحالات، لن يكون أسوأ من مآل الوالي رشيد الفيلالي الذي يقضي كل وقته متجولا على متن سيارته «الرويس رويس» بعيدا عن مقر الداخلية بالرباط، متفقدا مشاريعه بين الدارالبيضاء وأكادير حيث فندقه الذي شيده بأكثر من 9 مليارات. ولذلك فالوالي الغرابي يحيط نفسه بمدراء لديهم سوابق في مجال «الرخص» على وجه التحديد، مثل مدير المركز الجهوي للاستثمار بالنيابة، «يوسف الرابولي»، الذي سبق له أن تعرض للتوقيف بسبب تورطه في ملف الرخص عندما كان رئيسا لقسم الشؤون الاقتصادية، فلم يجد الوالي حرجا في اقتراحه لشغل منصب مدير المركز الجهوي للاستثمار بالنيابة. وهاهو يسير على خطى زملائه في «الشلة» وبنى فيلا في طريق عين الشقف بأزيد من 300 مليون، وفيلا أخرى بحي «بدر». في مدينة الحسيمة، عندما حلت لجنة تفتيش من الرباط بعد «الزلزال» الأخير الذي ضربها، تم إرسال مدير المركز الجهوي للاستثمار إلى السجن، رغم أن المخالفات التي ارتكبها تبقى مخالفات إدارية. وقبل ذلك، تم تهريب عامل الحسيمة، المسؤول الأول عن كل الاختلالات التي عرفتها المدينة، إلى مراكش. أما في فاس، فيتم التغاضي عن المدير الجهوي للاستثمار، رغم أن المخالفات التي ارتكبها تدخل في إطار المخالفات المالية، ورغم أنه منذ أيام «بنريباك» ظل في ثلاجة الولاية بدون منصب بسبب رخص الثقة التي كان يمنحها، قبل أن يرمي إليه الوالي الغرابي طوق النجاة ويقترحه ليشغل مكان «أوزين» الذي توفي، على رأس المركز الجهوي للاستثمار. فكانت أول هدية يقدمها المدير الجديد هي قطعتان أرضيتان بطريق «عين الشقف بالملك المخزني «32 ف» لشركة «نور كونسيبت» التي يملكها مصطفى أمين، صاحب 50 في المائة من شركة «إدياليستا إموبيليي» التي يملك فيها «فصيح»، رئيس المجلس الجهوي للسياحة ال50 في المائة الثانية. وهي الأرض التي كان من المفروض أن يقام فوقها مشروع سياحي فإذا به يتحول إلى مشروع تجاري بمباركة من الوالي. كل هذه التجاوزات تحدث أمام «الحرشاوي»، مدير الاستعلامات العامة بفاس، والذي يملك بفضل المسؤول الأمني «حاضي»، الذي لم يتزحزح من مكانه بفاس طوال 16 سنة، كل التفاصيل الصغيرة لما يحدث داخل قصور عمالات المدينة الأربعة من صفقات تقدر بالملايير. إلا إذا كان «السي حاضي» ورجاله «حاضين حاجة خرا» غير المخالفات المعمارية التي تهدد الأمن العام، فهذا شيء آخر.