أعادت الانتخابات المصرية إلى الواجهة قضية المراقبة الدولية للانتخابات، والمناسبة هي دعوة واشنطن إلى السماح لمراقبين أجانب بمتابعة هذه الانتخابات، ورد الحكومة المصرية العنيف أن هذه التصريحات تدخل في الشؤون الداخلية لمصر ومساس بسيادتها وانتقاص من هيبتها وفرض للوصاية عليها وانتهاك لخصوصية المجتمع المصري، وأن مصر ليست بحاجة إلى هذا النوع من الرقابة لأنها ليست دولة في أزمة، مثل الصومال أو العراق، ولأنها اتخذت الترتيبات الكفيلة بجعل هذا الاستحقاق الانتخابي شفافا ونزيها وغير مشوب بأي عيب من العيوب. من حيث المبدأ، يمكن التشكيك بسهولة في نية الأمريكان، لأن انتخابات نزيهة ليست في مصلحتهم ويمكن أن تمنح الأغلبية لقوى معارضة ترغب في إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة بما يعود بالضرر العاجل على أمريكا وحلفائها، وفي مقدمة هؤلاء الإسرائيليون الذين تربطهم بمصر معاهدة سلام واتفاقيات اقتصادية، ولأن انتخابات 2005، وكانت في أوج دعوة الإدارة الأمريكية إلى دمقرطة الشرق الأوسط، أبانت عن تردد أمريكي في حماية صناديق الاقتراع، وخاصة بعد الدور الأول الذي شهد نتائج مشجعة للمعارضة، حيث تكاثرت الخروقات التي لم يتجاوز الأمريكان فيها دور المتفرج السلبي الذي ينتظر مثل هذه الفرص لابتزاز النظام المصري ومقايضته لمزيد من الانبطاح والخضوع للأجندة الأمريكية والإسرائيلية، سواء بعرقلة المصالحة الفلسطينية أو المساهمة في حصار غزة أو الحيلولة دون تقوية الصف العربي الرسمي بحكم الثقل الذي تمثله مصر تاريخيا. لندع نوايا الأمريكان جانبا، ولنترك كل الأحكام المسبقة، ولنناقش القضية بهدوء وحرص على المصلحة الوطنية قبل كل شيء. يمكن تصنيف الدول حسب صدقية انتخاباتها إلى ثلاثة: فهناك دول قطعت شوطا كبيرا في مسلسل الدمقرطة حتى صارت انتخاباتها محطة عادية تتأجج فيها المنافسة السياسية بدون طعن في مراحل الإعداد لها أو في تأطيرها القانوني أو في نتائجها أو في تكافؤ فرص المشاركين فيها، والسبب أن كل ذلك يتم بتوافق مجتمعي ابتداء، ومن خلال برلمان تمثيلي للشعب ناتج عن انتخابات نزيهة، وفي ظل احترام تام لحقوق الأقلية ودون احتكار من الأغلبية. وهذه الدول لا تحتاج إلى هذا النوع من الرقابة لانتفاء دواعيها من الأساس. وهناك دول مستبدة تحرص على الشكليات الديمقراطية ولا تهمها انتقادات المنتظم الدولي، وهذه دول لا تشكل فيها الانتخابات إلا مناسبة لتجديد الولاء وموسما للبهرجة وتنشيط مشهد سياسي راكد. ولذلك نجدها تتذرع دائما بدواعي الخصوصية وبأنها مستهدفة لترفض أي مراقبة دولية لانتخابات معروفةٍ نتائجُها مسبقا لأنها تجسيد لاستمرارية لا يعدو دور المعارضة فيها دور كومبارس في مسرحية مملة يغيب فيها التشويق والجمهور والجدوى. وهناك صنف ثالث يتأرجح بين المنزلتين، وتندرج فيه بلدان تعلن حرصها على نزاهة انتخاباتها واتخاذها لكل الخطوات القانونية والتنظيمية من أجل الدخول إلى نادي الدول الديمقراطية، ولكنها -بالمقابل- تجر وراءها إرثا أسود في التزوير والتحكم والضبط، إضافة إلى دعوات تشكك في قدرة كل هذه الخطوات على ضمان الشفافية والنزاهة، وهي دعوات نابعة من الداخل، سواء من قوى المعارضة أو المنظمات غير الحكومية أو الإعلام المستقل أو شخصيات مشهود لها بالكفاءة والمصداقية. فما العمل في مثل هذه الحالات؟ يكمن الحل، في هذه الحالة، في فحص كل الضمانات القانونية والتنظيمية ومراقبة مدى ملاءمتها للمعايير الدولية، كما يكمن في فتح الباب أمام مراقبة محايدة لسير العملية الانتخابية، قبل وأثناء وبعد الاقتراع، من قبل ملاحظين من الداخل والخارج. وتزداد الحاجة إلى ملاحظين من الخارج كلما اشتكى نشطاء المراقبة في الداخل من الضغوط وقلة الوسائل وعدم تعاون أجهزة الدولة معهم. لقد حرصت كل البلدان التي مرت من مرحلة كهاته على هذا النوع من الرقابة، ففتحت أجواءها -بطلب منها- لمراقبين دوليين محايدين غير خاضعين لأجندات دول ذات مصالح وأطماع، بل حرصت على أن تتشكل هيئة المراقبة من شخصيات متنوعة ومنظمات غير حكومية وخبراء وساسة قدامى مشهود لهم بالحياد والنزاهة والدفاع عن القيم الديمقراطية، ودمجت معهم لجان مراقبة داخلية لتستفيد من التجربة ولتباشر بعد ذلك عملية المراقبة في المحطات الانتخابية الموالية. وبهذا ربحت هذه البلدان الرهان وشكلت هذه الانتخابات محطة تأسيسية لعهد جديد أفرز مؤسسات تشريعية وتنفيذية غير مطعون في شرعيتها وأهليتها وتحظى بالشعبية التي تخولها تدبير شؤون المواطنين بسلاسة. ويزداد الاطمئنان أكثر إن اتخذت باقي الضمانات لحماية حقوق الأقلية وتكافؤ الفرص وحرية الإعلام وحياد أجهزة الدولة وعدم تماهيها مع الحزب الحاكم. وبهذا تشكل الرقابة الدولية على الانتخابات إجراء استثنائيا في ظرف استثنائي مؤسس لحالة عادية ودائمة تُعمل فيها الدولة بعد ذلك آليات داخلية للوفاء بالتزاماتها الدولية. ومن الخطأ حصر الظرف الاستثنائي في حرب أو ما شابه ذلك، لأن أكبر خطأ يتهدد استقرار بلد ما هو فقدان الثقة في مؤسساته، كما أنه من الخطأ الخلط بين الرقابة والإشراف لأن الرقابة تقتصر على تدوين الملاحظات وإعداد تقارير عنها دون التدخل في سير العملية الانتخابية. يجب ألا يكون مثل هذا الإجراء محط رفض مبدئي من قبل دولة تدعي، بمناسبة وبغير مناسبة، أنها تشهد انفتاحا سياسيا وانتقالا ديمقراطيا، ولكن بإمكان هذه الدولة مناقشة تفاصيل أخرى بشأن شكل هذه الرقابة ومواصفاتها وحدودها والمؤهلين للقيام بها حتى لا تتعارض مع سيادة البلاد. وحتما يمكن إيجاد صيغة توفيقية تضمن نزاهة الانتخابات وتزيل كل التخوفات. نرجع إلى الحالة المصرية التي تتزايد فيها الانتقادات والتشكيك في كل الضمانات المتخذة، انطلاقا من صلاحيات اللجنة العليا للانتخابات ومرورا بحياد الإدارة وتكافؤ الفرص وانتهاء بحماية صناديق الاقتراع وحرية الناخبين. ألا تستدعي كل هذه الانتقادات الالتجاء إلى مراقبين أجانب لطمأنة القوى المتشككة والوقوف على مدى صدق ادعاءاتها؟ ألا تشكل الاعتقالات والمضايقات التي يتعرض لها مرشحو المعارضة مبررا إضافيا؟ ألا تشكل الإجراءات الجديدة المفروضة على الفضائيات عائقا في وجه نقل أمين وحي لمجريات العملية الانتخابية؟ ألا تشكل المضايقات التي تتعرض لها بعض البرامج والصحافيين مقدمة للتغطية على خروقات انتخابية قادمة؟ حين تنعدم الثقة في الضمانات القانونية، وحين ينعدم تكافؤ الفرص، وحين تفقد أجهزة الدولة حيادها، وحين يتعلق الأمر بدولة ذات سوابق في التزوير الناعم لإرادة الشعب، وحين تحرص الدولة، مقابل كل ذلك، على نفي كل هذه التهم ونعت تجربتها بالنزاهة.. حينها تصبح الرقابة الدولية ضرورة لا غنى عنها. وما على المتحفظين إلا اتباع طريق آخر يبدأ باعتماد مقاربة تشاركية في الإعداد للانتخابات بدون إقصاء أي مكون من مكونات المجتمع حتى يتحقق إجماع ورضى حول التدابير القانونية والتنظيمية. وهذا طريق يتطلب انفتاحا سياسيا وسعة صدر واستعدادا للنتائج كيفما كانت. وهذا هو الأولى لبلداننا العربية إن كانت حريصة على تفويت الفرصة على من يتربص بها الدوائر.