من حسن حظ كثير من كبار موظفي وزارة الشؤون الخارجية والأوربية أنهم لا يحالون بالضرورة على التقاعد بمجرد بلوغهم الستين، وإنما يمكن أن يستمروا خمس سنوات إضافية إلى أن يبلغوا خمسا وستين سنة، وبعضهم يظل في منصبه إلى أن يوشك على بلوغ السبعين. أما من كان حظه عاثرا وترك «وجاهة السلك الدبلوماسي» في وقت «مبكر»، فإن ورقة خروجه من وزارة الخارجية تكون مفتاحه إلى كبريات الشركات العالمية التي تتهافت على أبرز الشخصيات الدبلوماسية وتقترح على بعض السفراء السابقين منصب مستشار مختص في منطقة معينة من العالم مقابل راتب وتعويضات غاية في الإغراء. فرانسوا بوجون دوليستان، رئيس «سيتيغروب»، أحد عمالقة الأبناك والتأمينات في العالم، نموذج حي لهؤلاء السفراء. فقبل أن يتسلم بوجون، رئاسة هذه الشركة العملاقة عالميا، في مستهل سنة 2003، تنقل بين سفارات باريس في عدد من العواصم. غير أنه اسمه سيبرز بشكل ملفت ابتداء من سنة 1999 التي ابتدأ فيها مشواره الدبلوماسي من واشنطن قبل أن ينقل في وقت لاحق لتولي إدارة شؤون السفارة الفرنسية في كندا. ولم تمر سوى شهور عديدة على دخوله غمار العمل الدبلوماسي، حتى تلقى، هذا الأكاديمي الفرنسي المولود في 21 يناير 1940، عروضا من شركات عالمية عديدة ليعمل لديها مستشارا خاصا بالقارة العجوز، واختار منها بعد دراسة دقيقة عرض «سيتيغروب»، وظل في هذا المنصب إلى أن عين رئيسا لها. ليس بوجون الدبلوماسي الوحيد الذي كانت نهاية عمله مع الدولة انطلاقة حقيقية لفترة زاهرة مع القطاع الخاص. ذلك أن فيليب غولاي، الذي غادر السفارة الفرنسية بالصين مرغما بسبب بلوغه خمسا وستين سنة، صار كثير التردد على العاصمة بيكين بحكم تعيينه مستشارا لجيرارد ميسترالِيت، رئيس «سويز للبيئة»،. كما أنه عرف كيف يجعل من نفسه، بعد السنوات التي قضاها سفيرا لباريس ببكين، شخصا ذا تأثير كبير في عمل الهيئة التي تضم جميع المقاولات الفرنسية العاملة في الصين. وحتى خصومه الذين كانوا يحرصون، في جميع خرجاتهم الإعلامية، على التقليل من تأثيره في العلاقات بين الشركات الفرنسية ونظيرتها الصينية، اعترفوا، بأهميته في تحديد طبيعة العلاقات التي تجمع المقاولين الفرنسيين والصينيين، حينما ترأس اجتماعا بين كبار رجال الأعمال في فرنسا والصين تحت شعار: «هل ثمة نموذجَ تعاون مربح في علاقاتنا مع المقاولات الصينية؟». وقد اتضح للجميع بعد نجاحه في تنظيم هذا النشاط الإشعاعي، أن غولاي سيظل شخصية مؤثرة في علاقات التعاون بين المقاولات الفرنسية والصينية، خصوصا وأنه استطاع خلال الفترة التي مثل فيها باريس لدى بكين تكوين علاقات متينة مع كبار المسؤولين في الصين وأبرز الشخصيات في عالم المال والأعمال بالقارة بهذا البلد الأسيوي الذي يحقق نسب نمو قياسية ويهدد بخطف الريادة الاقتصادية والمالية من الولاياتالمتحدةالأمريكية بعدما تجاوزت في وقت سابق اقتصاديات الدول الرائدة اقتصاديا في القارة العجوز. سفير آخر ظل يخطف الأضواء حتى بعد إحالته على التقاعد عن سن ناهز خمسا وستين سنة. يتعلق الأمر بلويِيك هينيكين، سفير باريس سابقا بكل من طوكيو وأوتاوا وروما. ثلاث عواصم في غاية الأهمية بالنسبة إلى باريس على المستويين السياسي والاقتصادي على حد سواء. عُرف هينيكين بميولاته السياسية اليسارية، حيث إن مساره المهني ابتدأ قبل قرابة أربعة عقود بتوليه إدارة ديوان وزير البحث والصناعة، وكان لميولاته السياسية أثر كبير في تعيينه في هذا المنصب بالنظر إلى أن الوزير حامل هذه الحقيبة كان في تلك الفترة ينتمي إلى الحزب الاشتراكي، ثم ما لبث أن صار مستشارا لوزير الشؤون الخارجية، قبل أن يعينه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران مستشاره الخاص بالدبلوماسية، علما أنه أنهى مساره على رأس الكتابة العامة ل«الكي دورساي»، أحد أهم المناصب في السلك الدبلوماسي الفرنسي، بعد تمثيله بلاده، بنجاح، في العواصم سالفة الذكر. كان يأمل ألا يحال على التقاعد في سن 65 سنة، ولذلك كان يؤكد أنه يرغب في الاستمرار في تحمل مسؤوليات بالسلك الدبلوماسي لرغبته الشديدة في خدمة بلاده في ميدان تمرس فيه سنوات عديدة وكون فيه خبرة استثنائية. لكن يبدو أن طموحات لوييك لم تجد لها آذانا صاغية داخل وزارة كوشنير، فغادرها ليصبح مستشارا لجاك أتالي الذي يرأس المنظمة غير الحكومية «بلانيت فينونس». وبعد فترة قصيرة من مغادرته «الكي دورساي»، عرضت عليه المجموعة الإيطالية «جينيرالي»، المتخصصة في التأمينات، منصب مستشار لها في سنة 2007. ولم يخيب لوييك ظن مسؤولي «جينيرالي»، حيث أفادت أولى إحصائيات الشركة بعد حوالي سنتين من التحاق لوييك بها، أي سنة 2009، أن هذا الدبلوماسي المتقاعد أبان عن نشاط كبير في العمل، حيث حضر جميع الاجتماعات التي عقدها مديرو «جينيرالي». الأداء الجيد الذي قدمه هينيكين مع «جينيرالي»، دفع شركة إيطالية أخرى متخصصة في إنتاج الكهرباء، تدعى «إيرايد إس. بي. آي» إلى ضمه إلى طاقمها الإداري، وكانت أولى شهور عمله بها إيجابية كذلك. ولا يزال إقبال شركات عالمية عملاقة رائدة في مجال اختصاصها على الاستعانة بخدمات قيدومي السلك الدبلوماسي الفرنسي أمرا مثيرا للجدل في فرنسا. فما كانت تلك الشركات لتستعين بهم، سواء كمديرين أو مستشارين، لولا التأثير الذي اكتسبوه بفضل تمثيلهم باريس في بعض العواصم، سيما ذات النفوذ عالميا، خصوصا وأن منهم من لا يخفي افتخاره واعتزازه بالالتحاق بهذه الشركات، وبعضهم تولى لسنوات عديدة مناصب جد حساسة في السلك الدبلوماسي الفرنسي. وينتظر أن تثير هذه المسألة مزيدا من السجال في قادم السنوات بالنظر إلى أن السفراء السابقين ليسوا مجبرين من الناحية المادية على العمل مع الشركات العالمية بعد إحالتهم على التقاعد كونهم يتقاضون تقاعدا مريحا يقارب 5 آلاف أورو شهريا.