إنجيل سفراء باريس في الخارج عبارة عن دليل صاغته وزارة الشؤون الخارجية والأوربية بدقة متناهية. من غريب الصدف أن شكل هذا الكتاب، المتكون من ألفي صفحة، شبيه بكتاب الإنجيل. يحرص سفراء الإليزي على حمل هذا الكتاب معهم في جميع تنقلاتهم، ليقينهم الراسخ بأن بين دفتيه إرشادات وتعليمات تعينهم على اتخاذ القرارات الحاسمة دونما مخالفة لتوجهات «الكي دورساي». اختارت الخارجية الفرنسية، عن قصد، أن تستهل هذا الدليل، المسمى «الدليل الدبلوماسي والقنصلي»، بالحديث عن أبرز سفرائها خلال الحربين العالميتين، الأولى والثانية، والفترة الفاصلة بينهما، ومن خلفهم بعد ذلك على رأس أهم السفارات الفرنسية في الخارج، قبل أن تخصص القسم الأخير من هذا الدليل لأبرز وجوه وزارة الشؤون الخارجية والأوربية في الوقت الراهن. وكم كان مثيرا حرص مسؤولي «الكي دورساي» على تضمين هذا الدليل قائمة بأسماء الوزراء والوزراء المنتدبين وكتاب الدولة الذين تعاقبوا على تولي مسؤولية حقيبة الشؤون الخارجية، قبل أن تضاف إليها صفة الأوربية في السنوات الأخيرة، وذلك منذ سنة 1589، نعم منذ أزيد من خمسة قرون. يحفل هذا الدليل بدروس كبيرة تم تمريرها لسفراء فرنسا في الوقت الراهن ومن سيتسلم المشعل منهم في وقت لاحق، حيث لا يكتفي فقط بأبرز السفراء، ومنهم سفراء حديثو التقاعد، بل يولي كذلك اهتماما كبيرا للفترة الممتدة من سنة 1945 إلى لحظة صياغته، راسما أبرز المعالم التي ميزت الرئاسة الفرنسية في تلك الفترة وواصفا، بإسهاب شديد، خصائص ومميزات «الكي دورساي» وتمثيليات فرنسا في الخارج، سفارات وقنصليات. وقد ثبت، استنادا إلى أرقام الخارجية الفرنسية، أن قائمة الوزراء والوزراء المنتدبين وكتاب الدولة في الخارجية، بالإضافة إلى السفراء والقناصل وأطر الوزارة وموظفيها، على اختلاف درجاتهم وتباين وتيرة ترقياتهم، التي تتوسط «الدليل الدبلوماسي والقنصلي»، هي الأكثر تصفحا من لدن جميع موظفي الوزارة الجدد، وفي مقدمتهم السفراء. وقد فسرت الخارجية هذه الإحصائيات، لحظة إعلانها عنها قبل سنوات، بأن حرص كل موظفيها، السفراء على وجه التخصيص، على الاطلاع على كون المعطيات التي توفرها للدبلوماسيين، تواريخ ميلاد السفراء السابقين ومساراتهم الدراسية والمدة التي يقضونها في منصب معين قبل الانتقال إلى آخر أكثر أهمية منه أو ربما الاندحار إلى مرتبة أدنى، يعين هؤلاء الدبلوماسيين على تكوين صورة واضحة عن مستوى التنافسية داخل الوزارة ويتبينون، بالأمثلة، فرصهم في تسلق درجات المسؤولية في الوزارة، بناء على طبيعة بروفايلات أكثر الدبلوماسيين نجاحا في مهامهم في تمثيل فرنسا لدى مختلف دول العالم، وليس فقط الدول الكبرى، كما يعتقد كثيرون، لأن بعض الدول، التي قد لا تبدو للبعض عظمى، تكون في غاية الأهمية بالنسبة إلى فرنسا، وإن لم تكن كذلك في أعين دول أخرى. غير أن الإكراهات التي تواجه موظفي وزارة الشؤون الخارجية والأوربية لا تختلف، إطلاقا، عن تلك التي يعاني منها نظراؤهم في مختلف أسلاك الوظيفة العمومية، ذلك أنهم ينقسمون بدورهم إلى ثلاث فئات: فئة «ج» متمثلة في أعوان التنفيذ وفئة «ب» مشكلة من الأطر، وفئة ثالثة، وأخيرة، مجسدة في جهاز الإدارة ووضع استراتيجيات التسيير. وإذا كانت الفئتان «ج» و«ب»، مقصيتين، مبدئيا، من سباق التنافس على تولي مسؤولية تمثيل فرنسا في الخارج، فإن الفئة «أ»، تتفرع إلى قسمين: أولهما كبار المسؤولين وثانيهما أطر مؤهلة لتولي مناصب سامية، ضمنها السفراء والقناصل، الذين يحصلون على تعويضات جد مهمة، مع الإشارة إلى أن نوعية العلاقات التي يستطيع الأطر نسجها مع مسؤوليهم المباشرين وباقي كبار مسؤولي الخارجية تكون حاسمة ولها الكلمة الفصل في تحديد أسماء الموظفين الذين سيتحولون من أطر عليا إلى موظفين سامين. وإذا كانت أرقام وزارة كوشنير تشير إلى أن قرابة نصف موظفيها القارين يحالون على تمثيليات فرنسا في الخارج، فإن تحقيقا ميدانيا أنجزته الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل عن وزارة الشؤون الخارجية والأوربية أكد أن 39 في المائة فقط من الموظفين المصنفين ضمن الفئة «ج»، يعينون في المناصب التي يعبرون عن رغبتهم في توليها في الملفات التي يودعون. في حين تتوزع النسبة الباقية بين استجابات للاختيار الثاني المعبر عنه بنسبة 9 في المائة و7 في المائة للاختيار الثالث، وهي نسبة استجابة أقل مقارنة بالاختيار الرابع التي تصل نسبة الاستجابة له إلى 11 في المائة، وخلص التحقيق إلى أن موظفا من أصل خمسة، من مجمع الموظفين الذين شملهم هذا التحقيق الميداني، أكدوا عدم الاستجابة لاختياراتهم الأولى. وبالنسبة إلى الأطر العليا المصنفين في الفئة «أ»، فقد أعادتهم رسالة عاجلة من الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، فيليب سيكين، إلى برنار كوشنير، بخصوص المناصب السامية الشاغرة في وزارته، إلى مضمار السباق نحو سفارات فرنسا وقنصلياتها بالخارج. وتحدثت الرسالة، بلغة شديدة اللهجة، عن المناصب الدبلوماسية التي تتركها وزارة الشؤون الخارجية والأوربية شاغرة بضعة شهور، دون أن تبادر إلى اتخاذ الإجراءات القانونية الجاري بها العمل لتعويض السفراء والقناصل التي تنتهي مدة اعتمادهم. ويبدو أن مجلس سيكين لم يستسغ هذا الوضع، الذي تعيشه وزارة كوشنير، خصوصا وأن أرقام المجلس الأعلى للحسابات تحدثت في سنة 2005 عن وجود 407 موظفين بهذه الوزارة مؤهلين لمناصب سامية في السلك الدبلوماسي، فيما لم تكن هذه المناصب تتجاوز، في السنة سالفة الذكر، حاجز 177. الرسالة التي رغب سيكين في إيصالها إلى كوشنير من خلال تذكيره بهذه المعطيات واضحة تمام الوضوح: «عدد مهم من الأطر العليا للوزارة، الذين يكلفون الوزارة أموالا مهمة، لا يقومون بأي شيء نظير الرواتب التي يتقاضونها».