خلق حزب العدالة والتنمية مفاجأة على واجهتين، الأولى تمثلت في نجاح المؤتمر السادس في اعتماد وثيقة «النضال الديمقراطي» التي ترسم خارطة طريق للحزب، وتساهم في رسم معالم «هويته السياسية»، عكس المراحل السابقة التي كان فيها الحزب بلا بوصلة سياسية، خاضعا، من جهة، «لابتزاز الدولة»، ومن جهة أخرى «لأمزجة قادته». في هذه الوثيقة الهامة في تاريخ أدبيات الحزب، نقرأ: «لقد شكلت محطة انتخابات 2007 وما تلاها من أحداث علامة فارقة في مسلسل التراجع والارتباك في المسار الديمقراطي، فقد ظهر بوضوح أن منطق الريع لم يعد منحصرا على الجانب الاقتصادي، بل امتد إلى الريع السياسي». وبخصوص خارطة القرار السياسي نقرأ في الأطروحة: «هناك تجدد ملحوظ في مراكز النفوذ المقاومة للتغيير، وهناك اتجاه متزايد للعودة إلى الممارسات المرتبطة بانتهاك حقوق الإنسان»، وبخصوص نوع مشاركة الحزب في المؤسسات نطالع: «مواصلة خيار المشاركة المؤسساتية مع ما يتطلبه ذلك من نضال لتحسين شروط المشاركة... ومن مقتضيات ذلك العمل على رفع مستوى جاهزية الحزب لتدبير الشأن العام، سواء من موقع المعارضة أو من موقع التسيير... فلا انعزال ولا مصالحة مع الفساد». هذه الوثيقة الهامة التي سنرجع إليها في وقت لاحق، بقدر ما شكلت قفزة في اتجاه الوضوح السياسي للحزب، واعتبار المؤسسة الحزبية مؤسسة مدنية وليست دينية، مؤسسة تجيب عن أسئلة التدبير وليست عمامة فقهية تصدر الأحكام... بقدر ما ساهمت هذه الوثيقة في وضع بوصلة للعمل الحزبي، فإن صعود عبد الإله بنكيران شكل نوعا من خلط الأوراق داخل الحزب وخارجه. لماذا؟ عبد الإله بنكيران شخصية قوية داخل الحزب على عكس سلفه سعد الدين العثماني، وهو صاحب تيار له أطروحة واضحة نسبيا، هذه الأطروحة تعتبر أن معركة الحزب ليست ضد المخزن الذي يحتكر السلطة، وليست ضد مراكز النفوذ التي تتغذى في هذه السلطة، ولكن المعركة هي أولا الاحتفاظ بالوجود المادي للحزب، واعتبار الترخيص القانوني له هدفا في حد ذاته. والهدف الثاني للحزب هو الدفاع عن الأخلاق ومحاربة اليسار والاتجاهات الليبرالية في المجتمع هي العدو الرئيسي في هذه المرحلة على الأقل (اليسار لأنه استئصالي يحرض الملك على الإسلاميين، والاتجاهات الليبرالية لأنها متغربة وتنشر الانحلال الأخلاقي وتشجع البعد عن الإسلام كما يتصور بنكيران)، وللوصول إلى تأمين سفينة الحزب، لابد أن ترسو على شاطئ المشاركة في الحكومة والقرب من القصر، واعتبار إمارة المؤمنين «حبل الله» الذي يصل الملك بالإسلاميين، ولتأمين هذا القرب فبنكيران مستعد للسكوت عن تعديل الدستور، وتوازن السلط واستقلالها، وخارطة الريع الاقتصادي المدعوم بالريع السياسي... بمعنى آخر، يدافع بنكيران عن منحى براغماتي، فمن جهة يتقرب من القصر، ومن جهة أخرى يتشبث بالشعارات الدينية لأنها تقربه من الجماهير والقاعدة الشعبية المتدينة... إنها حسابات دقيقة بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها. كيف حصل أن وافق المؤتمر على أطروحة «النضال الديمقراطي» وصوت على شخصية بعيدة سياسيا وفكريا عما جاء في هذه الأطروحة؟ التصويت وإن كان ديمقراطيا ومفتوحا وتعدديا، فإنه لم يكن تصويتا سياسيا، بل كان تصويتا، من جهة، «عقابيا» لسعد الدين العثماني الذي ظل مترددا طيلة سنوات في الحسم في مكان وقوفه، وثانيا هو تصويت «اضطراري» لأن المؤتمرين لم تكن أمامهم خيارات كثيرة بعد انسحاب الرميد والداودي والرباح من ساحة المنافسة... ربح الحزب رهان الديمقراطية الداخلية، وبقي أمامه رهان «الأطروحة السياسية» معلقا على مدى احترام الأمين العام الجديد لمقررات المؤتمر، ومدى تبلور اتجاه «مضاد» لسلطته في المجلس الوطني القادم...