كانت دول الاستكبار العالمي، فيما مضى، إذا أرادت استغلال شعب مستضعف سلطت عليه آلات الفتك والإرهاب عبر حملة عسكرية تحصد الأخضر واليابس، أما اليوم فصار الأمر أكثر خطورة ونعومة في الآن نفسه، إذ استبدل الحديد والنار بالاستعمار المدني السلمي المنافق عبر الشركات الاحتكارية والهيمنة الإشهارية والإعلامية التي تغسل أدمغة المستضعفين وتوجه الرأي العام وتصنع أذواق المغفلين في المأكل والمشرب واللباس وأسلوب الحياة... وتحرض على الاستهلاك من أجل ربح الشركات التي تعد من أخطر أذرع الأخطبوط الماكر، والتي لا تحترم خصوصيات وثقافات البلدان، بل إن غزوتها الاقتصادية تحمل معها ثقافة وعادات وأذواقا... تتناقض في الأغلب مع نظيرتها في الدول المستضعفة، وهذا هو الأخطر، إذ تهدد بالمسخ الهوية الأصيلة باسم الانفتاح والتطور والموضة ومسايرة روح العصر... بل رأينا الإشهارات التي لا تتمحور إلا حول جسد الأنثى وإبراز مفاتنها ومهرجانات التسامح للرقص الفاضح و«الفيديو سليب»... كل هذا التخريب والتدمير لقيم المجتمع ومبادئه وتقاليده الأصيلة لإرواء النهم إلى المال لدى الرأسمالية العالمية. يذكرنا التاريخ بأن العولمة أتت في سياق تطور النظام الرأسمالي وحربائيته التي تهدف إلى إحكام الهيمنة على العالم واستمرارها... وأن أفكار وخطط وحبائل الموجهين والمتحكمين في العولمة تنجح أكثر في مناخ التراجع الحضاري العام للدول المستضعفة، خاصة منها الإسلامية... فهي بشكلها الحالي إيديولوجيا ماكرة، معبودها المال والدولار، وحركة تبشيرية تعد الناس غرورا بالخير والنماء... وتعد الدول بالتقدم والتنمية، وتعتبر نفسها مفتاح النهل من خيرات العالم والتنعم بها. يقول أحد الكتاب الغربيين في مقال بعنوان «لماذا النفور من العولمة؟»: «نحن أغنياء لأن ثقافتنا تدفع وتشجع على ذلك، وهم فقراء لأن ثقافتهم لا تسمح لهم بالتقدم»، أي أن الثقافة تحدد فرص التنمية أو التخلف، مما يفيد بأن الدول النامية لا مفر لها من العولمة «المقولبة» حسب أهواء ونزعات صانعيها للوصول... ولا وصول! فالتبشير والتطبيل بأن الانخراط العفوي المطلق في العولمة يعتبر مفتاحا للتنمية فكرة خبيثة وماكرة، ذلك أن التنمية امتياز قلة مرتبطة بالرأسمالية العالمية ليس إلا، وبالتالي فهي ضد الأغلبية المسحوقة. الماسكون بخيوط العولمة لا يألون جهدا في التشجيع على الاستهلاك عبر القنوات الفضائية واللوحات الإشهارية والمسابقات والخدع والأماني... ويحاربون مقولة : «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع» واعتماد الدول النامية على التنمية الذاتية... حتى يصير المجال العالمي وكأنه سوق كبيرة للنخاسة الجديدة، عماله الأشقياء طاقة بشرية لدول مستضعفة، تعاني الفاقة والخصاص، مغلوبة على أمرها، تضحي أبنائها غير البررة المرتمين في غيابات جب جشع المكر الاستعماري. فالعولمة المتوحشة لا مكان فيها للضعيف في ساحة حرب مفتوحة، فكأننا في غابة مكشوفة الحجب، فتحت فيها الحدود وقيل للنملة بإمكانك منافسة الفيل لتحقيق معاشك اليومي، فلمصلحتك حطمنا القيود! فهي في صورتها الحالية تسعى إلى تحرير التبادل التجاري من العراقيل الإدارية والجمركية (عولمة حركة السلع)، لكنها بالمقابل تمنع الأفراد الفقراء لدول الجنوب من التنقل من مكان إلى آخر. إن الصعوبات التي تجدها العولمة في الحد من حركة الأفراد عبر الهجرة، بالإضافة إلى عامل الدين، تجعل من الصعوبة بمكان استيعاب اعتبار العولمة كنظام قيم عالمي. فالواجهات التشاركية والتعاونية النظرية في هذه الأطروحات تخفي حقيقة تقديم العولمة كعملية الهدف منها إعادة ترتيب أوضاع العالم بعد مرحلة الاستعمار من حيث الأسواق والثروات العالمية. وبذلك أهملت الثقافة البناءة للإنسان روحا وعقلا وتحول خطاب الصورة إلى وسيلة من وسائل الخداع الإعلامي، وبدلا من فهم «الآخر» فهما موضوعيا ودقيقا يتم التركيز على الصورة الظاهرية السطحية للتمكين لتصور نمطي موحد لا غرض منه سوى ترتيب وتدعيم عملية الإقصاء الحضاري في إطار «المواطنة العالمية». في زمن العولمة، تم تخريب التعليم وتحويل المدرسة إلى مقاولة، بحيث يتم قياس ربحيتها بالمردودية المادية، وأصبح التلاميذ مشاريع لعمال مؤهلين كآلات متطورة لتنفيذ أفكار أربابهم وأسيادهم، وأخضعت التربية لمنطق السوق، بحيث يحدد سوق العمل قيمة الشواهد الممنوحة.. فشواهد ودبلومات الآداب والعلوم الإنسانية لا وزن لها عند «القوم المعولمين»... وصور للشباب أن الناجحين في الحياة ليسوا العلماء والمصلحين والداعين إلى القيم والمثل والكرامة... بل العاملين في الإشهار لترويج بضائع الغزو الاستعماري من الرياضيين والممثلين وعارضات الأزياء وغيرهم. جاء ميلاد الحركة الوطنية بمدارسها الحرة في المرحلة الاستعمارية دفاعا عن الهوية الإسلامية أكثر من أي شيء آخر... هذا الدفاع الذي من بين مقتضياته محاربة المنكر الذي يتمثل في مظاهر الحياة الغربية التي بدأت تخترق المجتمع المغربي، مثل ارتداء اللباس الأوربي والتحدث باللغة الأجنبية، على اعتبار أنه لا يمكن لأمة أن تكون لها هوية وطنية بدون لغة، ولا يمكن لها أن تتقدم إلا بلغتها. ومن ثم ضرورة الاهتمام باللغة العربية، وذلك في مواجهة الخطر الثقافي الفرنسي الذي تشكله وترعاه المدارس الفرنسية. أي قدرة تبقت اليوم لمدارسنا من أجل المواجهة بعد أن تم تحنيطها وتقزيم وظيفتها، بحيث تحولت من إخراج الإنسان ذي الشأن الكبير، المعتز بأصوله، المنفتح بعقله، إلى هم «فبركة» موظفين صغار على مستوى هممهم وتطلعاتهم..؟ فاللهم أبدلنا تعليما خيرا من هذا! وعولمة خيرا من هذه! وأوضاعا غير التي نعيشها في ظل الاستعمار الفتان و«الأمبريالية الهادئة»!.