لم تكن طريقة اشتغاله في تراب قيادة مليلة، التابعة لتراب إقليم ابن سليمان، تمر مرور الكرام، فقد زُرعت أمامه ألغام الأعداء والخصوم وجعلته على مرمى حجرهم. نفذ أوامر قائده، فتصدى لعدة أطراف كانت تنوي التلاعب في وثائق إدارية وتزوير الانتخابات التشريعية والجماعية، ولم يُخْف أنه ارتكب عدة تجاوزات، بأمر من قائده، واعتبرها جزءاً من عمله. تمتم الجوهري، وهو يردد: «كنت وفيا للقائد فلان، أبلغه بالشاذة والفاذة ولا تفوتني أي معلومة أو خبر داخل منطقة مليلة... كنت فقط «مْقدّْم» وكان كل المقدمين والشيوخ في المنطقة يستشيرونني، كنت أمثلهم كلهم، والدليل أنني مثّلتهم في الرباط، في ملتقى أعوان السلطة في بداية التسعينيات»... دخل المقدم في صراع مع أحد البرلمانيين تعاقب، لفترات، على رئاسة جماعة مليلة، وأكد الشيخ أن البرلماني كان يخوض غمار الانتخابات، بقوة كبيرة وبنفوذ، معتمدا على علاقته مع وزير الداخلية الراحل إدريس البصري (كان جاره)، وعلاقته مع شخص رفض التصريح بهويته وقال عنه إنه «إنسان ديالْ الثقة ديال القصر»!... قال الجوهري:«كان شقيق البرلماني وسمساره يحاولان التدخل في عملي... يمليان علي أسماء لأشخاص طالبي بعض الشواهد الإدارية (رخص البيع والشراء وشواهد الفقر...)، ويطالبانني بعدم تحرير شواهد لآخرين. كان سماسرته ينشرون بين الناس أن زعيمهم يوظف الشباب... دخلت معهم في صراعات علم بها كل صغير وكبير في المنطقة والإقليم، وبلغ صداه إي علما كل العمال الذين تعاقبوا على تسيير شؤون الإقليم. وكان بعض هؤلاء يحلون عليه ضيوفا، لتناول وجبات الغذاء في منزله». وأضاف عون السلطة: «خصصت له أحد جيرانه ليحرسه، وبدأ يُعلمني بكل خطواته وبكل ما يقع في منزله.. كنت أمنح الرجل الذي يتجسس عليه «جوج قْوالبْ سكّر ورابعة ديالْ أتاي وألف ريال أسبوعيا»... وقد رفضت «عروضه» الكثيرة لأن أصبح مواليا له، ويكسب من ورائي ثقة الناس، فقد كنت وفيا لقائدي»... استغلال ورقة موقَّعة على بياض للإيقاع بالشيخ بدأ البرلماني يتابع كل ما أحرره من شواهد وكان يحرض بعض المواطنين على الشكاية بي، كلما أخطأت في كتابة عنوان أو اسم أو صفة ما، وكان يحيلهم على بعض الصحف الوطنية، من أجل التشهير بي. بدأت عمليات الانتقام، تنمو تدريجيا، بعدما رُقي «المقدم» إلى «شيخ» القيادة. كان الجوهري يأتمن أحد الموظفين (ضابط الحالة المدنية). كان، كلما تغيب، يترك له بعض الأوراق موقَّعة على بياض ويحثه على منحها لطالبي شواهد السكنى وبعض الشواهد الإدارية تخص سكان القيادة. بلغ خبر الأوراق الموقعة على بياض إلى خصومه، فاستغل أحدهم خروج الموظف من مكتبه وعمد إلى سرقة ورقة موقَّعة على بياض... انتقلت الورقة إلى «العقل المدبّر»، ليفاجأ الشيخ باستدعاء توصل به من وكيل الملك لدى ابتدائية ابن سليمان. ظن الشيخ أن في الأمر خطأ أو أن القضاء في حاجة إليه، من أجل الإدلاء بشهادة في أحد سكان القيادة. انتقل الشيخ في الموعد المحدد إلى المحكمة، ليواجهه وكيل الملك بشهادة موقَّعة من طرفه تؤكد أنه «قبض» عربون خمسة ملايين سنتيم في عملية بيع عقار لا يملكه. وجاء في الورقة أن الجوهري توصل بمبلغ العربون مقابل قطعة أرضية تعود لسيدة قروية، وحدد لها ثمن عشرة آلاف درهم للمتر. قال الشيخ لوكيل الملك إن الورقة مزوَّرة وإنها قد سُرقت منه، فرد عليه الوكيل: «ما لْنا عْندنا لانازا ديالْ مريكان؟!».. عندها، أدرك الشيخ أنه وقع تحت رحمة خصومه وأن «المؤامرة» حيكت له بإتقان وأنها تمت بين عدة أطراف، أمنية وقضائية...
الخروج من السجن والبحث عن البراءة خرج محمد الجوهري، الشيخ السابق في قيادة مليلة، إقليم ابن سليمان من السجن، بعد أن قضى حوالي سنتين حبسا نافذا، بتهمة النصب والتزوير، فيما ظل مطالَباً بأداء مبلغ غرامة ستة ملايين سنتيم، وهي التهمة التي أثبت بعد خروجه أنها كانت ملفَّقة له من طرف أحد البرلمانيين وشركائه. عاد الشيخ إلى منزله، ليعانق أفراد أسرته التي واجهت المصائب وعانت من تبعات الفقر. وقد جاء الإفراج عن الشيخ بعد وفاة الملك الحسن الثاني، حيث تقلصت المدة. عندما خرج الجوهري، تجمع سكان القبيلة أمام منزله وأقاموا له «عرسا»، بعد أن نصبوا الخيام وهيؤوا خيول «التبوريدا». وفي اليوم الموالي، أصبح شغله الشاغل هو إظهار براءته. انتقل إلى مدينة الرباط، حيث جاب شوارعها، بحثا عن براءته، جالس كل من له ربطة عنق وبذلة نظيفة.. استعطفهم وحكى لهم كيف تعرض لنصب جماعي شارك فيه مسؤولون من عدة جهات... ظل يراقب الداخل والخارج إلى قبة البرلمان... أصبح زبونا لجميع المقاهي المقابلة للبرلمان، جالس «السماسرة» والشرفاء... حمل أظرفه يوزعها على كل من بدت عليه هبة ووقار، يستنجد بهذا ويبكي على ذاك، إلى أن تم استدعاؤه من طرف وكيل الملك في ابتدائية ابن سليمان، الذي كان السبب في اعتقاله. قال الجوهري: «ولجت مكتب وكيل الملك، الذي أمر باعتقالي بتهمة التزوير والنصب، فنهض من مكانه وعانقني وقال لي إنك، والله، مظلوم، وإن ساعدتني سأثبت براءتك... والله ما كا ننعسْ من جيهتكْ»... وقبل أن أخرج من مكتبه، حمل المصحف وقال لي: «ولله لو تعاونت معايا لأوقعنا بهؤلاء المجرمين».. وطلب مني أن أسجل اعترافاتهم، فطلب مني أن ألتزم الكتمان في مهمتي»...
تسجيل اعترافات خصوم الشيخ خرج الجوهري، باحثا عن آلة تسجيل صغيرة، وتوجه إلى مدينة بوزنيقة، حيث يوجد الشخص الذي أدلى بالوثيقة المزورة واتهمه بناء عليها. قال الشيخ: «من حسن الصدف أنني وجدت غريمي منذ الوهلة الأولى التي وطأت فيها قدماي المدينة. كان جالسا، رفقة بعض السماسرة في إحدى المقاهي. تقدمتُ إليهم، والألم والمهانة تعتصيرانني، لم أتمالك نفسي، غضبا، فانسحبت دون شعور، لكنني تداركت نفسي وعدت لأبحث عنه لألمحه وهو يغادر. ناديت عليه وتمكنت من استدراجه، وجدته متذمرا لما ألحقه بي وظل يردد طلبه لي بالعفو عليه. قص علي جميع خيوط الشبكة التي أوقعت بي، مؤكدا أن الاتفاق كان مع البرلماني، خصمه، مقابل خمسة ملايين سنتيم سيتلقاها مني إن استطاعوا إيصالي إلى المحكمة، وفي حالة دخولي السجن سيمنحه البرلماني خمسة ملايين، «جزاء» له، وهو ما نفته جهات موالية للبرلماني، مؤكدة أنه لم يتعرض للشيخ بأي أذى وأنه لا دخل له بعملية التزوير»... سجل الشيخ اعترافات الموظف، ضابط الحالة المدنية، الذي سرق منه الورقة الموقعة، كما سجل اعترافات شركائهم، واحدا، واحدا، ولم يُخف أنه أسكت آلة التسجيل، حين بدأ أحد الأشخاص المتورطين في قضيته يتناول حديثا يضر بهما معا، ولم يكشف عن فحوى الحديث. أعطى الشرائط لوكيل الملك، الذي طلب منه العودة بعد أسبوع، حيث تم استدعا أفراد الدرك القضائي الذين أخذوا الأدلة والشكاية وشريط «الكاسيت» وطلبوا منه العودة في صباح اليوم الموالي، ليجد الفريق (الشركاء الثلاثة) الذي ورطه في ملف التزوير، بدون »العقل المدبر»، البرلماني، صاحب الحصانة... اعتقال الشيخ للمرة الثانية لعدم أدائه الغرامة قال الجوهري: «لم ترُقْني تحركات عناصر الدرك الملكي حينها، ولا طريقة تعاملهم مع ملفي، فبعد ساعات من اعتقالهم الأشخاصَ الثلاثة المسجلة اعترافاتُهم في شرائط صوتية، فوجئت بصدور أمر فوري باعتقالي، إن لم أدفع قيمة الغرامة التي ما زلت في ذمتي... «تجند» الكل من أجل اعتقالي وأُحِلتُ على نفس وكيل الملك، الذي أمهلني شهرا لأتدبر المبلغ، حيث تم بعدها اعتقالي، فيما ظلت الدعوى التي رفعتها، بإذن من وكيل الملك، «تقاوم الصقيع» داخل «ثلاجة» ابتدائية ابن سليمان!»... وحكى الجوهري، الذي اشتد بكاؤه وصراخه وأُغمي عليه للحظات، بعد أن عادت به الذاكرة إلى يوم الاعتقال الثاني، كيف أن قريبة له مقيمة في فرنسا سمعت بالخبر وأرسلت إليه المبلغ المطلوب ليتم إطلاق سراحه ويبدأ رحلة «الإفراج» عن ملفه. تقدم محامون للدفاع عن قضية الجوهري، مجانا، فتمكن الشيخ من إقناع المحكمة الابتدائية بالحكم على الشخص الذي اتهمه بقبض العربون، بسنة ونصف سجنا نافذا، وعلى شريكيه بستة أشهر حبسا نافذا، لكل منهما. كما حُكم على الأشخاص الثلاثة بغرامات مالية متفاوتة، لكنه تفاجأ بأن أحدهم أدلى بشهادة الاحتياج، ليتم إعفاؤه من الأداء، كما طالب محامو الشيخ برفع الحصانة عن البرلماني والتحقيق معه، لكن طلبهم ظل حبيس الملفات. وتم تأييد الحكم، استئنافيا، وبلغ عدد الجلسات ثلاثين جلسة... محنة الشيخ ما تزال مستمرة ما زال الشيخ ينتظر من الجهات العليا مراجعة الحكم الذي صدر في حقه، ظلما وعدوانا. وقال الجوهري: «أريد اعترافا بأن القضاء أخطأ في حقي وأريد أن يعرف الجميع أن عملية النصب والتزوير التي تعرضت لها قضت على أسرتي وجعلتني مريضا، جسديا ونفسانيا».. مضيفا أنه ينتظر مراجعة الحكم، للحصول على شهادة البراءة وأنه ينوي اللجوء إلى المحكمة الإدارية، لرفع دعوى قضائية ضد وزيري العدل والداخلية. لم يكن محمد الجوهري، الذي ناضل منذ شبابه ليحصل على منصب عون سلطة في قيادة مليلة، التابعة لإقليم ابن سليمان، يتوقع أن ينتهي به تفانيه في عمله وتبعيته لقائده إلى سجن عكاشة، بتهمة النصب والتزوير، ويقضي وراء القضبان سنتين حبسا نافذا، تاركا أسرته، المكونة من ثمانية أطفال، عرضة للضياع والتشرد. تحقق حلم الجوهري سنة 1981، حين تمت المناداة عليه ليعين «مقدم» في القبيلة. قال الجوهري إنه كان مثالا للمقدم المخلص لقياده الذين تعاقبوا على قيادة مليلة، يبلغهم بالصغيرة قبل الكبيرة، وكان خدوما لقبيلته، رحيما بالمعوزين. يحرر شواهد الحياة والازدياد والوفاة والسكنى والاحتياج... وفق ما يقتضيه القانون، وأحيانا قائده، ووفق ما «تحتمه» عليه المهنة التي أصبحت مصدر قوت أسرته. عُرف الجوهري، الذي تابع دراسته حتى القسم الخامس الابتدائي، داخل قبيلته بنباهته وحسن تدبيره للأمور، مما جعله موضع ثقة العديد من السكان، رغم وظيفته «المخزنية» التي عادة ما تكون محط شبهة وحيطة وحذر.