من يحمي المقدمين والشيوخ من جشع وطمع (الخليفات والقياد والباشوات الفاسدين)...؟ من يضمن لهم الاستمرار في عملهم ويقيهم من جحيم الطرد والتشرد إذا ما قرروا الامتناع عن (تغميض العين) عن عمليات (تفريك البراريك) التي عادت لتؤثث معظم الجماعات القروية والمدن التي تغص بدور الصفيح؟ من يحميهم إذا رفضوا دعم المرشحين الموالين لرؤساهم والمشاركة في حملاتهم الانتخابية والسكوت على تجاوزاتهم قبل وأثناء يوم الانتخابات سواء منها الجماعية أو البرلمانية؟... من يقيهم من غضب وتسلط الأعيان وأشباههم ويبعدهم عن كل عمليات التزوير في شواهد السكنى والضعف والحياة والخطوبة... التي يعتمدها قائدهم إرضاء لجهات موالية له، أو مقابل رشاوى مالية؟ كثيرة هي المحن والمتاعب التي تفرضها محنة (المقدم أو الشيخ) على صاحبها دون أن يجد لها مخرجا يضمن له نهاية مهنية شريفة ويقيه نظرات عيون الناس الساخطة وخطر الوقوع في ما لا تحمد عقباه. فمهمة (المقدم والشيخ) لم يوفر لها قانون الشغل أي إطار صحيح لا من حيث رواتبهم الهزيلة، التي تتراوح بين 1800 و2000 درهم لدى الشيخ، وما بين800 و1200 درهم لدى المقدم، ولا من حيث تعويضات الأبناء الهزيلة، والتي تم تجميدها دونا عن باقي الموظفين والعمال في مبلغ 150 درهما عوض 200 درهم. وبمقابل الراتب الشهري وتعويضات الأبناء الهزيلة، نجد أن هذه الفئة المصنفة ضمن (أعوان السلطة) تؤدي خدمات جمة وبدون انقطاع وبعشوائية تسهل على رؤسائهم الإطاحة بهم، كلما قرروا التخلص من أحدهم، فهم مكلفون بمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن الأشخاص المقيمين داخل نفوذ ترابهم، ومطالبون بتقمص عدة مهام في التجسس وتوفير ملفات دقيقة عن الساكنة والوافدين الزوار مغاربة أو أجانب... ومراقبة عمليات البناء العشوائي والاحتلالات للملك العمومي ... والحرص على إبلاغ القائد أو خليفة المقاطعة أو القيادة بكل مريض أو متوف وبالحالة المادية والنفسية للأشخاص والأسر وانتماءاتهم السياسية والنقابية والحقوقية والجمعوية والدينية ... وإخضاع المشتبه فيهم في مجالات الإجرام أو التطرف... لمراقبة لصيقة ودائمة... وهم مرغمون على التواجد أثناء فترات العمل من أجل تحرير الشواهد الإدارية للساكنة... ومرغمون على العمل كعبيد لدى بعض المسؤولين مقابل الوقاية من شرورهم... وهم أول من يتهمون بكل عملية فساد فاح عطرها داخل القيادة أو المقاطعة. «المساء» التي حلت بتراب قيادة مليلة التابعة لإقليم ابن سليمان وقفت على مصير شيخ بقيادة (مشيخة) قيادة مليلة، أحدهما شيخ عجوز سابق لفقت له تهمة النصب والتزوير وحكم بالسجن سنتين نافذة وغرامة مالية قدرها ستة ملايين سنتيم، قبل أن يخرج من السجن ويكشف براءته. بداية تعيينه مقدم بالقيادة لم يكن محمد الجوهري الذي ناضل منذ شبابه ليحصل على منصب عون سلطة بقيادة مليلة التابعة لإقليم ابن سليمان، يتوقع أن ينتهي به تفانيه في عمله وتبعيته لقائده إلى الارتماء داخل سجن عكاشة بتهمة النصب والتزوير، ويقضي وراء القضبان سنتين حبسا نافذة، تاركا أسرته المكونة من ثمانية أطفال عرضة للضياع والتشرد. تحقق حلم الجوهري سنة 1981 حين تمت المناداة عليه ليعين مقدما بالقبيلة، قال الجوهري إنه كان مثالا للمقدم المخلص لقواده الذين تعاقبوا على قيادة مليلة، يبلغه بالصغيرة قبل الكبيرة، وكان خدوما لقبيلته رحيما بالمعوزين. يحرر شواهد الحياة والازدياد والوفاة والسكنى والاحتياج... وفق ما يقتضيه القانون وأحيانا قائده، وتحتمه عليه المهنة التي أصبحت مصدر قوت أسرته. الجوهري الذي تابع دراسته حتى القسم الخامس الابتدائي عرف داخل قبيلته بنباهته وحسن تدبيره للأمور، مما جعله موضع ثقة العديد من السكان رغم وظيفته المخزنية التي عادة ما تكون محط شبهة وحيطة وحذر. صراع الشيخ والبرلماني لم تكن طريقة اشتغاله داخل القيادة لتمر بسلام ودون مشاكل، فقد زرعت أمامه ألغام الأعداء والخصوم، وجعلته على مرمى حجر منهم. نفذ أوامر قائده فتصدى لعدة أطراف كانت تنوي التلاعب في وثائق إدارية وتزوير الانتخابات التشريعية والجماعية، ولم يخف أنه ارتكب عدة تجاوزات بأمر من قائده، واعتبرها جزءا من عمله. تمتم الجوهري وهو يردد: كنت وفيا للقائد فلان، أبلغه بالشادة والفادة ولا تفوتني أية معلومة أو خبر داخل منطقة مليلة، كنت فقط «مقدم» وكان كل المقدمين والشيوخ بالمنطقة يستشيرونني كنت أمثلهم كلهم، والدليل هو أنني مثلتهم بالرباط في ملتقى أعوان السلطة بداية التسعينيات... دخل المقدم في صراع مع أحد البرلمانيين والذي تعاقب لفترات على رئاسة جماعة مليلة، وأكد الشيخ أن البرلماني كان يخوض غمار الانتخابات بقوة كبيرة ونفوذ، معتمدا على علاقته مع وزير الداخلية الراحل إدريس البصري (كان جاره)،. قال الجوهري «كان شقيق البرلماني وسمساره يحاولان التدخل في عملي... يمليان علي أسماء لأشخاص يطلبون بعض الشواهد الإدارية (رخص البيع والشراء وشواهد الفقر...)، ويطالبوني بعدم تحرير شواهد لآخرين. كان سماسرته ينشرون بين الناس أن زعيمهم يوظف الشباب... دخلت معهم في صراعات علم بها الصغير والكبير بالمنطقة والإقليم، وبلغ صداها إلى كل العمال الذين تعاقبوا على تسيير شؤون الإقليم. وبعض هؤلاء كانوا يحلون عليه ضيوفا لتناول وجبات الغذاء في منزله. وأضاف عون السلطة: «وضعت له أحد جيرانه ليحرسه، وبدأ يعلمني بكل خطواته وكل ما يقع بمنزله، كنت أمنح الرجل الذي يتجسس عليه (جوج قوالب سكر ورابعة أتاي وألف ريال أسبوعيا ). وقد رفضت عروضه الكثيرة في أن أصبح مواليا له، ويكسب من ورائي ثقة الناس، لكنني كنت وفيا لقائدي». استغلال ورقة ممضاة على بياض للإيقاع بالشيخ قال الشيخ: «بدأ البرلماني يتابع كل ما أحرره من شواهد وكان يحرض بعض المواطنين على تقديم الشكايات ضدي كلما أخطأت في كتابة عنوان أو اسم أو صفة ما، وكان يحيلهم على بعض الصحف الوطنية من أجل التشهير بي. بدأت عمليات الانتقام، تنمو تدريجيا، بعدما رقي المقدم إلى شيخ للقيادة، كان الجوهري يأتمن أحد الموظفين (ضابط الحالة المدنية)، كان كلما تغيب، يترك له بعض الأوراق ممضاة على بياض، ويحثه على منحها لطالبي شواهد السكنى وبعض الشواهد الإدارية لبعض ساكنة القيادة، بلغ خبر الأوراق الممضاة على بياض إلى خصومه، فاستغل أحدهم خروج الموظف من مكتبه وعمد إلى سرقة ورقة ممضاة. انتقلت الورقة إلى العقل المدبر ليفاجأ الشيخ باستدعاء توصل به من وكيل الملك لدى ابتدائية ابن سليمان، ظن الشيخ أن في الأمر خطأ أو أن القضاء في حاجة إليه من أجل الإدلاء بشهادة بخصوص أحد سكان القيادة. انتقل الشيخ في الموعد المحدد إلى المحكمة، ليواجهه وكيل الملك بشهادة موقعة من طرفه تؤكد أنه قبض عربون خمسة ملايين سنتيم في عملية بيع عقار لا يملكه. وجاء في الورقة أن الجوهري توصل بمبلغ العربون مقابل قطعة أرضية تعود لسيدة قروية، وحدد لها ثمن عشرة آلاف درهم للمتر. قال الشيخ لوكيل الملك إن الورقة مزورة وقد سرقت منه، فرد عليه الوكيل: «مالنا عندنا لانازا ديال مريكان». عندها أدرك الشيخ أنه وقع تحت رحمة خصومه، وأن المؤامرة حيكت له بإتقان، وأنها تمت بين عدة أطراف أمنية وقضائية. الخروج من السجن والبحث عن البراءة خرج محمد الجوهري الشيخ السابق بقيادة مليلة إقليم ابن سليمان من السجن بعد أن قضى حوالي سنتين حبسا نافذة بتهمة النصب والتزوير، فيما ظل مطالبا بأداء مبلغ غرامة ستة ملايين سنتيم. وهي التهمة التي أثبت بعد خروجه أنها كانت ملفقة له من طرف أحد البرلمانيين وشركائه. عاد الشيخ إلى منزله ليعانق أفراد أسرته التي عانت كل المصائب والفقر، وجاء الإفراج بعد وفاة الملك الحسن الثاني، حيث تقلصت المدة. «عندما خرجت من السجن، يقول الجوهري، تجمع سكان القبيلة وأقاموا عرسا بالخيام والخيول. وفي اليوم الموالي أصبح شغلي الشاغل هو إظهار براءتي». انتقل إلى مدينة الرباط، حيث ارتمى في شوارعها، يبحث عن براءته، جالس كل من له ربطة عنق وبذلة نظيفة، استعطفهم وحكى لهم كيف تعرض لمؤامرة جماعية شارك فيها مسؤولون من عدة جهات... ظل يراقب الداخل والخارج إلى قبة البرلمان... أصبح زبونا لجميع المقاهي المقابلة للبرلمان، جالس السماسرة والشرفاء ... حمل أظرفه يوزعها على كل من رأى فيه هبة ووقارا، يستنجد بهذا ويبكي على ذاك إلى أن تم استدعاؤه من طرف وكيل الملك بابتدائية ابن سليمان الذي كان وراء اعتقاله. قال الجوهري: «ولجت مكتب وكيل الملك، الذي أمر باعتقالي بتهمة التزوير والنصب، فنهض من مكانه وعانقني وقال لي إنك والله مظلوم، وإن ساعدتني سأثبت براءتك... والله مكانعس من جيهتك...» وقبل أن أخرج من عنده حمل المصحف وقال لي: «ولله وتعاونت معايا لأوقعنا بهؤلاء المجرمين» وطلب مني أن أسجل اعترافاتهم. فطلب مني أن ألتزم بالكتمان في أداء مهمتي. تسجيل اعترافات خصوم الشيخ خرج الجوهري باحثا عن آلة تسجيل صغيرة، وتوجه إلى مدينة بوزنيقة حيث يوجد الشخص الذي أدلى بالوثيقة المزورة واتهمه بها. قال الشيخ: «من حسن الصدف أنني وجدت غريمي منذ الوهلة الأولى التي وطئت فيها قدمي المدينة، كان جالسا رفقة بعض السماسرة بأحد المقاهي. تقدمت إليهم، والألم يكويني، لم أتمالك نفسي من الغضب وقررت الانسحاب، لكنني تداركت الأمر وعدت لأبحث عنه إلى أن وجدته وتمكنت من استدراجه لقد كان متذمرا لما ألحقه بي وظل يردد طلبه لي بالعفو عنه، وقص علي جميع خيوط الشبكة التي أوقعت بي، مؤكدا على أن الاتفاق كان مع البرلماني خصمه مقابل خمسة ملايين سنتيم التي سيأخذها مني إن استطاعوا عبر المحكمة، وفي حال دخولي إلى السجن سيعطيه البرلماني خمسة ملايين جزاء له. وهو ما نفته جهات موالية للبرلماني، مؤكدة أنه لم يتعرض بأي أذى للشيخ وأنه لا دخل له بعملية التزوير. سجل الشيخ اعترافات الموظف ضابط الحالة المدنية الذي سرقت منه الورقة، كما سجل اعترافات شركائه واحدا واحدا، ولم يخف أنه أغلق آلة التسجيل حين بدأ أحد الأشخاص المتورطين في قضيته يتناول حديثا يضر بهما معا، ولم يكشف عن فحوى الحديث. أعطى الأشرطة لوكيل الملك الذي طلب منه العودة بعد أسبوع، حيث تم استدعاء الدرك القضائي الذين أخذوا الأدلة والشكاية والكاسيت، وطلبوا منه العودة صباح اليوم الموالي. ليجد الفريق ( الشركاء الثلاثة )الذي ورطوه في ملف التزوير، دون العقل المدبر وهو البرلماني صاحب الحصانة. اعتقال الشيخ للمرة الثانية لعدم أدائه الغرامة قال الجوهري: «لم ترقني تحركات عناصر الدرك الملكي حينها، ولا طريقة تعاملهم مع ملفي، فبعد ساعات من اعتقالهم للأشخاص الثلاثة المسجلة اعترافاتهم داخل شرائط صوتية، فوجئت بصدور أمر فوري باعتقالي إن لم أدفع قيمة الغرامة التي لازالت بذمتي رغم أنني أثبتت براءتي. تجند الكل من أجل اعتقالي وأحلت على نفس وكيل الملك الذي أمهلني شهرا لأتدبر المبلغ، حيث تم بعدها اعتقالي، فيما ظلت الدعوة التي رفعتها بإذن من وكيل الملك تعاني الجمود داخل ثلاجة ابتدائية ابن سليمان. وأضاف الجوهري الذي اشتد بكاؤه وصراخه وأغمي عليه للحظات بعد أن عادت به الذاكرة إلى يوم الاعتقال الثاني وكيف أن قريبة له مقيمة بفرنسا سمعت بالخبر وأرسلت إليه المبلغ ليتم إطلاق سراحه، ويبدأ رحلة الإفراج عن ملفه. الحكم على خصومه باستثناء البرلماني تقدم محامون للدفاع عن قضية الجوهري مجانا، فتمكن الشيخ من إقناع المحكمة الابتدائية والحكم على الشخص الذي اتهمه بأخذ العربون بسنة ونصف حبسا نافذة، وعلى شريكيه بستة أشهر حبسا نافذة لكل منهما، كما حكم على الأشخاص الثلاثة بغرامات مالية متفاوتة، لكنه تفاجأ بأن أحدهم أدلى بشهادة الاحتياج ليتم إعفاؤه من الأداء، كما طالب محامو الشيخ برفع الحصانة عن البرلماني والتحقيق معه، لكن طلبهم ظل حبيس الملفات. وتم تأييد الحكم استئنافيا. وقد بلغ عدد الجلسات ثلاثين جلسة. محنة الشيخ مستمرة لازال الشيخ ينتظر من الجهات العليا مراجعة الحكم الذي أصدر في حقه ظلما وعدوانا، قال الجوهري: «أريد اعترافا بأن القضاء أخطأ في حقي وأريد أن يعرف الجميع أن عملية النصب والتزوير التي تعرضت لها أهلكت أسرتي وجعلتني مريضا جسديا ونفسانيا» مضيفا أنه ينتظر مراجعة الحكم للحصول على شهادة البراءة، وأنه ينوي اللجوء إلى المحكمة الإدارية لرفع دعوى قضائية ضد وزيري العدل والداخلية. وإنه يطالب بفسخ قرار الطرد من عمله، ومنحه أي عمل بديل يمكنه من تعويض جزء مما أتلفته التهمة التي لفقت له، خصوصا أن حالته الصحية لم تعد تسمح له بالاجهاد في العمل.