«نحن كمسلمين نؤمن بأننا حين نموت نذهب إلى الجنة، وقبل خوضنا المعركة تأتينا السكينة من عند الله سبحانه وتعالى. مرّة كنت على بعد ثلاثين مترا فقط من القوات الروسية، وكانوا يحاولون الإمساك بي، كنت تحت وابل من القصف، لكن بردا وسلاما كانا يملآن قلبي حتى إنني شعرت بالنعاس وغفوت، هذه التجربة وردت كتابات عنها في أقدم كتبنا، لقد رأيت قذيفة مورتر من عيار 120 ملم تسقط أمامي ولكنها لم تنفجر. أربع قنابل أخرى ألقيت من طائرة روسية على مقر قيادتنا لكن ولا قنبلة من الأربع انفجرت. لقد هزمنا الاتحاد السوفياتي، لقد هرب الروس»، يقول أسامة بن لادن في مقابلة صحفية، تحدث فيها عن بعض تفاصيل قصة شهيرة لإحدى مواجهاته مع القوات السوفياتية، والتي تثير سخرية المعلقين الغربيين فيصنفونها في خانة الأسطورة والأحداث البطولية المضحكة. القصة جرت سنة 1986، وتتحدث عن تعرض أحد معسكرات بن لادن لهجوم روسي أثناء وجوده به، بكل ما تعنيه عبارة القوات الروسية من أسلحة ثقيلة وطيران وصواريخ... بينما بصحبة بن لادن بضع عشرات من المقاتلين؛ كان المعسكر يوجد بالقرب من الحدود الباكستانية، ويطلق عليه اسم جاجي؛ وبينما تقول القصة إن المقاتلين الأفغان انسحبوا بحذر، رفض المجاهدون العرب مغادرة المكان رغم أن بن لادن طالبهم بالانسحاب. واستمرت المعركة على مدى أزيد من عشرة أيام، صمدوا خلالها إلى أن بعث القائد الأفغاني عبد الرسول السياف بتعزيزات قتالية، قامت بنجدة بن لادن ومن بقي حيا من مرافقيه. لكن المشكلة الأفغانية قبل أن تكون مطية جهادية وأرضا لتحالفات عجيبة وحروب بالنيابة، كانت ملفا سياسيا دوليا تمخضت تناقضاته عن تجربة قتالية فريدة من نوعها. بدأت قصتها بانقلاب داخلي عام 1978، صعد على إثره الحزب الشيوعي لأول مرة إلى الحكم بأفغانستان، مما أشعل فتيل مواجهات داخلية انتهت بطلب الشيوعيين نجدة الجيش السوفياتي، والذي لم يتأخر في دخول ساحة المواجهة عام 1979. الجبهة التي تولت التصدي للحكومة الشيوعية الأفغانية والجيش الروسي كانت ترفع راية الانتماء الإسلامي، وهو ما التقطته الجهات المهددة بالوجود السوفياتي، بدءا من باكستان وانتهاء بالولايات المتحدةالأمريكية. باعتبار هذا المستجد الجيوستراتيجي بمثابة سقوط ل«جدار النار» ما بين العالم الإسلامي والعالم الشيوعي السوفياتي، مما أفضى إلى تطابق عجيب بين موقف العالمين العربي والإسلامي، والاتجاه الغربي داخل الأممالمتحدة. نتج عن هذا التوافق إصدار قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين الغزو الروسي ويطالب موسكو بسحب قواتها. وانعقدت دورة طارئة لوزراء خارجية الدول الإسلامية بإسلام أباد في يناير 1980، نصت في قرار لها على موقف مماثل مع مقاطعة الألعاب الأولمبية في موسكو، مع تعليق عضوية الحكومة الأفغانية المتواطئة مع السوفيات. وبدأ مسلسل الدعم الإسلامي ل«الجهاد الأفغاني»؛ لكن هذا المفهوم لم يظهر في السجلات الرسمية لمنظمة المؤتمر الإسلامي إلا في قمتها عام 1986 بمدينة فاس؛ حيث قرر المؤتمر دعم المقاومة الأفغانية في تحرير البلاد والحفاظ على هويتها الإسلامية، فيما قرر المؤتمر الوزاري للدول الإسلامية عام 1989، بمبادرة من السعودية، أن تحل حكومة «المجاهدين» محل الحكومة الشيوعية في عضوية المنظمة الإسلامية. «ففي أثناء الحرب ضد السوفيات في أفغانستان، اختير أسامة ليكون أداة، ولو ثانوية في البداية، للسياسة السعودية التي وُضعت لجمع التبرعات دعما للجهاد الأفغاني. كان الأمير سلمان -إلى جانب الملك فهد وهما من الحلقة الضيقة للأشقاء السبعة الذين ولدوا للملك عبد العزيز من زوجته المفضلة حسا- مسؤولا عن تنظيم أعمال الإغاثة والمساعدات الإنسانية لملايين الأفغان الذين هربوا من الحرب ولجؤوا إلى باكستان. بعد مرور سنتين على انطلاقة الجهاد، تم في أوائل عقد الثمانينيات تشكيل لجان لجمع التبرعات في كل مناطق المملكة، وكان أمير كل منطقة يطلب من العائلات المعروفة وذات المكانة أن تسمي مندوبا عنها عضوا في اللجنة تشجيعا للمزيد من المتبرعين. أسامة كان خيار عائلة بن لادن، ويبدو أن العائلة بنت خيارها على اعتبار أسامة أكثر الإخوة تدينا»، يقول الأمريكي جوناثن راندل في كتابه. مصادر أخرى تقول إن انضمام أسامة إلى حملة جمع التبرعات كان بالنسبة إلى العائلة ضربا لعصفورين بحجر واحد، أولهما جمع شمل العائلة وإظهارها بمظهر الوحدة والتماسك والتضامن من خلال دعم ابن الأسرة الطامح إلى الجهاد، وثانيهما تثبيت رضا الملك فهد ومن خلفه الأمريكيين في حربهم ضد الشيوعيين، وبالمرة التخلص من الشاب المزعج الذي أبدى غضبه الشديد لاستعانة المملكة بالقوات الغربية في قمع عصيان سنة 1979، الذي احتل خلاله متشددون المسجد الحرام. بينما كان المتطوعون للعمل إلى جانب المقاومة الأفغانية ينقسمون تنظيميا إلى فئتين، الأولى تتوجه إلى تقديم الإغاثة والإسعاف والمساعدات الإنسانية، وتشكلت أساسا من الحركات الإسلامية «المعتدلة» كحركة الإخوان المسلمين؛ حيث كان أساتذة ووعاظ وأطباء ومهندسون يخصصون قسما من السنة للخدمة في أفغانستان أو الحدود الباكستانية، بالإضافة إلى «المحسنين» الراغبين في السهر شخصيا على حسن تدبير المعونات وإيصالها إلى اللاجئين والمقاتلين، فيما الفئة الثانية تتوجه مباشرة إلى القتال والتدريب العسكري، وهنا التقت كل التنظيمات الإسلامية المتشددة والطامحة إلى الحصول على ميدان للتدريب ورص الصفوف، مستفيدة من قدوم آلاف المتطوعين لتلبية نداء «الجهاد». وهنا بدأت تتشكل تنظيمات ما يسمى حاليا ب«الأفغان العرب»، والذين سيشكلون نواة للتنظيم الخاص بأسامة بن لادن الآخذ في الانتقال بهدوء من الفئة الأولى إلى الثانية، ليجمع بين دور الإغاثة والدعم المالي ومهمة القيادة الميدانية والعمل المسلح، تمهيدا لنسج خيوط شبكة «القاعدة».