الحلقة 33 : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected] هل ساعدك دلمي أو بليزيد في وضع تبويب أو تصميم «الماكيط» الخاص ب«الصباح»؟ - إطلاقا، وبصراحة لم أطلب منهما ذلك، ولا أعتقد أن لهما دراية في هذا المجال. دلمي أستاذ جامعي في مجال القانون الدستوري، جاء إلى مهنة الصحافة من بوابة المقاولة، وخالد بليزيد كان يعمل في قطاع النسيج ثم انتقل إلى العمل المقاولاتي. كلاهما يكتب نعم، لكن ليس كل كاتب صحافي. هل تقصد القول أن دلمي وبليزيد ليست لهما علاقة بالصحافة؟ -الأهم في هذا كله هو أن كتابة المقالات شيء والصحافة بالمعنى المهني شيء آخر. وضعت شخصيا التبويب والزوايا والتصميم لجميع الصفحات، وقررت الاستعانة بمخرج متخصص يقيم في لندن لتنفيذ «الماكيط» وتصميم «لوغو» الصحيفة. وفعلا جاء المخرج من لندن وعملنا سويا في إنجاز «الماكيط»، حيث لم يدم عمله سوى ثلاثة أيام. راج أنك اشترطت أن يتقن كل من سيعمل معك في «الصباح» اللغة الإنجليزية؟ - الذي حدث أني اشترطت أن يتقن أي محرر لغتين كحد أدنى. وبصراحة، كانت حظوظ من يتحدثون الإنجليزية والإسبانية أفضل من الذين يتحدثون الفرنسية، إلى جانب العربية بالطبع. كنت أريد أن تنفتح الصحيفة على آفاق أخرى، إذ أن سوق الصحافة المغربية متشبعة بالفرنسية، وبالتالي إذا سرنا في اتجاه الانفتاح على كل ما هو فرنسي سيصبح ذلك تكرارا لما هو موجود ومتاح، ولن تكون هناك إضافة يعتد بها. ليس لدي أي موقف من الفرنسية، بل بالعكس أحبها كلغة، وأعتبرها اللغة التي نقلت للعالم أعظم الآداب والفنون، وأبنائي درسوا في مدارس البعثة الفرنسية، لكن لدي تحفظات كثيرة على عقليات «الفرانكفونيين»، الذين يعتقدون أن التحضر والحداثة حكر عليهم، أو هؤلاء الذين يحتقرون اللغة العربية فقط لأنهم لا يعرفونها. كنت أقول للمحررين: «ربما يكون مفيدا في بعض الأحيان أن نفكر بالإسبانية أو الإنجليزية أو الفرنسية ونكتب بالعربية». لذلك كان معظم طاقم «الصباح» يتقن الإنجليزية والإسبانية، وكان من يتقن الفرنسية إلى جانب العربية ثلاثة صحافيين فقط من هيئة التحرير. هل أفهم من كلامك هنا أن مسؤولي «إكوميديا» كانوا «يحتقرون» اللغة العربية؟ - ليس بهذا المعنى، لكن ما هو مؤكد أنهم كانوا يعتدون باللغة الفرنسية ويعتبرونها مفتاح التحضر. كيف كانت الأجواء قبل إصدار العدد الأول من الصحيفة؟ ألم تكن هناك مشاكل؟ - لم تكن هناك مشاكل، ثم إن روح الفريق سادت بين أفراد الطاقم، خاصة أن عددهم كان صغيرا. نحن نتحدث عن 14 محررا فقط، على الرغم من أن لكل واحد فيهم ميولات فكرية مختلفة، إذ كان فيهم الليبرالي والاشتراكي والإسلامي، وكنت قد تعمدت هذه الفسيفساء. كانت لدى الجميع رغبة وحماس للانخراط في التجربة. يجب أن نضع في الاعتبار أنها أول صحيفة مغربية مستقلة بالمعنى الحقيقي. صحيح صدرت «الأحداث المغربية» قبل ذلك، لكنها كانت، قطعا، محسوبة على تيار داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ثم إن مجلس إدارتها كان يضم أعضاء في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي. «الأحداث المغربية» هي «مستقلة»، بمعنى أنه لا يصدرها حزب، لكنها ليست «مستقلة» كما نفهم من دلالات هذه الكلمة في القاموس الصحافي المهني. لنتوقف الآن عند ما تسميه أنت «الكوكبة ال 14» التي قادت معك «الصباح» منذ البداية. هل يمكن أن ترسم لنا صورة قلمية عن البعض منهم؟ - نعم، وكما أسلفت، كان أول محرر قدم طلبا للالتحاق بالصحيفة هو أحمد جلالي. درس جلالي الأدب الإنجليزي في القنيطرة وتابع دراسته في مدرسة الملك فهد للترجمة، وهو صحافي جيد في مجال التحقيقات والاستطلاعات ولديه أيضا اهتمام بالأدب وبالموسيقى. أتذكر أنه قال أثناء عملية المعاينة «يمكن أن أعمل في جميع الأجناس الصحافية، لكن ليس الرياضة». عيبه الوحيد أنه ملول، وكان قد أنجز إلى جانب عبد الله الدامون وأحمد غيلان استطلاعا رائعا حول «الحراكة» سأتحدث عنه لاحقا. التحق أيضا بالطاقم عمر جاري، الذي كنت تعرفت عليه في «الحركة». وكما أسلفت جاءت معي نادية البوكيلي من «المنعطف»، وكانت البوكيلي قد عملت معي أيضا في «الحركة»، وهي الوحيدة من الصحافيات، التي ما تزال تعمل في «الصباح». كما جاء معي من «المنعطف» كل من محمد الناسك وعبد الله دجاج. الناسك يعمل حاليا في قطر، وعبد الله دجاج ما يزال هناك، تارة يرقى إلى رئيس تحرير وتارة يخفض إلى محرر. بعد مغادرتي «الصباح»، واصل الاشتغال باسمه الصحافي، أي «عبد الله نهاري»، لكن اسمه الحقيقي هو عبد الله دجاج، وهو أمر لا أجد فيه أي غضاضة. نحن لا نختار أسماءنا الشخصية أو العائلية. عندما جاء وعمل معي في «المنعطف» قلت له هذا الاسم «دجاج» ليس اسما صحافيا، وفي ذهني حكاية صحافي صديق من أشهر الصحافيين المغاربة، هو الزميل نجيب السالمي، الذي عملت رفقته عندما كنت في «العلم»، وهو مسؤول القسم الرياضي في «لوبنيون»، وما يزال هناك يتولى المسؤولية نفسها. إذ المعروف أن اسمه الحقيقي هو سعيد حجاج، ولكن اتخذ من نجيب السالمي اسما صحافيا، إلى حد أن عددا كبيرا من الناس لا يعرفون اسمه الحقيقي. لكن لماذا اخترت لقب نهاري بدل لقب آخر؟ - لهذا الاختيار رواية ينبغي أن تروى. ودعني أقول هنا إن لفظة «دجاج» تحيل على صياح الديك في الفجر، أي بداية النهار، لذلك فهو طائر محبوب لأنه يذكرنا دائما أن شمس يوم جديد أشرقت، وأن نهارا قد طلع. كما لا ننسى أن من أفضل الصحف العربية، التي تجر خلفها تاريخا حافلا في هذا المجال المهني، صحيفة «النهار» اللبنانية، التي تتخذ من الديك شعارا لها، وكان أن ورد بذهني اسم «نهاري»، المشتق من النهار، وأعتقد أنه اسم صحافي جميل، ودليلي على ذلك أن عبد الله دجاج احتفظ به، وربما لم يعد اسم «دجاج» موجودا إلا في الأوراق الرسمية. ألم يعترض على ذلك؟ ولماذا يعترض؟ هل باشر الصحافيون العمل فورا؟ - دعني أقول إن الطاقم الأول كان يضم كذلك خالد خاتم، وهو الآن يعمل في الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري التي تعرف باسم ال»هاكا»، ثم هناك فاطمة موسى، التي انتقلت بعد ذلك إلى لندن، وفي آخر اتصال لي معها عرفت أنها تقيم حاليا في الإمارات، ثم خديجة درايسي التي انتقلت إلى العمل الديبلوماسي، وتعمل حاليا في سفارة المغرب في مدريد، أظن برتبة وزيرة مفوضة. وهناك محمد الخياطي، الذي أصبح مسؤولا إعلاميا في منظمة المؤتمر الاسلامي، وأحمد غيلان، الذي يعمل في الوقت الحاضر في الأممالمتحدة بنيويورك، وحفيظ بنخويا، وهو في وكالة المغرب العربي للأنباء ومكلف بتغطية الأنشطة الملكية، وصلاح الدين القشيري، الذي عمل إلى جانب حسن العطافي في القسم الرياضي. وسيلتحق بعد ذلك بهذا الطاقم كل من عبد الرشيد الزبيري وفتيحة أعرور. طلبت من كل واحد من المحررين أن يختار المجال الذي يجد فيه نفسه. لم أفرض على أي أحد عملا محددا، وهكذا تولى رشيد نيني رئاسة القسم الثقافي، وحسن العطافي رئاسة القسم الرياضي، ونادية البوكيلي عملت في مكتب الرباط واهتمت بالجوانب الاقتصادية، وتكلف عمر جاري بتغطية الساحة السياسة والحزبية من الرباط، وعمل أحمد جلالي في مجال التحقيقات والاستطلاعات وصفحات المجتمع، ووزع عبد الله الدامون جهده بين السياسة والثقافة والاستطلاعات، وعمل محمد الناسك في التغطيات الثقافية، في حين تفرغ حفيظ بنخويا للأخبار والحوارات السياسية، وأحمد غيلان للاستطلاعات، وخديجة درايسي للأخبار وترجمة الكتب، وخالد خاتم في صفحات المجتمع والترجمة، ومحمد الكياطي في الأخبار، وعملت فاطمة موسى معي في الصفحة الأولى، وبالطبع كانت هناك مساهمات منتظمة لباقي المحررين في أخبار وتقارير الأولى، في حين دأب رشيد نيني على كتابة القصة الملونة في الصفحة الأولى بأسلوبه الساخر المميز. وفي أول عدد من «الصباح» كان هو من كتب القصة الملونة. كان الجميع يتناوبون على كتابة عمود في الصفحة الأخيرة بعنوان «مزح يمزح». وفي قسم التصحيح كان هناك عبد الكريم مفضال وهشام فتحي، وفي القسم التقني سعيد أوشقرون ومحمد مشعال وسعيد دحان وناصر جبريل، وفي الكتابة كانت كل من مليكة الحبشة وأمينة كندي، التي ستدرس بعد ذلك الصحافة وانضمت إلى الطاقم بعد أن غادرت، ثم انضم آخرون سأتحدث عنهم لاحقا. منذ البداية انهمك الجميع في كتابة مواد العدد صفر، واستطعنا إصدار أول عدد صفر في السادس من أبريل عام 2000. ولماذا اخترتم العاشر من أبريل كأول يوم للصدور؟ - كان يفترض أن يصدر أول عدد في فاتح أبريل، أي بعد أربعة أسابيع من العمل كما توقعت، لكن اقترحت على عبد المنعم دلمي تجنب «فاتح أبريل» لأنه يتصادف مع ما هو شائع عند الناس، أي «كذبة أبريل». وصراحة، اخترت العاشر من أبريل لأنه يتصادف مع تاريخ ميلاد ابنتي الكبرى «رؤى»، وما يحمله هذا التاريخ من حمولة عاطفية لي شخصيا. ومما ساهم في ترقب الناس للصحيفة أن الشركة أطلقت حملة إعلانات، كان أهمها وصلات إعلانية في إذاعة «ميدي1»، وكان شعارنا «في الصباح كل رأي مباح»، وقلنا أيضا «في الصباح نكتب ماذا يريد القارئ لا ماذا نريد نحن». وكيف كانت الأجواء قبل صدور العدد الأول؟ - أتذكر أن الصحيفة تحولت إلى خلية نحل. شباب متحمسون جدا في أجواء ديمقراطية، يتحدثون في اجتماعات التحرير بما يعتقدون، وكل من له وجهة نظر يبديها بحرية تامة، سواء تعلق الأمر بالخط التحريري أو بالمواد. وكيف كانت العلاقة مع الإدارة؟ - كانت إيجابية بكيفية عامة، وكنت أرفض أي نوع من أنواع التدخل من الإدارة، سواء في الأجور أو المكافآت أو الانتدابات. وبالنسبة للظروف المادية والمعنوية أعتقد جازما أنها كانت من أفضل الظروف، التي اشتغلت فيها خلال مسيرتي المهنية. الصحافيون مرتاحون جدا: مكاتب أنيقة وكومبيوترات جديدة وهواتف حديثة وقاعة تحرير عصرية. بعد إرسال العدد الأول إلى المطبعة، التي تمتلكها الشركة، ذهبت رفقة دلمي وبليزيد إلى المطبعة، وغمرنا الفرح ونحن نتصفح العدد الأول، الذي تقرر أن يوزع مجانا أمام محطات القطارات والحافلات وأمكنة تجمع الناس، خاصة في الدارالبيضاءوالرباط. استقبلت الصحيفة بترحاب ملحوظ لعدة أسباب، السبب الأول أن «الماكيط» يختلف كثيرا عن باقي الصحف، وبعض الناس قالوا إنها تشبه الصحافة المشرقية، لكنها في الواقع كانت تشبه نفسها. أما السبب الثاني فهو الحياد والموضوعية اللذان جعلا لنا علاقة طيبة مع جميع التيارات والسلطة. وأقول أيضا إن أولئك الشبان كانوا متميزين، لغتهم ممتازة جدا من حيث الأسلوب والإتقان. لذلك كان طبيعيا أن يكون من بينهم الآن ناشرون ورؤساء تحرير وديبلوماسيون وأساتذة جامعات. وما هو سقف المبيعات في أول عدد من الصحيفة؟ - وصلت مبيعات أول عدد الى حدود 14 ألف نسخة، وهذا رقم ممتاز جدا، وظلت أرقام التوزيع تتصاعد، وبلغت ذروتها عندما نشرنا «خبطة صحافية» تتعلق بخطأ قضائي أرسل شخصين إلى السجن المؤبد من مدينة الجديدة إلى سجن آسفي، بعد أن اتهما بقتل سيدة من «بائعات الهوى»، لكن القاتل الحقيقي سيظهر بعد سنوات. كان هناك اهتمام بأخبار الأقاليم والمدن، وعينت مجموعة كبيرة من المراسلين، وأعتقد أن من بينهم من ظل يعمل مع الصحيفة حتى الآن، ثم فكرت في مرحلة لاحقة بنقل محررين من التحرير المركزي إلى بعض المدن الكبرى كمراسلين، وأتذكر أني تحدثت في هذا الشأن مع عبد المنعم دلمي، حيث كنت قررت أن أبدأ بنقل عبد الله دجاج إلى أكادير وفتيحة أعرور إلى فاس. وعلى الرغم من أن عبد الله الدامون كان سيشعر بالسعادة إذا عاد إلى طنجة، لكن كان رأيي أن التحرير المركزي يحتاج إلى جهده، وفكرت في أن يتحول إلى مراسل أساسي متجول. لنعد إلى مبيعات «الصباح». ما هو ثابت في هذا السياق أن مبيعات الصحيفة لم تكن في البداية دائما في تزايد، بل عرفت أحيانا بعض التراجع؟ - في البداية كانت المبيعات دائما في تصاعد، صحيح كانت تتراجع في بعض الأحيان، لكنها عموما كانت في تزايد. على سبيل المثال حققت رقماً كبيراً خلال شهر غشت، اي خلال العطلة الصيفية، وصراحة كان طموحي أن نصل في السنة الأولى إلى رقم 50 ألفا على أن يتصاعد هذا الرقم ليصل إلى 200 ألف نسخة خلال السنوات الأولى. لكن عندما بدأت العواصف هبوبها، وأتضح ان مسألة خروجي تطبخ في سرية تامة، سيحدث أمران: الأول، أن خالد بليزيد قرر عدم تزويدي بأرقام التوزيع بحجة أن ذلك يضمن عدم تسربها، والأمر الثاني، الذي سأكشف عنه لأول مرة، أن رسالة أرسلت إلى شركة «سابريس» وصلتني نسخة منها تقترح عليهم التوقف عن طلب المزيد من النسخ. كانت الحجة أن ارتفاع أسعار الورق يجعل المطالبة برفع أرقام السحب عملية غير مربحة، ولعل الغريب أنه سيقال بعد ذلك أن من بين أسباب إقالتي تراجع أرقام المبيعات. كيف كان رد فعل دلمي بعد صدور الأعداد الأولى؟ - كان سعيدا للغاية وراضيا كل الرضى، وقال لي «أهنئك على هذا المستوى وعلى الماكيط وأسلوب العمل وعلى استقطاب هؤلاء الشباب وما إلى ذلك». كان في غاية السعادة حينما تلقى الأرقام الأولى للتوزيع، وأبلغني أنه قرر تنظيم حفل استقبال ضخم في الدارالبيضاء تعبيرا عن تقديره لهذه المجموعة الشابة، وهو حفل لم ينظم قط، إلى درجة أني أصبحت أتشاءم عندما أسمع اقتراحا حول تنظيم حفلات التكريم. كان دلمي يتجاوب مع جميع طلباتي، وكلها كانت تدخل في تدعيم عمل التحرير، وما زلت إلى يوم الناس هذا محتارا كيف انقلب عبد المنعم دلمي 360 درجة، وما زلت لا أصدق أن بعض الدسائس، التي تورط فيها عنصران من التحرير مع خالد بليزيد، هي سبب هذا الانقلاب. هل صحيح أن إعفاءك من «الصباح» جاء بضغط من «جهات نافذة» في الدولة؟ - سأحكي لك في هذا السياق الرواية التي سمعتها، وهي رواية غير موثقة ومؤداها أن دلمي تلقى إشارات من جهات مهيمنة داخل الدولة أدت إلى قرار إقالتي في نوفمبر عام 2001، لكني شخصيا، وكصحافي، لا أستطيع تصديق رواية ما، إذا لم تتوفر لدي معطيات دقيقة، فأنا لست من هؤلاء الذين يركنون إلى تصديق كل ما يقال،لأنه يجعل منهم ضحايا. من هما المحرران اللذان قلت إنهما شاركا في حياكة الدسائس ضدك؟ - هل تعتقد أني سأخفي اسميهما؟. نحن نتحدث عن وقائع. اطمئن سأذكرهما، وسأسرد ما لدي من وقائع، لكن قبل أن أصل إلى هذه النقاط المظلمة، دعنا نتذكر الإشراقات. طيب، وما هي الجهة داخل الدولة التي تعتقد أنها أشارت على دلمي بإخراجك من الصحيفة؟ - لو كانت لدي معلومات موثقة لما ترددت في أن أحدد هذه الجهة. ما سمعته أننا عندما نشرنا استطلاعا بعد هجمات سبتمبر عام 2001، جاء في خلاصة ذلك الاستطلاع أن أغلبية من المغاربة معجبون بزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، أتذكر أن ذلك الاستطلاع أثار استياء السفارة الأمريكية، إلى حد أن مارغريت تاتويلر، السفيرة الأمريكية في المغرب في ذلك الوقت، قدمت احتجاجا على ذلك الاستطلاع. والواقع أن الاستطلاع نظمته «ليكونوميست» بالاشتراك مع معهد في الدارالبيضاء، وكان يفترض أن تنشره يوم الاثنين، وبما أن «الصباح» كانت تصدر يوم السبت، في حين تحتجب «ليكونوميست» عن الصدور يومي السبت والأحد، فقد اقترح علي دلمي نشره بالعربية، على اعتبار أن قراء «ليكونوميست» ليسوا هم قراء «الصباح»، وكان ذلك بالضبط ما حدث. ما استطعت التأكد منه ومن مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية، عندما كنت في واشنطن، أن السفيرة تاتويلر قدمت بالفعل احتجاجا في ذلك الوقت، لكن باقي الرواية لا أستطيع أن أجزم بمدى صحتها. ما هي انطباعاتك الشخصية عن عبد المنعم دلمي؟ - أقول بكل موضوعية إنه شخص في غاية التهذيب ودمث، لم أسمع منه أي كلمة جارحة أو خارجة عن اللياقة طوال الفترة التي عملت معه فيها. كما أنه لم يكن يتخذ أي إجراء دون أن نتشاور حوله، وحتى بعد أن غادرت الصحيفة ظلت علاقتنا طيبة، بل زرته قبل سفري إلى أمريكا، واتصلت به أكثر من مرة وأنا في واشنطن، وعندما عدت من هناك طلبت زيارة المقر الجديد للصحيفة في بادرة ودية، وعندما وصلت إلى مباني الشركة أبلغني خالد الحري، رئيس التحرير، بأن دلمي يقترح أن أمر عليه، وبالفعل زرته في مكتبه وتجاذبنا أطراف الحديث، وأتذكر أنه رافقني من مكتبه في الطابق الرابع إلى الطابق الثاني حيث يوجد محررو الصحيفة، بل اقترح علي الحري أن أفكر معهم في الطريقة التي ستحتفل بها «الصباح» بمناسبة ذكرى مرور عشر سنوات على صدورها. وكما سبق أن أوضحت في رسالة مفتوحة إلى دلمي، تكفلت نادية البوكيلي من مكتب الرباط بإجراء حوار معي، بيد أن ذلك الحوار لم ينشر على الرغم من أنه تم تركيبه، وكتبت الصحيفة في ملحق صدر بالمناسبة أن البداية كانت متعثرة، وتعابير كلها غمز ولمز، ومحاولة لتبخيس عمل رائع قام به 14 محررا. وهذا أمر يدعو إلى الحيرة حقا. أقصد هذه التحولات من موقف إلى آخر، سواء في عام 2001 أو في 2010. لقد تبدلت بي المنازل، لكني لم أتبدل، ولم أفهم كيف يتبدل الآخرون بهذه الكيفية، وما الداعي إلى ذلك أصلا. إذا اختلفت مع شخص أختلف معه تحت الشمس، ولا أضطر إلى نسج الروايات والحكايات. وكيف كانت علاقتك مع خالد بليزيد خاصة أنك هاجمته بعد خروجك من «الصباح» وقلت «إنه لا يفرق بين المبتدأ والخبر»؟ - خالد بليزيد موضوع آخر. منذ البداية أراد أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة. شخصيا أعتقد أن ذلك من حقه، فهو الشخص الثالث في المؤسسة، لكن أي نوع من التدخل؟ هذا هو السؤال. كان يريد صراحة أن يكون هو رئيس التحرير الفعلي، كما سيحدث بعد ذلك، ولم أكن أسمح لنفسي بأن أتحول إلى «صبي لدى مدير عام» على غرار «صبي المعلم» في مجال الصناعة التقليدية، إذ هناك فرق شاسع بين صناعة «البلاغي» وصناعة «الصحافة». في البداية كنا نلتقي ونتحاور في احترام وبطريقة موضوعية بشأن الأمور التحريرية، وكان ذلك باقتراح من طرف دلمي نفسه، لكن شعرت بعد فترة بأنه يريد أن يغير الخط التحريري، بل حاول حتى التدخل في مواضيع العمود الذي كنت أكتبه في الصفحة الأخيرة بعنوان «هنا والآن». كنت أناقشه بأدب ولباقة، لكن أيضا بطريقة حاسمة. لم يكن ممكنا قيادة المركب بدفتين، وفي ظني أن هناك رابطة دقيقة بين المهنة والموقف، والصحافي يتمنى دائما الحرص على تخوم مهنته، حتى لو كان الثمن أن يفقد موقعه.