لم يخف إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، إعجابه بثلاثة رجال كان يصنفهم بأنهم «رجالات دولة»، فقد اشتغل إلى جانبهم وانقلب عليهم وخاض مع بعضهم صراعات في كواليس المربع الأقرب إلى أهل القرار. أولئك الرجال هم الجنرالان محمد أوفقير وأحمد الدليمي، والمستشار أحمد رضا كديرة. وكان يروق للبصري، في أيامه الأخيرة، أن يردد أنه رابعهم في الوفاء للعرش، غير أن أحدا لا يمكن أن يشارك الرأي في وفاء الجنرال أوفقير، الذي كان أكثر إعجابا به، وربما أن القاسم المشترك بين أوفقير وكديرة هو أن الرجلين معا عملا وزيرين في الداخلية، التي استلمها البصري القادم من نفس المدرسة، مع إضافة بعض التوابل على طبخاتها الانتخابية وغير الانتخابية، لكنه عمل مديرا لديوان الدليمي حين كان الأخير مديرا عاما للأمن، والتقى معه في ما يشبه الند للند عندما عينهما الملك الراحل الحسن الثاني مسؤولَين في الاستخبارات، البصري على رأس مديرية حماية التراب الوطني، التي لم يغادرها إلا في صيف 1999، والثاني مسؤولا أول عن مديرية الدراسات والمستندات (لادجيد)، التي أبعدته عنها حادثة سير قاتلة في مطلع عام 1983. هنا سلسلة حلقات عن رجل الشاوية القوي، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تغوص في أعماق تجربته، بما عرف عنه وما لم يكن متداولا على نطاق أوسع. لم تتحقق رغبة إدريس البصري في أن يدفن في الشاوية، فقد صارع نفسه كثيرا في الأيام الأخيرة، مؤكدا أن موته مجرد إشاعة، وأنه كان يتكفل بالإجابة عن استفسارات حول موته المزعوم، لولا أن الأقدار كانت أكبر من قدرته، إذ تصبح الحقيقة الأولى والأخيرة في قانون الطبيعة وسنة الحياة هي الموت، حيث ووري جثمانه في مقبرة الشهداء في الرباط بحضور رمزي للسلطة وبعض الصداقات القديمة التي لم تنل منها الأيام في أواخر سبتمبر 2007. في الحقيقة، كان ذلك موته الثاني، فقد تمكن منه الموت السياسي غير الرحيم في اليوم الذي غيب فيه الموت الملك الراحل الحسن الثاني، وظل أحد أبنائه يردد على الدوام أن مشكلة والده أنه لم يدرك أبدا أن الحسن الثاني قد مات، فقد كان أبعد شيء إلى عقله أن تحصد الموت أرواح البشر ومشاريعهم وقناعاتهم، ولعله المغربي الوحيد الذي ظل يعتقد في خطة استفتاء الصحراء الميتة أصلا، أما لماذا؟ فلأنه لم يقبل فشله ورفض الاعتراف به في إدارة ذلك الملف، وكم كان وقع خلاصات لجنة تحديد الهوية التي أقرت بوجود أكثر من 45 ألف صحراوي تنطبق عليه معايير تحديد الهوية من الطرف المغربي، في مقابل حوالي 30 ألفا في مخيمات تيندوف، وبضعة آلاف في موريتانيا، مؤثرا وصادما، ليس لأن المناورات التي سادت أعمال لجان تحديد الهوية توخت تخفيض أعداد الهيئة الناخبة الموالية للمغرب فقط، ولكن لأن المشروع الذي تبناه البصري وسخرت له الدولة كافة الوسائل لدمج صحراويي الأقاليم الشمالية في الهيئة الناخبة، استنادا إلى المعايير التي وضعت لهذه الغاية، لم يدر بالطريقة المثلى التي تحقق الإنصاف وتكرس الهوية. لم ينس البصري، يوما، وهو يمارس لعبة الغولف في مسالك الغولف في الصباح الباكر إلى جانب الوسيط الدولي الأسبق جيمس بيكر كيف أن هذا الأخير كان مهتما بأن يعرف المزيد من التفاصيل عن تاريخ المغرب، فقد كان اجتمع في اليوم السابق مع الملك الحسن الثاني واقترح عليه صيغة لحل مشكل الصحراء، رفضه الحسن الثاني بقوله: هل تريد مني أن أقبل بحدود المملكة المغربية عند منطقة إيمنتانوت؟ كان هم بيكر أن يسأل عن موقع المنطقة، وعن تاريخ المغرب، وقبل أن يتلقى جوابا من الحسن الثاني كان يتوقع أن يأتيه. مساء ذلك اليوم، توجه البصري إلى الأقاليم الجنوبية وأعلن في تجمع خطابي أن المغرب لا يريد بديلا عن الاستفتاء. وغاب عن البصري، في غضون ذلك، أن تلك الخطة التي ولدت وهي غير قابلة للحياة، في ضوء العراقيل التي وضعتها الجزائر وجبهة البوليساريو لإفراغ جوهرها الاستشاري الذي يعني احترام إرادة كل الهيئة الناخبة دون استثناء أو تمييز أو إقصاء، ما تطلب جهودا مضاعفة انتهت إلى الإقرار بعدم قابلية الخطة للتنفيذ. المشكل أنه ليس المغرب الذي قال ذلك، ولكنها الأممالمتحدة نفسها التي توصلت إلى هذه القناعة، عبر المراس والتجربة واستنباط المعطيات التي أحيطت بالخطة وبوسائل تنفيذها. غير أن البصري الذي لم يتقبل إبعاده، شكل استثناء في الترويج لخيار الاستفتاء على طريقته. والراجح أنه لم يكن يعبر عن قناعة سياسية بقدر ما كان يغازل أطراف أخرى للإيحاء بدور محتمل يمكن أن يلعبه في الوقت الضائع، ومع أنه من أوفياء العرش الذين لم يتغيروا فقد خانه حدسه في هذه القضية تحديدا. إذ فضل حسابات شخصية محضة على الانسياق في زخم التيار الايجابي الذي كان بصدد البحث في بدائل موضوعة لإنهاء المشكل. كما لم يستوعب إدريس البصري في منفاه الاختياري الحقائق الجديدة التي صار يحفل بها المشهد المغربي، فإنه ارتضى أن يتحول إلى مصارع طواحن الهواء، وتحديدا من خلال اختيار الانضمام إلى جوقة اليمين الإسباني بزعامة خوسي ماريا أزنار الذي يحفل تاريخه بشتى أنواع الأحقاد والتصفية ضد كل ما هو مغربي. ومع أن البصري لم يكن مضطرا لذلك تحت أي مبرر، فإن انحيازه إلى أزنار نزع عنه آخر الأوراق التي كان يمكن أن يحتمي بها في مواجهة الأوضاع التي آلت إليها نهايته، فهو لم يتصور واهما أن الشمس يمكن أن تشرق في غيابه، تماما كما لم يتصور أن المغرب في إمكانه أن يخطو قدما إلى الأمام بعد نزول ركاب أثقلوا مشيته نحو الآفاق البعيدة. في الحقيقة، إن الأمر يتجاوز إزاحة شخص أو مسؤول، نحو إقرار القطيعة مع مدرسة كان لها روادها ومشاغبوها ولاعبوها الذين كانوا يتقنون فن الإعاقة. ومع أنه كان في إمكانه أن يحتفظ بوضع اعتباري أضفاه عليه الملك محمد السادس حين منحه أرفع وسام للدولة بعد إقالته. فإنه خذل نفسه حين تصور أن ما تعلمه هو الحقيقة. لذلك فقد قاد نفسه مفتوح العينين إلى نهاية لم يتوقع أنها ستكون مأساوية بذلك الشكل. غير أن إدريس البصري حين غادر المسؤولية لم يعد هو نفسه أيام كان يمارسها. وليس صحيحا أن الرجل هو الذي يمنح السلطة هالة معينة من المفاهيم والممارسات، ولكن الصحيح أن السلطة هي ما يمنح الشخص مظاهر سرعان ما تخبو حين يجد نفسه بلا أجنحة، غير قدراته الطبيعية، وقد أبان البصري بعد مغادرته السجاد الأحمر الذي كان يفرش له ذهابا ومجيئا، أنه أقل بكثير من الأوصاف التي كانت تعطى له. أقلها أنه لم يفلح في تدبير ملفه الشخصي، بعد أن كان يدير ملفات الدولة، ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان يعمل وإلى جانبه فريق ظل يستند إليه في كل شيء. إلا في المسائل التي يحظر على الآخرين التدخل فيها. حين نبهه صديق إلى صدفة أن مساعديه تبدأ أسماؤهم جميعا بحرف الباء، ضحك وقال: الحمد لله أن للباء نقطة من تحت، ثم استظهر أسماء بنحربيط الذي عمل رئيسا لديوانه، وبن هاشم الذي عمل في الشؤون العامة قبل أن يصبح مديرا للأمن، وبوعبيد الذي اشتغل في ديوانه، إضافة إلى بن إبراهيم الذي كان المسؤول الثاني في جهاز حماية التراب الوطني قبل الانتقال إلى الإدارة الترابية، ثم بوفوس الذي كان مهتما بشؤون الانتخابات التي وجهت لها أصناف الاتهامات ولا يزال يتقلد منصبا في الداخلية. والبخاري الذي كان عاملا في وجدة ثم مديرا عاما للأمن الوطني، وكذا المتصرف بروكسي الذي رأى البصري يوما بعد القطيعة، وأجهش بالبكاء. لكن الأكيد أن الأمر لا يعدو أن يكون صدفة في تلاتي الأسماء والمناصب والمسؤوليات. وربما أن العيب الكبير لإدريس البصري، حتى قبل إقالته أنه لم يعد يرغب في سماع صوت غير صوته، عدا أن حاشية من نوع آخر تسربت إلى مراكز نفوذه، لتصبح لها الكلمة الفصل في قضايا كبيرة وصغيرة. وحين اعتقل صهره السليماني الذي كان اشتغل موظفا صغيرا في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليصبح رئيس المجموعة الحضرية في الدارالبيضاء، ورجل أعمال لايشق له عيار. أدرك البصري آنذاك أن ما جلبه عليه محيطه من المتاعب كان أكبر مما جلب على نفسه حين لم يعد يقبل أن يجادله أحد في قراراته، خصوصا تلك التي توخت أن تجمع بين السلطة والثروة. مرة كان في الطريق من الرباط إلى قصر الصخيرات، كان على موعد للاجتماع إلى الملك الحسن الثاني الذي فاجأه كيف أن قضية أبناء الجنرال أوفقير انتقلت من تحت زمام السيطرة. في الطريق كان يبدو شارد الذهن. يبحث في قاموسه عن مبررات ما حدث. وقبل أن تتوقف سيارته في منعطف الطريق المؤدي إلى مدخل قصر الصخيرات. قال لمرافقه: نستطيع أن نتوجه إلى أقرب مقهى ونتمل برؤية البحر. ثم أضاف: «إني أغبطك فعلا، لأنه ليس لدي الوقت لأمارس هذه الهواية». بيد أنه حين اتسع وقته على سعة الفراغ الكبير. لم يجد ما يفعله بكل ذلك الزمن الذي كان عليه أن يتصرف فيه. فهو لم يكن ذا هواية خاصة لتزجية الوقت. بل إنه لم يكن يعرف معنى العطلة التي يقطع بها الإنسان علاقته مع العالم. فقد كان يلوذ إلى البحر وهو يتأبط ملفاته، ولم يكن مساعدوه بدورهم يحظون بنصيبهم من العطل، لا لشيء سوى لأنه كان يتصور أن الأحدث لا تتوقف، ولم يكن يخشى من شيء أكثر من مواجهته باستفسار حول قضية ما، ولتكن رياضية أو ذات صلة بالسياحة أو الفن أو القضاء أو السياسة. فقد صنع لنفسه عالما مغلقات يصعب النفاذ منه إلى الخارج. وكم كانت فرحة العاملين السابقين معه كبيرة حين أدركوا أن في إمكانهم أن يستفيدوا من العطل مثل بقية الناس. في أيامه الأخيرة، كانت تنفلت من بين شفتيه بعض الأسرار التي تطال العلاقة مع الأحزاب والنقابات ورجال الأعمال والمحيطين الأقرب إلى القصر. وكان يفعل ذلك من أجل الترويح عن نفسه، خصوصا حين يعرض إلى الظروف التي رافقت خلافة محمد بوستة زعيم حزب الاستقلال، أو تلك التي همت أحداث اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي التي آلت إلى انشقاق ما يعرف لاحقا بحزب الطليعة، أو حين ستظهر الظروف التي كانت تجري فيها الانتخابات وتشكيل الحكومات. وكان يخلص في غضون ذلك إلى القول: إنهم لم يتركونا نعمل جيدا. ولم يكن يزيد على ذلك في تفصيل من يعنيهم بقوله. ولو أنه صرح مرة أنه لو كان التناوب بهذه الطريقة، كما أضفنا وقتا طويلا في الذهاب نحوه، فقد كان يعجبه الوصف بأن التناوب الحقيقي بدأ مع حكومة رئيس الوزراء الراحل عبد الله إبراهيم. غير أنه لم يفتأ يكيل المديح للوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي، بعد أن كان في مقدمة الذين لم يستسيغوا طبيعة التناوب التي قلصت من نفوذه. حكايات كثيرة عن الوزراء ورفاق الدرب كان يلوح بها في الهزيع الأخير من حياته، إذ لم تسعفه الأقدار في أن يحتفل بعيد ميلاده التاسع والستين داخل بلاده، أو في المنطقة التي ظل يحن إلى العودة إليها، إنها الشاوية التي دفن بعيدا عن هضباتها وتموجات مزارعها وحقولها وأنهارها. فقد كان رجلا من زمن الشاوية، وما أدراك ما الشاوية على حد تعبيره.