لم يخف إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، إعجابه بثلاثة رجال كان يصنفهم بأنهم «رجالات دولة»، فقد اشتغل إلى جانبهم وانقلب عليهم وخاض مع بعضهم صراعات في كواليس المربع الأقرب إلى أهل القرار. أولئك الرجال هم الجنرالان محمد أوفقير وأحمد الدليمي، والمستشار أحمد رضا كديرة. وكان يروق للبصري، في أيامه الأخيرة، أن يردد أنه رابعهم في الوفاء للعرش، غير أن أحدا لا يمكن أن يشارك الرأي في وفاء الجنرال أوفقير، الذي كان أكثر إعجابا به، وربما أن القاسم المشترك بين أوفقير وكديرة هو أن الرجلين معا عملا وزيرين في الداخلية، التي استلمها البصري القادم من نفس المدرسة، مع إضافة بعض التوابل على طبخاتها الانتخابية وغير الانتخابية، لكنه عمل مديرا لديوان الدليمي حين كان الأخير مديرا عاما للأمن، والتقى معه في ما يشبه الند للند عندما عينهما الملك الراحل الحسن الثاني مسؤولَين في الاستخبارات، البصري على رأس مديرية حماية التراب الوطني، التي لم يغادرها إلا في صيف 1999، والثاني مسؤولا أول عن مديرية الدراسات والمستندات (لادجيد)، التي أبعدته عنها حادثة سير قاتلة في مطلع عام 1983. هنا سلسلة حلقات عن رجل الشاوية القوي، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تغوص في أعماق تجربته، بما عرف عنه وما لم يكن متداولا على نطاق أوسع. لم يسلم أي من الزعامات السياسية، خصوصا تلك المحسوبة على الإدارة، من تدخل الوزير ادريس البصري. فقبل أي استحقاقات انتخابية, كان يعهد إلى محسوبين عليه، من رجال أعمال ومنتخبين سابقين ومشتغلين بالشأن السياسي باختيار مناطق ترشحهم. لم يكن يفعل ذلك بطريقة مباشرة، فقد كان يعرف أن هناك حدودا للتدخل، غير أن العمال وقياديي الأحزاب كانوا يفعلون ذلك قبل حلول مواعيد الاستحقاقات الانتخابية بفترة طويلة. لم يكن يعنيه حشد الأسماء لتكريس تفوق هذا الحزب أو ذاك فقط. ولكنه كان يبحث عن الوجوه والأسماء المؤهلة لتشغل بعض المناصب، خصوصا على صعيد اللجان البرلمانية التي شكلت في إحدى الفترات وعاء لاختيار الوزراء. والسبب في ذلك أنه كان يسعى لفرض هيمنته على الأحزاب الإدارية، فيما كان يتطلع لنقل التجربة ذاتها داخل بعض فصائل المعارضة، وإن بطريقة خجولة، لم تكن دائما تثمر الأهداف المتوخاة منها. سئل البصري يوما عن أي الأشخاص يحتمل أن يخلف المحجوبي أحرضان في زعامة الحركة الشعبية قبل انشقاقها، فقال إنه أحرضان وليس غيره. فقد كان يعتقد أن طريقته في تدبير الحزب لا تحتمل قيام شخص آخر بنفس الدور الذي أضفى عليه هالة من الانتساب القبلي والعلاقات التي لا تكاد تستقر على حال. إضافة إلى السلوك المزاجي. غير أن أول مواجهة حدثت إبان مشاورات تشكيل إحدى الحكومات في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بعد رفض المحجوبي أحرضان الأسماء التي اقترحت عليه، ولجوئه إلى إصدار تصريحات لصحيفة إسبانية اتهمت السلطات بأنها تمارس التمييز ضد السكان الأمازيغ. كانت تلك بداية مفترق الطرق بين الرجلين، وفيما عمد البصري إلى تسريب معلومات حول أعداد الضيعات التي يملكها أحرضان في منطقة والماس، رد الأخير بأن البصري يجلب الأبقار الهولاندية الحلوب على متن الطائرات إلى إحدى ضيعاته التي تردد أن الملك الحسن الثاني أهداها إليه. وزاد في احتدام الموقف أن نائبا من من الحركة الشعبية اسمه أكرام وقف يوما أمام منصة البرلمان واتهم البصري بأنه وزير سوبرمان، وأنه لا يقيم وزنا للمؤسسة التشريعية. وكان البصري وقتذاك مهتما بتقصي علاقات أكرام. وهل مبادرته شخصية أم أن أحرضان كان وراء تحريكها أم أن جهة ما أشارت إليه برمي ذلك الحجر في الماء الراكد. لم يستوعب البصري أن يأتي انتقاده بتلك الشدة من طرف نائب في حزب الأغلبية، ومن وقتها بدا أن الحركة الشعبية في طريقها إلى أن تصبح حركات شعبية. أولاها انبثقت من مؤتمر استضافه مسرح محمد الخامس ووضع حدا لمسؤوليات أحرضان في قيادة الحزب، عبر انتخاب قيادة جماعية ستؤول في النهاية إلى امحند العنصر، ثم لاحقا سيعمد الكومسير عرشان إلى تأسيس الحركة الديمقراطية الاجتماعية، كما سيذهب بوعزة يكن إلى تأسيس حركته. قبل أن تعود المياه إلى مجاريها، سنوات بعد ذلك. والظاهر أن المستشار أحمد رضا اكديرة الذي لم ينس جميل أحرضان حين انضمت الحركة الشعبية إلى جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية في عام 1963، عمل من أجل رأب الصدع بين مكونات الحركة، وأعاد الاعتبار إلى المحجوبي أحرضان الذي عمل معه طويلا. وأنقذ بعض المنتمين إلى حزبه من فضيحة في وزارة البريد، أطلق خلالها الملك الراحل الحسن الثاني بأن الوطن غفور رحيم. وفي السياق ذاته، وعندما كان تجمع الأحرار يشكل القوة السياسية الأولى بعد انتخابات 1977، سيهدد محمد أرسلان الجديدي بإحراق مطبعة جريدة «الميثاق الوطني» لأنها كانت تفضح نشاطات النواب المحسوبين عليه. وحين فكر في احتلال مقر الحزب، وكان إدريس البصري وقتها خارج المغرب في باريس، جاء مسؤول يخبره بأنه في إمكانه أن يشكل حزبا إذا لم يكن التجمع يروق له. ولا يبدو أن البصري كان بعيدا عن حركة ذلك الانشقاق الذي قاده رجال محسوبون عليه أمثال أحمد بلحاج ومحمد جلال السعيد، وكذا خلي هنا ولد الرشيد الذي استمرت علاقته على وئام مع إدريس البصري قبل ظهور خلافات جوهرية أقرت القطيعة بين الرجلين إلى اليوم الذي أقيل فيه البصري. كان البصري في علاقته مع خلي هنا ولد الرشيد يتحاشى المواجهة. وكان يجد في أن يكون إلى جانبه في بعض اللقاءات والتظاهرات لكن رؤيتهما لم تكن منسجمة، فقد كان خلي هنا من خلال توليه وزارة الشؤون الصحراوية يريد أن يتفرد بالقرارات في مسائل عدة، لكن البصري كان يلجمه تحت مبرر أن هناك صحراويين آخرين في إمكانهم القيام بنفس الأدوار، دون التقيد بالحرفية القبيلية. خلال زيارة الملك الحسن الثاني إلى الأقاليم الصحراوية في عام 1985، برزت فكرة تأسيس العديد من المنظمات الصحراوية، بل إن العاهل المغربي لم يكن يمانع في إمكان تأسيس أحزاب سياسية في إطار التعددية، إلا أن الفكرة ظلت تراوح مكانها دون تنفيذ، لكن خلافات خلي هنا وادريس البصري ستطال التعاطي مع تطورات ملف الصحراء على الصعيد الداخلي، ولم يكن البصري ليقبل من الصحراوي خلي هنا أن يستبدله بمحاورة شخصيات أخرى داخل الدولة، وثمة من يذهب إلى بعض الصعوبات التي اجتازها خلي هنا كانت بفعل تناقض الرؤية بين الرجلين. كان البصري من دعاة الإمساك بقبضة حديدية على الأوضاع في الأقاليم الجنوبية، وعمل طويلا من أجل خلق نخب من الأعيان الصحراويين تدور في فلكه، وظل يرفض حدوث انفتاح كبير يسند إلى الأحزاب السياسية أدوارا هامة في توسيع هامش المشاركة وتحقيق إدماج أكبر، وكان يستند في ذلك إلى تقارير يستقيها من رجال في المنطقة، تشير دائما إلى أن كل شيء على ما يرام، ولم يكن يغضبه أكثر من تسرب أنباء حول بعض الانفلاتات، خصوصا من طرف بعض الشبان الصحراويين الذين كانوا شرعوا في المجاهرة بالدفاع عن مبدأ تقرير المصير. شيئا فشيئا، سيصبح للبصري رجاله في غالبية الأحزاب والتنظيمات النقابية، إن لم يكن من خلال الولاء المباشر فعبر صداقات تنفتح على مجاهل الحياة السياسية والنقابية، وحين كان يخلد إلى لعب الورق، كانت تلك الصداقات تعبر عن نفسها من خلال الإحاطة بالأوضاع السياسية، حتى يبدو قريبا من كل الأحداث المعلنة أو تلك التي تتم في الكواليس، ولم يكن يشعر أولئك الأصدقاء متعددي المشارب والاتجاهات بأنهم يقدمون خدمات، وإنما كان النقاش يعرج على الملفات المختلفة، وكأن ذلك يحدث بفعل الصدفة. بيد أنه حين كان بعض الأشخاص يعاندون في صداقته، كان يتحين الفرصة لإحراجهم في اجتماعات تستضيفها الداخلية أو مناظرات الجماعات المحلية أو جولات التعريف ببعض المشروعات التي كان يجند لها فريقا كاملا، لا يستطيع أي وزير أول أن يضاهيه في حشده خلال أي تدشين رسمي. فقد كان الوزير الأول الحقيقي، ولكن رجلا واحدا كان يستطيع أن يواجهه اسمه مولاي أحمد العلوي. روى البصري يوما أن الملك الحسن الثاني غضب على مولاي أحمد العلوي وحظر عليه الدخول إلى القصر فترة طويلة، كان الأمر يتعلق بحادث غير سياسي، لكن الحسن الثاني انزعج لعدم وضعه في صورة ذلك الحدث، سيلتقي البصري والعلوي لدى استقبال مسؤول أجنبي حل بمطار الرباطسلا في زيارة عمل. حين انتهت المراسيم البروتوكولية، طلب مولاي أحمد العلوي من البصري أن يرافقه على متن سيارته، وحين أخبره البصري أنه ذاهب إلى القصر الملكي، وجد الفرصة مواتية للإعلان عن رغبته أيضا في الذهاب إلى القصر، بيد أنه لدى وصوله إلى البوابة ووجه باعتراض الحرس، لكنه انتفض غاضبا. مالكم أنتم، سيدنا غاضب علي، وما دخلكم أنتم؟ بعد فترة أذن إلى مولاي أحمد العلوي بالدخول. كان الملك يترجل قليلا في فناء القصر، لكن العلوي بمجرد وصوله وأدائه تحية التقدير، شرع في الكلام عما يختزله من معلومات. قال إن الرئيس الإفريقي الفلاني صنع كذا ولابد من الرد عليه، وأضاف أن الحزب الفلاني بصدد إصدار بيان متشدد، ثم عرض إلى المزيد من الأحداث الداخلية والخارجية التي لم تترك للملك فرصة التقاط الأنفاس. هنا استدار الملك الحسن الثاني نحو البصري وقال له: اسمع جيدا ما يقوله مولاي أحمد العلوي، إنه كنز معلومات وأفكار، قد يطرح مائة فكرة، والأكيد أن واحدة منها ستكون صائبة. ونصح البصري بالاستماع أكثر إلى ما يقوله مولاي احمد، ومن وقتها نشأت علاقة بين الرجلين، امتد مفعولها ليشمل ملفات إعلامية وسياسية واقتصادية وأخرى ذات علاقة ب»النميمة» الكبرى، وبالقدر الذي كان البصري يقترب من مولاي أحمد العلوي لعلمه بأنه يكون في صورة تفكير الملك في قضايا عديدة، انطلاقا من الدور الذي كان يقوم به في التنظير الإعلامي عبر مجموعة «ماروك سوار» بالقدر الذي كان مولاي أحمد العلوي يقترب بدوره إلى البصري، إذ يرى أنه وحده الذي في إمكانه إرضاء طلباته. كان البصري يردد في بعض جلساته أن أكثر ما يخشاه مولاي أحمد العلوي هو أن يغضب عليه ملك البلاد، لكنه في مقابل ذلك، كان مولاي أحمد يغضب على كثيرين، ربما أن البصري وحده لم يكن من بينهم لاعتبارات ليس أقلها أنه كان يتقن فن نقل الرسائل، حتى حين تكون قاسية ومؤلمة، غير أن العلاقة بين البصري وأسرة مولاي أحمد العلوي لن تبقى على ما كانت عليه إبان حياته، ولعل أول اختبار في مسار تلك العلاقة كان الشروع في توزيع شركة مولاي أحمد العلوي في مؤسسة «ماروك سوار»، خصوصا حين دخلت زوجته آسية على الخط، فقد حاول البصري إبعادها بكل الوسائل، ثم كان أن عين محمد كريم العمراني للإشراف على التدقيق في وضعيتها، قبل أن يعهد بالمهمة ذاتها إلى إدريس جطو ثم آخرين.