لم يخف إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، إعجابه بثلاثة رجال كان يصنفهم بأنهم «رجالات دولة»، فقد اشتغل إلى جانبهم وانقلب عليهم وخاض مع بعضهم صراعات في كواليس المربع الأقرب إلى أهل القرار. أولئك الرجال هم الجنرالان محمد أوفقير وأحمد الدليمي، والمستشار أحمد رضا كديرة. وكان يروق للبصري، في أيامه الأخيرة، أن يردد أنه رابعهم في الوفاء للعرش، غير أن أحدا لا يمكن أن يشارك الرأي في وفاء الجنرال أوفقير، الذي كان أكثر إعجابا به، وربما أن القاسم المشترك بين أوفقير وكديرة هو أن الرجلين معا عملا وزيرين في الداخلية، التي استلمها البصري القادم من نفس المدرسة، مع إضافة بعض التوابل على طبخاتها الانتخابية وغير الانتخابية، لكنه عمل مديرا لديوان الدليمي حين كان الأخير مديرا عاما للأمن، والتقى معه في ما يشبه الند للند عندما عينهما الملك الراحل الحسن الثاني مسؤولَين في الاستخبارات، البصري على رأس مديرية حماية التراب الوطني، التي لم يغادرها إلا في صيف 1999، والثاني مسؤولا أول عن مديرية الدراسات والمستندات (لادجيد)، التي أبعدته عنها حادثة سير قاتلة في مطلع عام 1983. هنا سلسلة حلقات عن رجل الشاوية القوي، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تغوص في أعماق تجربته، بما عرف عنه وما لم يكن متداولا على نطاق أوسع. عندما كان إدريس البصري يتسلم مفاتيح وزارة الداخلية من الدكتور محمد بنهيمة في نونبر 1981، كان سبق الحدث عبر التمرس في مهام كتابة الدولة في الداخلية التي جعلته في صورة دواليب السلطة منذ نهاية 1977 في حكومة الوزير الأول أحمد عصمان، فقد عاد بنهيمة إلى الوزارة بعد فترة قصيرة انتقلت فيها المسؤولية إلى محمد حدو الشيكر، الذي واجه أول تحد في الأحداث (القلاقل) التي عرفتها منطقة مولاي بوعزة في مارس 1973، لكن عودته لم تنطبع بنفس الحضور الذي كان للرجل في حكومات سابقة. في تلك الفترة، كانت الوزارة الأولى تستأثر بدور أكبر في إدارة ملفات الشؤون العامة التي كان يتولاها عبد السلام زنيند، رجل أحمد عصمان، وعينه على أكثر الملفات إثارة للجدل، أدرك البصري وقتها أن هذه الملفات لا يمكن أن تدار برأسين، لذلك فإن تجربته في حكومة أحمد عصمان كانت تصطدم بمعيقات عدة، من جهة، لأن صهر الملك كان بإمكانه في أي لحظة أن يحمل ملفاته إلى القصر دون وساطات، ومن جهة ثانية، لأن زنيند كان يزاحم البصري أكثر في الاضطلاع بأدوار خفية في قضية الصحراء، التي كانت موزعة بين الديوان الملكي ورجالات الجيش وديبلوماسية حزبية سعى من خلالها وزير الخارجية محمد بوستة إلى أن يلجم ما كان يعتبره تجاوزات، غير أنه سيضطر إلى الإذعان إلى قرارات عليا قضت بمشاركة إدريس البصري في مفاوضات سرية، فيما كان المستشار أحمد رضا كديرة، نتيجة حساسياته إزاء نفوذ حزب الاستقلال، يسعى إلى تلميع البصري قبل أن يدخل معه في مواجهات خفية دارت رحاها في ضفاف قضايا عديدة تهم ملفات الأحزاب وقضية الصحراء والعلاقة مع المعارضة. ولعله بسبب هذه الحساسيات، سيضطر محمد بوستة حين تواتيه الفرصة، بعد مرور أزيد من عقدين، إلى المطالبة برأس إدريس البصري في المشاورات التي طالت تشكيل حكومة التناوب لما قبل عام 1994، غير أن أحمد عصمان بدوره سيكتشف، يوما، أن التعاطي مع ملف الصحراء يسير في اتجاه مغاير، وسيكون في مقدمة منتقدي المستشار أحمد رضا كديرة، الذي كان قد دعا وقتذاك إلى الدخول في مفاوضات مع جبهة البوليساريو، لم يجاريه الاستقلاليون في الذهاب بعيدا، فقد اعترضوا على تلك التصريحات، لكن الأمين العام وزير الخارجية محمد بوستة كان وحده في صورة تطورات جانب من تلك المفاوضات التي جرت على مراحل بين مسؤولين جزائريين ومغاربة، وبين صحراويين من قيادة البوليساريو ومسؤولين مغاربة. يوم استوى إدريس البصري على رأس وزارة الداخلية، كان نفوذ أحمد عصمان في طريقه إلى التراجع، فقد كان هناك رجل آخر لا يبادله الود، لم يكن سوى الجنرال أحمد الدليمي الذي لم يكن البصري يستطيع الحركة خارج الإطار الذي رسمه الرجل القوي في المؤسسة العسكرية، كان يضع نصب عينيه أنه يعمل في إطار سياسي، لكنه لم يكن يقدر على معاكسة نفوذ الجنرال. مرة أخرى، ستلتقي رغبة الجنرال الدليمي في أن يمنح أبناء البوادي الذين اخترقوا الجامعات وتأهلوا في ميادين المعارف والتجارب أدوارا تليق بما كان يعتبره توازنا في فسيفساء التركيبة الاجتماعية في البلد، وهذا ما يفسر دعمه الكبير لابن الشاوية إدريس البصري، فقد كان يروق للدليمي في جلسات حميمية أن يأتي ببعض الفكاهيين ويدعوهم إلى تقليد البصري العروبي بلكنته القروية أمامه. ثمة من يفسر الانشقاق الذي وقع داخل تجمع الأحرار في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، بأنه جزء من قرار اتخذ في مكان ما لتمكين أبناء البوادي من إطار سياسي، شمل تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي لاحقا بزعامة ابن دكالة الزعيم النقابي محمد أرسلان الجديدي، خصوصا وأن أوائل الذين انضموا إلى تلك الحركة كانوا من أقرب الرجالات المحسوبين على إدريس البصري، أمثال الدكتورين محمد جلال السعيد وأحمد بلحاج ووزير المالية الأسبق عبد القادر بن سليمان وغيرهم. وثمة من يرى أن البصري لم يكن واردا أن يغض الطرف عن تنامي تلك الانشقاقات في حزب الإدارة رقم واحد، لو لم يكن يسانده رجلان على الأقل، التقيا في انتقاداتهما الشديدة لأداء أحمد عصمان، هما الجنرال أحمد الدليمي والمستشار أحمد رضا كديرة، فقد يكون هذا الأخير رد على مؤاخذات أحمد عصمان حول تصريحاته إلى «جون أفريك» التي دعا فيها إلى بدء مفاوضات مع البوليساريو منذ ذلك الوقت، كما قد يكون الجنرال الدليمي انساق وراء جانب من مؤاخذات تكونت لديه منذ أن قاد أحمد عصمان الحشود الأولى لأفواج ومتطوعي المسيرة الخضراء. وقد أسر الجنرال يوما إلى أحد مساعديه بأنه ظل يفضل أن يكون الملك الراحل الحسن الثاني في مقدمة السائرين. لكن، هل هذا التباين في وجهات النظر وحده الذي كان وراء ذلك الانشقاق، أم أن الأمر كان من أجل أهداف أبعد من ذلك، فقد ظل البصري يتحدث عن رجالات الدولة الذين يكن لهم الاحترام، وكان يقتصر في قائمته المعدة سلفا على كل من أوفقير واكديرة والدليمي، ويصنف نفسه أنه أقرب إلى مدارسهم، غير أنه عاين سقوطهم الواحد تلو الآخر، فمن لم يمت بالسيف، مات تحت تأثير قانون الطبيعة، والنتيجة واحدة، هي أنهم غابوا جميعا وفق نهايات أقرب إلى أفلام هيتشكوك، إذا استثنينا المستشار الذي غيبه الموت على سرير المرض. ففي مرتين، على الأقل، سيكون إدريس البصري شاهدا على نهاية رجلين طبعا تاريخ المغرب ما بين ستينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، وربما بسبب ذلك كان يتملكه المزيد من الحيرة والقلق وهو يعاين انهيار إمبراطوريته في غفلة مما كان يتصوره أبديا. كان ابنه هشام يختزل وضعية الأب حين انسدت أمامه الأبواب والآفاق، بأنه لم يستوعب بأن الملك الحسن الثاني رحل إلى دار البقاء، فقد مشى في جنازته، ولم يكن يعتقد بأنه يؤبن نفسه، تماما كما لم يفهم أن الرياح التي قادته إلى تولي أرفع المسؤوليات ستأتي بوجوه أخرى لاعتلاء مسرح الأحداث، بعد أن تكون الأدوار استنفدت غايتها. في المرة الأولى من العاشر من يونيو1971، تسلل إدريس البصري من رحاب القصر الملكي، وسار في اتجاه الشاطئ مهرولا للنجاة بنفسه، وحين صادفه أحد الأصدقاء متسائلا عما يحدث هناك، رد عليه بالقول: لقد فعلها الجنرال المذبوح! لم يقدم تفاصيل أكثر، لكن بذلته البيضاء التي كانت ملطخة بالدم والوحل، تركت الانطباع لدى سائله بأن مجزرة تحدث هناك. وسيكشف البصري، يوما، أن مفعول تلك البذلة كان من بين العوامل التي غيرت حياته كثيرا. في واقع الأمر أنه كان أكثر جرأة في تصيد مكامن الخلل التي كانت وراء مرور حادث المحاولة الانقلابية في الصخيرات في غفلة من الجميع، وحين كان العقيد أحمد الدليمي بصدد إعداد تقارير أمنية عن تلك الأحداث، تمكن البصري، من موقع مدير ديوان، أن يجمع شتات تلك التقارير برؤية استعلاماتية جعلته يحظى بتقدير الدليمي الذي سيكون هذه المرة أول من يثير اسم إدريس البصري أمام الملك الراحل الحسن الثاني، فقد التقت رغبته في الاستيلاء على بعض الصلاحيات الأمنية التي كان يتمتع بها الجنرال أوفقير وزير الداخلية ثم الدفاع، مع الحاجة إلى ضخ دماء جديدة في دواليب السلطة، مع أن وقائع المرحلة ستدفع الحسن الثاني إلى تعيين البصري رئيسا لقسم الولاة والشؤون العامة في وزارة الداخلية، فإن العقيد الدليمي كان مرتاحا لذلك الاختيار، فقد وضع أحد تلامذته النجباء في قلعة الداخلية التي كانت عصية على الاقتحام على عهد الجنرال أوفقير، وفي الوقت ذاته، جعل الجنرال يبدو وكأنه صاحب الفضل في ذلك القرار بالنظر إلى أنه كان يرى في الشاب البصري رجله في الدار التي غادرها إلى الثكنات العسكرية، وبذلك تكون مصالح وحسابات أطراف متعددة التقت عند مباركة ذلك التعيين، من جهة، لأن مرور البصري عبر بوابة ديوان مدير الأمن لم تكن خلفت ارتياح رفاق دربه، وقد بدأ في الانعطاف بعيدا عنهم، ومن جهة ثانية، لأن تعيين أحمد بن بوشتى وزيرا للداخلية كان يتطلب مساعدين، وسيفهم لاحقا أن الجنرال أوفقير عندما أصبح وزيرا للدفاع كان يعنيه إضعاف وزارة الداخلية وجعلها تحت وصايته بطريقة أو بأخرى، خصوصا أن ولاية بن بوشتى على رأس وزارة الداخلية لن تدوم أكثر من عام ويخلفه بعده الدكتور محمد بنهيمة. أي مشاعر كانت تقفز إلى ذهن البصري الذي كان يوما أكثر زهوا باستلام حقيبة الداخلية، وهو الآن في التاسع من نونبر 1999 يغادر إلى غير رجعة. كثيرون غادروا هضبة المقيم العام الفرنسي التي استوت مطلة على نهر أبي رقراق، وتولوا مناصب أخرى، اكديرة غادرها في عام 1963 ليصبح وزيرا للفلاحة والتعليم، إدريس المحدي غادر ليصبح وزيرا للخارجية، محمد حدو الشيكر مكث فيها قليلا ثم تولى وزارة التعليم، القائد الحسن اليوسي أنهى بها مشواره على مقاس نهاية العمر، لكن البصري أقيل منها بطريقة مختلفة ومغايرة، إن على صعيد التوقيت أو الأسلوب أو المسار الذي انتهى به طالبا للجوء. ترى، ماذا كان يدور في ذهنه وهو يوجه الكلام إلى مسؤولين كبار مساء التاسع من نونبر1999. فقط هناك علامة وحيدة دلت على انهياره وهي حين لم يتمكن من سياقة سيارته بنفسه، فالرجل الذي ساق الأحداث عجز هذه المرة عن إمساك المقود للعودة إلى إقامته وليس إلى منطقة الشاوية.