هي مقالب مرتَّبة بعناية، غرائب وعجائب، مغامرات قادت أصحابَها إلى مَطبّات.. «شغب» وعبث طفولي بريء، شغبُ مراهقة، مواقف طريفة تتميز بالفرادة والاستثناء والجاذبية وتثير الضحك، تستعيد الكثير من ذاكرتنا المشترَكة. هذا ما سنتعرف عليه من خلال حكايات كتاب وفنانين، أبَوا إلا أن يشاركوا بعضهم البعض، ومعهم القارئ، طبعا في هذا البوح الحميمي والجميل، الذي افتقدناه في زمن رسائل «البورطابل» القصيرة وسطوة التلفزيون ووسائل الاتصال الحديثة، ونصوص هذه السلسلة الموسومة ب«شغب قديم»، تصلح سيناريوهات لأفلام روائية قصيرة، لتوفرها على جميع التوابل!... حكايتي لها صلة بشغفي المسرحي وبحرفتي الماضية كنجار، مهنة كنت أزاولها في محل في حي «الحبوس» في الدارالبيضاء، وكنا نشتغل في الزقاق ومتى ضاقت بنا الدكاكين، كنا نُخرج «المنجرة» إلى قارعة الطريق، وذلك لأن الحي أو الزقاق كان خاصا بالراجلين.. وذات يوم، والمغرب على أهبة الاحتفال بعيد العرش -وكان عيد العرش إبان عهد الاستعمار مناسبة فريدة لإظهار الحماس والتعلق بالوطن وإنشاد أغاني الحرية والاستقلال والانعتاق من ضغط الاستعمار وويلاته وما كان يعانيه المغاربة من تعسفات المستعمرين. في ذلك اليوم، جاءتني مجموعة من الشباب اليافع وطلبوا مني أن أهيئ لهم خشبة بكل معداتها في ذلكم الزقاق، لأجل تقديم مسرحية وطنية تحريضية، اختاروا لها هذه المناسبة وهذا الزقاق بالذات، ولم يكن مني إلا أن أتطوع، أنا وثلة من الصنايعية لإقامة الخشبة في ركن ركين يصلح لرجع صدى الصوت حتى لا يضيع، وباختصار، هيّأتُ خشبة، بكل معطياتها، من ستار وغيره، حسب ما أتاحت لي الظروف، وحسب ما كنت أرى على عهد الصبا، ثم عرضت المسألة على بعض جيراننا في الحومة فساعدونا بإحضار الكراسي للمتفرجين، ذلك أننا هيأنا أيضا مقاعدَ كثيرةً للمتفرجين، وبدأنا نعلن في الحي وفي الزقاق أننا سنقدم مسرحية يوم عيد العرش، وحل العيد ودقّت الساعة الثالثة والنصف، وهو التوقيت الذي حددناه للمتفرجين، امتلأت المقاعد وغص الزقاق بالجالسين والواقفين، والكل ينتظر على أحرَّ من الجمر... رُفع الستار وبقيت أنتظر، رفقةَ أصدقائي الصناع، وصول الطلبة الذين طلبوا منا إعداد الخشبة لتقديم مسرحيتهم. طال الانتظار ولم يظهر أثر ولو لواحد من تلك الزمرة من الشباب، بدأت أجواء التوتر تسود المكان، وعَلا صياح الجمهور، مهددا بتكسير المقاعد والكراسي، ووجدنا أنفسنا نحن الذين هيأْنا الشروط المادية لتقديم العرض في «حيص بيص».. وأمام إلحاح الناس على مشاهدة المسرحية وإصرارهم على ألا يغادروا المكان إلا بعد «الفرجة»، استيقظ عندي ذلك الحس المسرحي الكامن والشغف المستور، فجمعت رفاقي من الصناع وقلت لهم: «سنمثل نحن المسرحية كيفما اتفق ولا بد أن نحسم الموضوع وأن «نستر عِرْضنا» ونُسكِت صياح الجماهير، وأشدد على كلمة جماهير. ولست أدري كيف تدبَّرتُ أمر لحية من «الهيدورة» وضعتها على وجهي ودخلت الخشبة ورفعت الستار كليا، وانطلقنا في العرض، نرتجل على السجية، ووفَّقَنا الله كلَّ التوفيق، بشكل لا يخطر على بال.. استطعنا أن نُسكت الضجيج ونُضحكَ الجمهور ونتواصل معه بشكل غريب لم نكن لنتوقعه.. استمر العرض الارتجالي ساعة أو يزيد، وأخوك لعلج، العبد الضعيف المتكلم إليك، لا يدري هل هو في حلم أم يعيش الحقيقة!.. لقد كان عرضا جميلا قلنا فيه الكثير من الكلام الذي قد لا تكون له علاقة بالمسرح الحقيقي، ولكن إذا رجعنا إلى كوميديا ذي لارتي أو المسرح المرتجَل أو «لْبساط»، المسرح القديم عند المغاربة، نجد أننا كنا أوفياء للقواعد المسرحية الارتجالية، دون أن يكون لنا بها إلمام ولا تجربة.. والخلاصة من هذا العرض ومن هذه الحكاية أنه تأكد لي أنا شخصيا، و«العْفو» من هذه الأنا، أنني خُلِقت للتواصل مع الناس في الخشبة، وهذا العرض الإرتجالي العفوي وغير المنتظَر أذكى حماسي للتفكير، بجد، في المسرح والتفرغ له، وهذه الحكاية لن أنساها ما حيِيتُ، لأنها، وعلى بساطتها، أسهمت في تنبيهي إلى مواهبي المسرحية، وهكذا كان عرضنا المسرحي في حي «الحبوس» بمسرحية لم نكن نعرف عنها أي شيء قبل رفع الستار... * كاتب مسرحي وزجال