الحلقة التاسعة : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدار البيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدار البيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
سبق لك أن انفردت بنشر خبر في صحيفة «الشرق الأوسط» حول قرار انسحاب وزراء حزب الاستقلال من الحكومة. ما هي قصة هذا الخبر الذي سألك الراحل الحسن الثاني عمن سربه إليك في أول لقاء لك معه؟ - نشرت ذلك الخبر في يونيو 1983، وكتبت فيه ان اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال اتخذت قراراً بالانسحاب من الحكومة بعد اجتماع مغلق احتجاجاً على ما أسمته «تزييف الانتخابات البلدية والقروية» التي جرت في تلك الفترة. كان حزب الاستقلال يشارك وقتها في الحكومة بسبعة وزراء، هم محمد بوستة وزير دولة في الخارجية ومحمد الدويري وزير التخطيط وتكوين الأطر والتكوين المهني وعبد الكريم غلاب وزير منتدب لدى الوزير الأول وعز الدين العراقي وزير التربية والتعليم والهاشمي الفيلالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية وسعيد بلبشير وزير الثقافية وعبد الحق التازي كاتب دولة في الخارجية. بعد مضي حوالي سنتين من نشر ذلك الخبر، وعقب أول لقاء لإجراء حوار مع الملك الراحل الحسن الثاني، وكان في القصر الملكي في مراكش في يناير 1985، وبعد انتهاء الحوار طرح الملك الراحل الأمر بطريقة لطيفة. كان ذلك عندما خرجنا من القاعة التي جرى فيها الحوار، فهمت انه يستسفر عن مصدر ذلك الخبر. كانت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال اتخذت القرار وأحاطته بالكتمان، حرصاً ألا يتسرب إلى أن يتم إبلاغه إلى الملك، كما تقتضي الأعراف السياسية. ولم يعلم أحد بالخبر حتى نشر في الصفحة الأولى في «الشرق الأوسط»، وكان هو الخبر الرئيسي (مانشيت)، واعتقد كثيرون أن قيادياً في حزب الاستقلال سرب إلي الخبر ولم يكن ذلك صحيحاً على الاطلاق. اتضح وقتها أن الملك الحسن الثاني فوجيء بالقرار منشوراً في «الشرق الأوسط»، وعلمت انه انزعج كثيراً، لأن التقاليد والأعراف السياسية كانت تقتضي إبلاغه بالقرار قبل ان يصل الى الصحافة. وقيل وقتها إنه وجه انتقادات لقيادة حزب الاستقلال عندما اجتمع بهم، وعاتبهم على تسريبهم الخبر للصحافة قبل أن يلتقوا به. وذكرت إحدى الصحف ان الخبر كتب من «محبرة حزب الاستقلال» ولم يكن ذلك صحيحاً على الاطلاق. لكن أقول للتاريخ إن الملك الحسن الثاني لم يكن حريصاً على معرفة هوية المصدر الذي سرب الخبر، خاصة عندما لاحظ أني ارتبكت عندما طرح معي الموضوع، كانت تلك أول مرة ألتقي فيها الملك الراحل، لذلك اكتفى بابتسامة وعقب قائلاً «هذه طرائق الصحافيين». وجرت تفاصيل تلك الواقعة كالتالي: عقب انتهاء حوارنا مع الملك وكان معي عرفان نظام الدين رئيس تحرير «الشرق الأوسط» خلال تلك الفترة، رحنا نتمشى في حدائق القصر، كانت تهطل وقتها أمطار خفيفة. وفجأة التفت الملك نحوي وقال «عندما نشرت خبراً حول انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة هل كنت متأكدا أن الخبر صحيح». كان جوابي «نعم يا جلالة الملك، لأن المصدر الذي استندت إليه في نشر الخبر لم أعهد منه أن ينقل لي أخبارا غير دقيقة». وعقب قائلاً «لاحظت أنك لم تشر إلى إسمه في المقال». وأعترف أني شعرت بمزيد من الارتباك لأني لم أكن أتوقع أن يسألني الراحل الحسن الثاني مثل هذا السؤال، وكان جوابي مرة أخرى «يا جلالة الملك، المجالس بالأمانات، وما أحرص عليه ألا أكشف عن مصادري». بكل صدق عندما رحت بعد ذلك أتذكر مع عرفان نظام الدين وقائع لقاء استثنائي مع الملك، استغربت كيف امتلكت تلك الجرأة في التكتم على مصدر الخبر، لكن يبدو أن الراحل الحسن الثاني تفهم الوضع. بل يمكن الاستنتاج أن تلك الواقعة، جعلتني محط تقدير، وهو ما سيتجلى في أمور أخرى ستحدث في وقت لاحق. لكن من هو الشخص الذي عرفت منه خبر الانسحاب المفاجئ لوزراء حزب الاستقلال من الحكومة؟ - بعد هذه السنوات، أي بعد مرور 27 سنة على نشر الخبر، وهي أزيد من المدة القانونية المفترضة لنشر المعلومات، لا أجد ضرراً اليوم في الكشف عن المصدر. لأن الأمر يتعلق بواقعة تاريخية ينبغي أن توثق بأمانة. الشخص الذي سرب إلي خبر قرار قيادة حزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة لم يكن عضواً من أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب، بل هو الصديق عبد الجبار السحيمي. كنت حصلت على الخبر بطريقة غير متوقعة، إذ كان معتادا أن يلتقي الصحافيون قادة الأحزاب السياسية أو يتصلوا بهم بعد خروجهم من اجتماعاتهم الحزبية لعلهم يجدون بعض الأخبار. أتذكر أني مررت على «العلم» التي كنت غادرتها قبل فترة، وجدت هناك عبد الجبار السحيمي في مكتبه، كان وقتها رئيساً للتحرير ومدير الصحيفة هو العربي المساري. التقيت السحيمي في حدود السادسة مساء، أي مباشرة بعد انتهاء اجتماع اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. وفي سياق دردشة عادية قال هناك خبر مهم، وزاد «الحزب قرر الانسحاب من الحكومة وسيبعث مذكرة للملك حول هذه القضية» وأضاف قائلاً «تصرف». كان الخبر بحق سبقا صحفياً، إذ تصدر الصفحة الأولى من «الشرق الأوسط» في جميع الطبعات. وكان عنوان الخبر «أزمة وزارية في المغرب.. حزب الاستقلال يقرر «الانسحاب» من الحكومة». في اليوم التالي التقيت محمد بوستة. كان اللقاء في مجلس النواب. لم أقرأ على ملامح وجهه أي استياء، بل صافحني بطريقة عادية، وعندما أحاط به عدد من المراسلين الاجانب، وسألوه عن الخبر، ولم أكن بينهم، أجاب بلباقة «مثل هذه الأمور لا تناقش على أعمدة الصحف». أتذكر أني التقيت عبد الحق التازي بعد أيام من نشر الخبر، في مجلس النواب أيضاً وسألني بلطف «من هو عضو اللجنة التنفيذية الذي أبلغك بالخبر» وأجبته «المصدر ليس عضواًَ في اللجنة التنفيذية» ولم يلح أكثر. هل اتصل بك بعض المسؤولين الأمنيين المغاربة بعد نشرك لهذا الخبر؟ - بسبب ذاك الخبر سألتقي لأول مرة عنصرين من جهاز «ديستي» واسم ذلك الجهاز لم يكن متداولا في الصحف في تلك الفترة. أتذكر في هذا السياق أن شخصين التقيا بي في شارع علال بن عبدالله بعد يوم من نشر الخبر، وليس في مكتب الصحيفة الذي كان وقتها في شارع حسين الاول، في العمارة التي يوجد بها حالياً المركز الثقافي المصري. ربما تعمدا ألا يكون اللقاء في مكتب الصحيفة، وأن يتم الأمر في إطار ودي. وقدما أنفسهما بعبارة «نحن من الأمن». طلبا أن نجلس في أقرب مقهى قصد التداول «في أمر بسيط جداً»، حسب قولهما. جلسنا في مقهي «ماجيستيك» في شارع علال بنعبد الله بالرباط، وقال أحدهما إنهم جاؤوا عندي فقط ليعرفوا بعض المعلومات حول هوية المصدر الذي سرب خبر قرار انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة، قلت لهم بشيء من الاعتداد «أنا صحفي ولا يمكن أن أكشف عن مصادر أخباري، وإذا أردتم أن تعرفوا هذا المصدر، اذهبوا عند محمد بوستة واسألوه لماذا قرر حزبه الانسحاب من الحكومة». ولم أقف عند هذا الحد، بل أضفت ربما بسذاجة «أنا لا أفهم كيف تقولون إنكم رجال أمن تمثلون الدولة ولا تريدون أن تذهبوا إلى محمد بوستة الذي ليس إلا وزيرا للخارجية في هذه الدولة؟». ذلك النقاش لم يتجاوز تلك الحدود، ربما تبين لهما أني لا أتحدث باستعلاء، وإنما بمنتهى الصدق. أتذكر أن احدهما سألني عما إذا كنت جددت بطاقة الإقامة. لكن عندما تأكد لهما أني لن أكشف لهما عن مصدر الخبر، عادا من جديد ليسألا حول ما إذا كان هذا المصدر من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، لكني التزمت الصمت ولم أقل شيئا. ويبدو أنهما تيقنا أني لن أقدم المزيد من التفاصيل، أو أن التعليمات التي كانت لديهما كانت تقتضي أن تقف الأمور عند ذلك الحد. وهكذا انتهت تلك الجلسة في أجواء عادية جداً ولم أقل لهما أي شيء عن مصدر الخبر. أقول الآن وبعد مضي أزيد من ربع قرن على تلك الواقعة، إن كثيرين اعتقدوا أن العربي المساري هو الذي سرب لي الخبر، وبالطبع لم يكن ذلك صحيحاً. كل ما هناك ان المساري كان سلمني وريقة صغيرة بعد أيام من نشر الخبر كتب فيها «ربما يصلك تأكيد حول ما كتبت». ولا أدري لماذا كانت الشكوك حول تسريب الخبر تتجه كلها نحو العربي المساري، على الرغم من أنه كان وقتها بالفعل عضواً في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. سبق لك أن أجريت حوارا مع الراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب باعتباره أمينا عاما للحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية وراج أن هذا الحوار أغضب الراحل الحسن الثاني. ما الذي حدث بالضبط في هذه القصة؟ - دعني أروي لك في البداية السياق الذي جاء فيه ذلك الحوار مع الدكتور عبد الكريم الخطيب. وهو سياق له علاقة بالاستحقاقات الانتخابية في عام 1983، التي أدت الى أن يصبح الاتحاد الدستوري القوة السياسية الأولى في مجلس النواب. كنت قررت إجراء حوارات صحافية مع جميع قادة الأحزاب السياسية. وبدت هذه الفكرة جديدة وسط المشهد الإعلامي المكتوب الذي تهيمن عليه الصحافة الحزبية، ولم يكن معتاداً أن تقرأ في صحيفة مغربية حوارات مع زعماء أحزاب سياسية، خاصة اذا كانت صحيفة حزبية، ليس ذلك فحسب بل حتى نشر أخبار وزراء ينتمون الى حزب آخر لم يكن مسموحاً به في الصحف الحزبية، على الرغم من أن كل الحكومات التي تشكلت بعد عام 1977 كانت حكومات ائتلافية تضم عدة أحزاب. وما زلت أتذكر أن صحيفة «العلم» مثلاً لم تكن تنشر أخباراً أو صوراً للمعطي بوعبيد على الرغم من أنه يرأس حكومة تضم حزب الاستقلال. وعندما نشرت له صورة لأول مرة في الصفحة الأولى، كانت على نصف عمود فقط، أي في حجم طابع بريد. يمكن القول إن محاورة جميع قادة الأحزاب قبل الانتخابات، ونشرها في الصحيفة لاقى استحساناً. وما زلت اتذكر كيف أن افتتاحيات كثيرة نشرت حول ما قيل في تلك الأحاديث. وفي ظني أن تلك الحوارات أكسبت «الشرق الأوسط» سمعة طيبة، قبل أن تتعرض الى نكسة كبرى عندما تقرر طبع الصحيفة في المغرب. من بين تلك الحوارات الذي كان لها ما بعدها، الحوار الذي أجريته مع الدكتور عبد الكريم الخطيب، الأمين العام وقتها لحزب «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية»، والسبب أنه تضمن فقرة شكك فيها الخطيب في البرلمان الذي كان انتخب عام 1977. أتذكر أن الدكتور الخطيب ذهب بعيداً في انتقاده ذلك البرلمان والذي كان يمثل حزبه فيه نائب واحد فقط. قال الخطيب حرفياً في ذلك الحوار «أشير إلى أنه بالنسبة للتجربة السابقة التي قادت للبرلمان الحالي (عام 1983) رفض حزبنا أن يساوم في اللعبة الديمقراطية، وأقول بكل صراحة إنه ما من نائب في هذا البرلمان استحق الفوز، حتى نائبنا الوحيد في البرلمان يشمله ذلك». ونشر ذلك الحوار بعنوان «ليس في البرلمان الحالي نائب واحد استحق الفوز». تلك الفقرة وعنوان الحوار أغضبا الراحل الحسن الثاني غضباً شديداً كما علمت من الخطيب نفسه. اتصل بي الدكتور، عبد الكريم الخطيب، وهو في سورة غضب، وأخذ يشرح لي كيف أني لم أفهم كلامه جيدا، قبل أن يطلب مني نشر تصويب باسمه في الصحيفة ينفي أن يكون قال ما أوردته على لسانه. وكان ردي عليه «يا دكتور، لا يمكن أن أكذب نفسي، وتصريحاتك مسجلة»، حينها قال لي «وماذا سنفعل؟ الملك غاضب بسبب تلك الفقرة». وفعلا، وجدت نفسي في مأزق حقيقي لأنه لم يكن سهلاً أن يتصل بك مسؤول حزبي ليخبرك أن ملك البلاد غاضب بسبب حوار أجريته وتتجاهل الأمر، ولم يكن امراً سهلاً خاصة في تلك الفترة. لكن في الوقت نفسه، كان صعباً أن أقول إني لم أفهم ما قاله الدكتور الخطيب، أو نقلت ما قاله بطريقة غير دقيقة. اقترحت على الدكتور الخطيب حلا وسطا لمعالجة الموضوع، وهو أن نجري حوارا ثانيا لتعديل تلك الفقرات التي أغضبت الراحل الحسن الثاني. كان الملك الحسن الثاني ينزعج جداً أن يقال في الخارج إن البلاد تجرى فيها انتخابات مزورة، خاصة أن الحوار أجري مع صحيفة أجنبية توزع في كل العالم. وأن من يقول هذا الكلام سياسي له ارتباطات قوية بالنظام، وليس معارضاَ أو منشقاً. ثم إن «الشرق الأوسط» وبكل موضوعية كانت حريصة ألا تصبح مصدراً لأخبار كاذبة. سبق للنقابة الوطنية للصحافة المغربية في عهد كاتبها العام محمد اليازغي أن أصدرت بلاغا ترفض فيه طبع صحيفة «الشرق الأوسط» في المغرب. ما هي وقائع هذه القصة؟ - تلك من أسوأ الفترات التي عشتها في المغرب من الزواية المهنية. تعود وقائع هذه القصة إلى عام 1983 عندما وافق الملك الحسن الثاني على طباعة «الشرق الأوسط» في المغرب، وصدر مرسوم في «الجريدة الرسمية» بتاريخ 21 مارس 1984 باسم الوزير الأول آنذاك محمد كريم العمراني وقعه نيابة عنه عبد اللطيف الفيلالي وزير الإعلام يسمح فيه بطباعة «الشرق الاوسط» في الدارالبيضاء. ولم يعرض ذلك المرسوم على مجلس حكومي، بل كان قراراً طلب الملك الحسن الثاني من الوزير الأول إصداره. والمفارقة التي سأعرفها بعد ذلك بسنوات أن الفيلالي لم يكن موافقاً على قرار الطبع، فقط وقع المرسوم بحكم منصبه. لكن الحملة ضد ذلك المرسوم كانت بدأت في أكتوبر 1983 عقب إصدار النقابة الوطنية للصحافة المغربية بياناً يندد بقرب السماح لصحيفة «الشرق الأوسط» بالطبع في المغرب. وكان راج في شهر سبتمبر من تلك السنة أن قراراً وشيكاً سيرخص ل«لشرق الأوسط» بالطبع في المغرب. وبكل موضوعية كان الملك الحسن الثاني يملك رؤية بعيدة في هذا الجانب، على الرغم من الحملة القوية المناهضة التي شنتها النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بل وجميع أحزاب المعارضة، والصحف ومعظم الصحافيين والمثقفين المغاربة، ضد طبع «الشرق الأوسط» في المغرب، على اعتبار أنها تهدف الى مزاحمة الصحافة الوطنية، وتنشر ثقافة «البترودولار»، كما كان يقال في تلك الأيام. كما أن شركة «سابريس» التي كانت توزع الصحافة الوطنية راحت تؤجج تلك الحملة، لأسباب تجارية مفهومة. كان الملك الحسن الثاني يرى أن «الشرق الأوسط» التي يملكها سعوديون، والمملكة العربية السعودية دولة صديقة وحليفة، وبالتالي فإن الصحيفة ستنقل للخارج ما يجري في المغرب من موقف التعاطف، بل أكثر من ذلك ستصبح صوتاً للمغرب في الخارج دون أن ينفق عليها سنتيماً واحداً. كما أنها ستساعد في استقطاب استثمارات خليجية. كان ما تريده الصحيفة هو تغيير وسيلة النقل من لندن الى الدارالبيضاء، إذ بدلاً من أن تصل بالطائرة متأخرا بيوم بعد صدورها ستصل في اليوم نفسه عبر تقنية الفاكسميلي التي كانت تستعمل ايامئذٍ لنقل الصفحات. ولعل من المفارقات أنه حتى بالنسبة لأولئك الذين كانوا أكثر تشدداً في مناهضة طباعة «الشرق الأوسط» في المغرب، لم يجدوا وسيلة لتمرير رسائلهم للقصر بعد ذلك سوى الصحيفة نفسها. بعد حصول الصحيفة على رخصة الطباعة بطريقة قانونية، قررت إنشاء مطبعة في الدار البيضاء، هي «مطبعة الأمل» في منطقة عين السبع بشراكة مع شركة «سوشبريس» للتوزيع والتي كانت وقتها توزع الصحيفة، وكانت «سوشيريس» في ذلك الحين شركة مشتركة بين الدولة المغربية وشركة فرنسية . قررت الصحف الوطنية في 13 أبريل عام 1984 الاحتجاب عن الصدور احتجاجاً على بدء طبع «الشرق الأوسط» في المغرب باستثناء الصحف التي كانت تصدر عن مجموعة «ماروك سوار». كانت الحملة التي شنتها الصحف والنقابة الوطنية للصحافة المغربية، تقول إن «الشرق الأوسط» ليست سوى امتداد لصحافة «ماس» التي كانت مقربة من الدوائر الرسمية في عهد الحماية الفرنسية (مجموعة ماروك سوار لاحقاً)، واعتبر آخرون أن السماح بطبع «الشرق الأوسط» في المغرب منافسة غير مشروعة وستتضرر منها الصحافة الوطنية. وليت الأمور وقفت عند هذا الحد، بل أصبح هناك استهداف للصحافيين الذين يعملون في مكتب الصحيفة في الرباط، وألصقت بي شخصياً تهمة «الخيانة». وتعرضت الى ما يشبه المقاطعة من طرف معظم الصحافيين المغاربة، حتى أن البعض من هؤلاء كانوا يرفضون العمل في الصحيفة خشية أن يتهموا «بالخيانة والعمالة»، وانقطع كثيرون عن التعامل مع الصحيفة، ولم يعد يعمل معي أحد في المكتب في ذلك الوقت. انسحب الجميع. هكذا وجدت نفسي وحيداً في هذه المعركة أواجه فيها الصحف المغربية وخلفها أحزاباً سياسية عريقة. وجدت أني في موقف لا يحسد عليه. أصبحت كأني مراسل صحيفة «يدعوت أحرنوت» الاسرائيلية، وليس مراسلاً لصحيفة عربية. تلك المعركة كانت أكبر من أن يواجهها صحافي مثلي يحاول أن يشق طريقه في هذه المهنة، لا أن يخوض معارك ضد جسم صحافي بكامله مدعوما من طرف قوى سياسية وازنة. بلغت المعركة أوجها عندما دخلت النقابة الوطنية للصحافة المغربية في المعركة، وأصدرت بيانات مناهضة لقرار طبع «الشرق الأوسط» في المغرب. وحتى نفهم حجم الموضوع علينا أن نتذكر أن الكاتب العام للنقابة آنذاك كان هو محمد اليازغي، وكان عضواً قيادياً مهماً في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي ومدير صحيفة الحزب. وتطورت الأمور إلى الأسوأ عندما طلبت النقابة من قياديي الأحزاب بأن يمتنعوا عن إعطاء أي تصريح للصحيفة أو تزويدها بمعلومات أو بيانات. لكن أسجل باعتزاز أن السياسي الوحيد الذي خرق ذلك الإجماع هو محمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال، الذي لم يكن مقتنعا بمقاطعة «الشرق الأوسط». كان بوستة يعتبرني واحداً من الصحافيين الذين أنجبتهم «العلم» قبل أن أكون مراسلا لصحيفة أخرى. وأتذكر أني حصلت منه على أول تصريح في خضم تلك المعركة، حول قضية سياسية، وبعد كل هذه السنوات أجد نفسي ممتناً للرجل وموقفه. ظلت علاقتي مع محمد بوستة مستمرة، وكنت أتصل به بين الفينة والأخرى، وهو وزير للخارجية، لأخذ وجهة نظره في أي قضية من القضايا. وأتذكر أنه تعرض بدوره لهجوم حاد من طرف صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» بسبب موقفه الرافض لمقاطعة «الشرق الاوسط». وكيف كان رد السلطات المغربية على قرار الأحزاب القاضي برفض طبع «الشرق الأوسط» في المغرب؟ - لم يصدر أي بيان رسمي حول تلك الحملة. كان طبع الصحيفة قراراً اتخذه الملك شخصياً، للأسباب التي تحدثت عنها. وكانت المفاجأة الكبرى التي كان لها ما بعدها في سياق تلك الحملة ضد «الشرق الأوسط» من طرف الأحزاب السياسية هي أن الراحل الحسن الثاني سيقرر أجراء حوار مع الصحيفة. كان حواراً لم نسع اليه، بل هناك في دائرة المستشارين مثل أحمد رضا اكديرة لم يكن متحمساً أبداً للحوار، كما أن عبد اللطيف الفيلالي وزير الإعلام لم يكن متحمساً له، لكن الملك الحسن الثاني قرر أن يخص «الشرق الأوسط» بحوار مطول، وفي مطلع ذلك الحوار الذي شاهده جميع المغاربة لأن التلفزة المغربية بثته كاملاً، سيرد الملك بطريقة غير مباشرة على تلك الحملة.