بعد خطاب السيد حسن نصر الله، زعيم المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، الذي تحدث فيه بالأدلة الموثقة والمصورة عن الاختراقات الإسرائيلية الجوية والاستخباراتية للبنان، في إطار توجيهه أصابع الاتهام إلى إسرائيل بالوقوف خلف عملية اغتيال المرحوم رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، بدأت الأمور تتجه إلى التهدئة، ولكنها قد تكون مؤقتة، تنتهي بانتهاء موسم الإجازات الصيفية وشهر رمضان المبارك. السيد نصر الله تحدث عن جواسيس إسرائيليين من مختلف الطوائف، ولكنه تجنب الحديث عمّن يقفون خلفهم، أو يتعاونون معهم على الساحة اللبنانية، تحدث عن «مشغليهم» في إسرائيل، ولكنه لم يتحدث أو يكشف عن مشغليهم في لبنان، ولعله أراد الالتزام باتفاق التهدئة الذي أملته الزيارة المشتركة للعاهل السعودي والرئيس السوري لبيروت. السيد سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان، الذي يقضي إجازته السنوية في جزيرة سردينيا اقتفاء بخطى والده الراحل، التزم الصمت بدوره وأمر المقربين منه من وزراء ونواب بعدم إعطاء أي ردود أو تصريحات للصحافة، ولكن دون التلميح بأي نية للتخلي عن المحكمة الدولية أو تأجيل قرارها الظني الذي قيل إنه سيوجه الاتهام إلى عناصر تابعة لحزب الله بتنفيذ عملية الاغتيال. زعيم «حزب الله» قد يكون أجل صدور هذا القرار بطريقة عملية لعدة أشهر أو أسابيع عندما عرض أدلته على الملأ بطريقة حرفية عالية التنظيم والدقة، الأمر الذي أحرج رئيس المحكمة الدولية وفريق التحقيق التابع له بسبب استبعاد إسرائيل من دائرة الاتهام. وإعلانه، أي رئيس المحكمة، الاستعداد في النظر في هذه الأدلة حول الاختراقات الإسرائيلية، التي قدمها زعيم حزب الله، سيجعل من مسألة تأجيل إصدار القرار الظني مسألة منطقية، علاوة على كونها قانونية صرفة. بمعنى آخر، يمكن القول إن السيد نصر الله استطاع أن يخلط الأوراق بخطاباته الأخيرة، ويكسب المزيد من الوقت لترتيب أوضاعه وتحالفاته، والاستعداد بصورة أقوى لمواجهة أي قرار ظني قادم، وهذا أمر لا يعكس الدهاء فقط، وإنما القدرة على إدارة الأزمة بشكل فاعل ومؤثر. الأدلة حول الجواسيس والمسح الجوي الاستطلاعي الإسرائيلي لتحركات رئيس الوزراء الراحل، والطرق التي تعود السير فيها، وتهريب أسلحة وعملاء إلى العمق اللبناني، كلها جرى تسليمها إلى القضاء اللبناني الذي من المفترض أن يسلمها بدوره إلى قضاة ومحققي المحكمة الدولية. ومراجعة عشرات الآلاف من الوثائق والأفلام المصورة سيحتاج إلى وقت طويل، اللهم إذا استمرت المحكمة في نهجها الحالي، أي السير في التحقيقات في اتجاه واحد، أي حزب الله، واستبعاد كل النظريات الأخرى، والتورط الإسرائيلي على وجه الخصوص، وهذا أمر ممكن على أي حال. السؤال المطروح حاليا في لبنان هو الفترة الزمنية، أو العمر الافتراضي لاتفاق التهدئة المعمول به حاليا، والتزام جميع الأطراف المعنية به، وهناك عدة نظريات في هذا الخصوص: * الأولى تقول إن هذا الاتفاق مؤقت ومرهون ببضعة أسابيع على الأكثر، ريثما يتبلور الموقفان الأمريكي والإسرائيلي تجاه الملف النووي الإيراني، حيث تتزايد احتمالات الحرب يوما بعد يوم في ظل الحشودات العسكرية المتصاعدة لدى الطرفين. * الثانية تؤكد أن اتفاقا سعوديا سوريا جرى التوصل إليه، بجعل تأجيل صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية تأجيلا مفتوحا إلى أجل غير مسمى، أي «تمويته» عمليا حتى يتم نسيانه، فقد غابت أخبار المحكمة الدولية حوالي ثلاث سنوات تقريبا بعد الإفراج عن القادة الأمنيين الثلاثة المتهمين بالتواطؤ في عملية الاغتيال، واكتشاف التزوير في شهادات شهود الزور (زهير الصديق أحدهم) حول تورط سورية وأجهزتها، فماذا يمنع تغييبها لفترة أقصر أو أطول؟ فالمحكمة مسيسة فعلا، وتبحث في قضية اغتيال سياسي، وتشكلت بناء على قناعة عملت على إثباتها بتورط محور إقليمي معين فيها، أي سورية وحزب الله دون غيرهما. ومن المفارقة أن ميزان الردع، الذي فرضه حزب الله على الصعيدين اللبناني الداخلي أو الإقليمي بفضل قوته العسكرية الجبارة، هو الذي دفع الكثيرين إلى إعادة النظر في حساباتهم. فالحزب لا يريد الحرب الأهلية، ولكنه لا يخشاها، بل يخشاها الطرف الآخر دون نقاش. وهو في الوقت نفسه لا يريد الحرب مع إسرائيل لأنه يدرك حجم الدمار الذي يمكن أن تسببه هذه المرة لكل لبنان، ولكنه مستعد لها إذا ما جرى فرضها عليه. فعندما قال السيد حسن نصر الله «المطار مقابل المطار، والمصنع مقابل المصنع، والضاحية مقابل تل أبيب»، فإنه كان يعني ما يقوله، وشاهدنا أول ثمار هذه التهديدات في نزوع إسرائيل إلى التهدئة بعد الاشتباك الحدودي الأخير مع الجيش اللبناني الذي خسرت فيه أحد جنرالاتها الكبار. الحرب الأهلية في لبنان إذا اشتعلت ستكون مختلفة عن مثيلتها في السبعينيات، لأنها لن تقوم على أسس دينية، أي بين مسلمين ومسيحيين، أو بين لبنانيين و«أغراب»، أي الفلسطينيين، أو على أسس عقائدية بين اليمين المحافظ واليسار الاشتراكي، وإنما ستقوم بين معسكر مقاومة وآخر مضاد له، أو هكذا سينظر إليها الكثيرون في ظل حالة الاستقطاب الحالية التي تعم المنطقة، فالأمور اختلطت الآن وموازين القوى على الأرض واضحة للعيان. حكومة الوفاق، التي يتزعمها السيد الحريري، باتت على كف المحكمة الدولية وقرارها الظني، من حيث الاستمرار أو معيار القوة والضعف، وأي خطأ بسيط قد يعصف بها، وهذا ما يفسر حالة «الهدوء الضبابية» الحالية التي تسود لبنان والتي يمليها الخوف مما يمكن ان يحمله المستقبل القريب من مفاجآت. الرعب هو القاسم المشترك لجميع القوى اللبنانية والإقليمية أيضا، دون استثناء أحد، بما في ذلك إسرائيل نفسها، ولكن الاحتقان كبير، وتفجير الأوضاع قد يكون مسألة ملحة في ظل «لعبة أمم» جديدة يجري التحضير لها حاليا، وتتمحور حول الملف النووي الإيراني. السؤال المطروح حاليا هو من يصرخ أولا أو يشعل عود الثقاب. خطاب السيد نصر الله الأخير أخفى الكثير من الحقائق، ربما التزاما باتفاق التهدئة، ولكنه كشف الخريطة الإعلامية العربية في أبشع صورها، حيث شاهدنا الكثيرين يقفون في الخندق الإسرائيلي، ويبرئون إسرائيل من جريمة الاغتيال بسخريتهم الفظة من أدلة يمكن أن تدينها وهذه إضاءة مهمة لقراءة المواقع المستقبلية لكل طرف والخندق الذي يقف فيه.