في مثلث جبلي غابوي يربط العاصمتين الاقتصادية والإدارية بإقليم الخميسات، وفوق أراض زراعية تئن تحت وهج الشمس الحارقة، تثير انتباهك مجموعة من القرويين، نساء ورجالا وأطفالا، يحملون المناجل ويحصدون بواسطتها المحاصيل الزراعية بدلا من الاعتماد على آليات الحصاد التي لا يمكنها ولوج تلك الأراضي المرتفعة والمسالك الوعرة. نساء ورجال يحجون إلى أفقر جماعة بجهة الشاوية ورديغة... عمال موسميون ينتظرون بلهفة وشوق حلول موسم الحصاد للتفرغ للعمل الشاق، تاركين أمتعتهم وأطفالهم داخل أكواخهم ومنازلهم الصفيحية المتواجدة بمناطق بعيدة جدا، غير آبهين بقساوة الطبيعة وهزالة مدخولهم اليومي الذي يكلفهم عشر ساعات من العمل ويكلف بعضهم التنقل لمسافات طويلة، راجلين أو مستعملين وسائلهم الخاصة من دواب أو مستغلين وسائل النقل التي يمتلكها أصحاب المحاصيل الزراعية، متزودين بالماء والخبز والشاي وما تيسر من كرم أصحاب الأرض، يقضون النهار في العمل والاستماع إلى أغاني ومواويل بعضهم، وحكايات عن مآسيهم... فئة الحصادة لا ينحصر وجودها في منطقة بئر النصر بإقليم ابن سليمان وامتدادها بإقليم الخميساتوخنيفرة وخريبكة، بل إنها تنتشر مثيلات لها بعدة مناطق قروية جنوب وشرق وغرب وشمال البلاد، تنتظر سنويا مزارعي الأراضي الجبلية لدعوتها إلى حصد محاصيلها، بأجور تزيد وتنخفض حسب العرض والطلب، بل إن بعض المزارعين أنفسهم يضطرون إلى وقف العمل بأراضيهم والخروج رفقة زوجاتهم وأبنائهم وبناتهم للعمل في مزارع وضيعات أخرى، لضمان مصروفهم اليومي، قبل العودة إلى إنهاء حصادهم و(دراسهم). نساء يأتون من مناطق بعيدة للعمل في الحصاد يفضل القرويون البسطاء البدء بحصاد الشعير لتجنب سقوط الحبوب، حيث ينطلق موسم حصاده مبكرا، بداية من منتصف شهر ماي، وعلى مدى حوالي نصف شهر. يتم التعاقد شفويا مع أحد الوسطاء أو السماسرة أو مباشرة مع مجموعة من الرجال والنساء، عازبات كن أو متزوجات، أعمارهن تتراوح ما بين 30 و60 سنة، يتم جلبهن من منطقة بئر النصر أو من المناطق المجاورة لها على متن شاحنات و(صطافيطات وبيكوبات)، وخصوصا من مناطق زحيليكة بإقليم خنيفرة والرحامنة ودكالة عبدة وغرباوة... وهي مناطق بعيدة عن منطقة بئر النصر بمسافات تزيد على 80 كلم، كما يقوم أصحاب الأرض ونساؤهم بمساعدة النساء العاملات في عملية الحصاد التي تعتمد على (المنجل). يتوجب على الحصادة، ذكورا وإناثا، النهوض باكرا ليصلوا إلى مكان العمل قبل الساعة السادسة صباحا، حيث يبدؤون الحصاد اليومي الذي يستمر حتى حدود الواحدة زوالا، وهو موعد تناول وجبات الغداء، وبعدها تتم العودة إلى الأرض في حدود الساعة الثالثة زوالا لاستئناف العمل إلى غاية الساعة السادسة مساء. ويبقى يوم السبت من كل أسبوع يوم عطلة للجميع ومناسبة للتبضع من السوق الأسبوعي (سبت بئر النصر). وتتقاضى النساء والرجال، على حد سواء، أجورا يومية تتراوح ما بين 50 و100 درهم، وهو أجر يصعب تدبيره من طرف أصحاب (الغلة) وتستقبل الجماعة القروية بئر النصر حوالي 200 حصاد وحصادة كل صيف، يضافون إلى حوالي 300 حصاد وحصادة من أبناء وبنات المنطقة. وتستمر مدة الحصاد طيلة شهري ماي ويونيو، تليها عملية (الدراس) من أجل فرز الحبوب عن التبن، والتي تدوم إلى غاية منتصف شهر غشت، تستعمل فيها قوائم الخيول والدواب. ويتراوح ثمن (الدراس) ما بين 60 و70 درهما لليوم. مشاكل تعيق عمل الحصادة وتحد من عطائهم ولعل ما يعيق العاملين في مجال الزراعة البورية التقليدية، على امتداد آلاف الهكتارات الجبلية الوعرة بالجماعة القروية بئر النصر، هو قلة الماء، بل انعدامه ببعض المناطق، وكثرة الحرائق التي تلحق الغابات الكثيفة بالمنطقة، وهي غابات في معظمها غير محروسة، تشكل خطرا كبيرا على السكان بسبب الخنازير البرية التي تهاجم محاصيلهم الزراعية، وكذا تجار المخدرات الذين يعبرون المنطقة ولصوص المواشي الذين زاد عددهم في الأشهر الأخيرة. كما أن مجموعة من العاملات والعاملين في مجال الحصاد، تعفنت أياديهم بسبب الجروح التي تصيبهم أثناء عملهم بالمنجل، ويصاب بعضهم بالضربات الشمسية (السالمة، مينانجيت)، إضافة إلى خطورة تعرضهم للسعات العقارب والأفاعي التي يتضاعف عددها وحجمها خلال فصل الصيف بالمنطقة. وفي ظل غياب مستوصف في المستوى يمكنهم من التداوي باستمرار، وفي غياب أدوية للعلاج من هذه الأمراض الفتاكة ومن سموم الأفاعي والعقارب، وبعدهم عن مقر المستوصف الصغير الذي يديره ممرض تخجل النساء من محادثته في أمور يعتبرنها (حشومة وعيب) ويعتبرها أزواجهن أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى تطليقهن. وتبقى هذه الفئة من النساء عرضة لشتى الأمراض والهلاك. كما أن بعضهن يصاب بخيبة أمل نتيجة سلوكات المزارعين أصحاب المحاصيل الزراعية، الذين يفضلون تأدية أجورهن بالتقسيط لضمان استمرار عملهن، فيما يحاول بعضهم استغلالهن جنسيا أو ابتزازهن بهدف الحصول على خدمات أخرى منهن. التبن والحصيدة هما ربح المزارعين بالمنطقة بابتسامة عريضة رغم البؤس والمعاناة، استقبل أحد المزارعين «المساء» التي زارت المنطقة، وبيدين صلبتين منقوشتين بإصابات الفؤوس والمناجل أدى تحية الكرم البريئة التي لازال متمسكا بها رغم فقره وقساوة المحيط. قال العربي إنه لا بديل له عن زراعته البورية التي بالكاد تغطي مصاريف التغذية السنوية وتقيه شر التسول. وأضاف، في دردشة خفيفة مع «المساء»، أن زراعته توفر له 10 قناطر فقط من الشعير في الهكتار الواحد، وأنه نظرا إلى الوسائل التقليدية التي هو مرغم على استعمالها في الزراعة (بغل يجر محراثا حديديا) وفي الحصاد (عمال وعاملات يستعملون المناجل) وفي الدّرس (خيول مستأجرة بالعمال)، فإن الربح الذي يحصل عليه نهاية كل موسم فلاحي وبعد تأدية مصاريف الزراعة والأدوية والحصاد وجمع التبن والدرس وفرز الحبوب وحملها للبيع، هو التبن و(الحصيدة). وتابع القروي بصوت خافت: «معظم الفلاحين يستدينون سنويا من القرض الفلاحي ليتمكنوا من بدء الحرث والزراعة بمعدل ألف درهم للهكتار، وهم مطالبون بتأمين محاصيلهم من طرف القرض الفلاحي وتسوية ديونهم مباشرة بعد نهاية موسم الحصاد».