لا يزال مقتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي، في 22 نونبر 1963 على يد قناص بولاية تيكساس، لغزا يستعصي على الأمريكيين فك طلاسمه، أو هذا ما يبدو على الأقل. ولا تزال أصابع الاتهامات تتجه، كذلك، إلى أكثر من جهة. ورغم مرور أزيد من أربعة عقود على هذه «المأساة الأمريكية»، فإن الأمريكيين لا زالوا يبدون كذلك اهتماما كبيرا بكل ما له علاقة بآل كينيدي. تعود «المساء»، على حلقات، إلى الخطوات الأولى لآل كينيدي التي شدت أنظار العالم بأسره، وليس الأمريكيين وحدهم، على مدى سنوات طويلة من القرن العشرين، نحو البيت الأبيض، وتكشف أسرار ثروتهم ونفوذهم السياسي والاقتصادي وبقية العوامل التي جعلت منهم أكثر الأسر إثارة للجدل في أقوى دولة في العالم. لم يغير آل كينيدي، وفي مقدمتهم جون، كثيرا من عاداتهم بعد اعتلاء جون كرسي رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية. فقد أصر الرئيس الأمريكي على قضاء عطلته الصيفية في «هيانيس بور»، على عادة أسرة كينيدي قبل أن يتسلم جون مفاتيح البيت الأبيض. كان جميع أفراد أسرة كينيدي يحرصون على قضاء أغلبية إجازاتهم معا، ولاسيما الصيفية منها. كانوا يعملون، بتوجيهات من جوزيف الذي صار مقعدا ابتداء من خريف 1961، على عدم تفويت أي فرصة للمّ شمل الأسرة، أو جمع أغلبية أفرادها على الأقل إذا تعذر حضورهم جميعا، ب«هيانيس بور» صيف كل سنة. وبديهي أن تكون الإجازة السنوية لرئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، وغالبا ما تكون في شهر غشت، المناسبة الوحيدة التي تتيح لجميع أفراد أسرة آل كينيدي وأصدقائها المقربين قضاء أكبر وقت ممكن مع جون، بعد تنصيبه رئيسا للبلاد في 20 يناير 1961. غير أن جون لم يكن يتصور، مثل جميع الأمريكيين، أن صيف 1963 سيكون الأخير بالنسبة إليه في البيت الأبيض وفي الحياة كلها. وقد لاحظ أفراد أسرة جون ومن رافقه إلى «هيانيس بور» من أصدقائه المقربين، أنه كان يحرص، بالإضافة إلى الاستمتاع بوقته رفقة أقاربه وأصدقائه، على اصطحاب ابنته كارولين، كل يوم تقريبا، في جولة بحرية على متن يخت العائلة المسمى «هوناي فيتز». وتداولت وسائل الإعلامية ذلك الصيف عدة صور للرئيس مع ابنته على متن «هوناي فيتز»، مشيرة إلى أن الرئيس يحكي لابنته الوحيدة قصة الحوت الأبيض الضخم الذي يتبع يختهما. فيما قال ليم بيلينغس، الصديق الحميم لجون، للمؤرخين بيتر كوليي ودافيد هورُووِيتز، بعد رحيل جون ببضع سنوات: «كنا نعي جميعنا، الأصدقاء والأقارب على حد سواء، بأنه يتوجب علينا الانسحاب إلى مكان قصي من اليخت بمجرد أن يبادر الرئيس إلى ضم كارولين إليه قبل أن يبدأ في سرد قصة الحوت الأبيض الذي يقتفي أثر اليخت». ولأن كينيدي الأب، جوزيف، كاثوليكي أمريكي تجري في عروقه دماء إيرلندية، فإنه بذل مجهودا استثنائيا ليندمج بسلاسة في المجتمع الأمريكي، ولم يدخر جهدا في سبيل الحيلولة دون تأثر جميع أفراد أسرته، ولاسيما أبنائه، بأصولهم الإيرلندية، ساعيا إلى جعلهم يعيشون على الطريقة الأمريكية. غير أن كثيرا من متتبعي خطوات آل كينيدي يقولون إن هذه الأسرة -التي استطاعت أن تصل إلى أعلى هرم السلطة في بلاد «العم سام» وكسب أفرادها، بشكل منقطع النظير، شعبية كبيرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وخارجها- ظلت في أعين العالم بأسره، بما في ذلك نسبة غير يسيرة من الشعب الأمريكي، نموذجا لنمط الحياة الراقي في ما أسموه «إنجلتراالجديدة». عطل أسرة كينيدي كانت مختلفة في كثير من جوانبها عما اعتاد الأمريكيون القيام به في إجازاتهم الصيفية، فقد كانت الهوايات الرياضية لآل كينيدي أكثر قربا إلى هوايات الإنجليز منها إلى هوايات الأمريكيين. كانوا يلعبون، على سبيل المثال، كرة القدم التي لم تكن في تلك الفترة رياضة شعبية في الولاياتالمتحدة، بالإضافة إلى رياضات أخرى من قبيل الزوارق الشراعية وكرة المضرب. وقال أحد أصدقاء آل كينيدي، الذي اعتاد أن يشاركهم عطلهم الصيفية في هيانيس مستحضرا صيف 1963: «يتولد لديك انطباع، وأنت تكتشف أسلوب آل كينيدي في الحياة، أنهم لا يخضعون لقوانين الطبيعة، وأنه لا يوجد على وجه الأرض من هو أجمل من المجموعة الموجودة أمام عينيك». وسيظل صيفا 1962 و1963 أسعد اللحظات في تاريخ آل كينيدي بعد يوم 20 يناير 1962 الذي شهد حفل تنصيب جون رسميا رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية خلفا لإيزنهاور، لأن المناسبتين كانتا فرصة للأسرة الأمريكية الأكثر شهرة في القرن العشرين للاحتفال مع أصدقائها المقربين بتحقيقها حلمها، حلم جوزيف كينيدي على وجه الخصوص، بأن يتقلد آل كينيدي رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية، لكن فرحة جوزيف بتحقيق هذا الحلم ستنقلب حزنا وأسى في الخريف الموالي الذي سيلقى فيه ابنه الرئيس الأمريكي حتفه بولاية تيكساس. وقد شهد صيف 1963 حدثا، كان لحظتها عاديا في حياة الرئيس الأمريكي، قبل أن يصبح أمرا استثنائيا تداولته وسائل الإعلام الأمريكية على نطاق واسع في مستهل تسعينيات القرن الماضي مباشرة بعد تزكية الحزب الديمقراطي ترشح بيل كلينتون باسمه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 1992. فماذا حدث؟ نشرت الصحف الأمريكية في يوليوز 1963، في إطار متابعتها لأنشطة الرئيس، صورة لجون كينيدي وهو يصافح شابا، يدعى ويليام جيفيرسون كلينتون، اختارته ولاية أركنساس لتمثيلها في برنامج مدني أطلق عليه اسم «شباب الأمة». اعترف كلينتون، الذي كان حينئذ طالبا بجامعة «هوت سبرينغ»، بأنه بذل خلال ذلك الحفل، الذي نظم بالبيت الأبيض في 24 يوليوز 1963، جهدا كبيرا لمصافحة الرئيس جون كينيدي، وأفصح لبعض أصدقائه، في تلك اللحظة، عن رغبته الشديدة في أن يصبح ذات يوم رئيسا للبلاد. وهكذا عادت نفس الصورة، بعد ثلاثين سنة من التقاطها، لتتصدر صفحات العديد من الجرائد الأمريكية، وشكلت مادة دسمة في نشرات أخبار الشبكات التلفزية والإذاعية ليوم 19 يناير 1993، بعد أن أقدم بيل كلينتون على زيارة مقبرة «أرلينغتون» للترحم على الأخوين جون وروبير كينيدي، عشية تنصيبه رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية في 20 يناير 1993.