أينما حللت تجد العباد يشتكون، حتى أصبحت الأماكن العامة والمواصلات المشتركة عيادات مفتوحة لطب نفسي «بديل»، كلما رمت بك الأقدار إلى كرسي يجاور شخصا ما إلا وفُتح حديث لا يغلق إلا بتركك المكان، شكوى دائمة من كل شيء.. وأي شيء. شكوى من البرد القارس شتاء، من الحر الشديد صيفا، من التعب مساء، من الاكتظاظ صباحا، من الغلاء والرشوة والمحسوبية، من الحسد والسحر والبغضاء، من الإخوة والأعداء، الجيران والأصدقاء.. مسلسل لا نهاية له، لكنه كلام فقط، حديث عابر لا فائدة منه.. ربما يهون قليلا على بعض النفوس، لكنه لغو وثرثرة ومضيعة للطاقة والوقت، فيما كل هؤلاء يلتزمون الصمت المطبق حينما يتعلق الأمر ب«شكاوى» حقيقية ومصيرية تخص تعطل مصالحهم أو استغلالهم أو الدوس على كرامتهم إذا ما استثنينا ردود أفعال خجولة وعابرة تخص دائما الاحتجاج على ارتفاع الأسعار. في الدول المحترمة، يحترم المواطنون كل القوانين ويؤدون كل الواجبات، لذلك لا يترددون أبدا في إعلان سخطهم وتذمرهم من خلال شكاوى مسجلة مكتوبة أو من خلال «المقاطعة» أو الاحتجاج المنظم والحضاري. كل هذه السلوكات الزجرية القوية تجبر المسؤولين عن مصالح الناس على التفكير ألف مرة قبل اتخاذ قرار، وتجعلهم يرتعدون خوفا من أي تقصير، خصوصا أمام حجم التعويضات المادية والخسائر المعنوية التي يتكبدونها في حالة تأخر مصلحة أو تعثرها أو تعطلها. أما نحن، فنثرثر بلا توقف ونبتلع ألسنتنا بمجرد أن يتعلق الأمر بمصلحة جماعية، بل والأدهى من الصمت أننا نؤدي ثمن خدمات، هي في الأساس سبب نقمة وعذاب ومهانة نتجرعها في صمت دون أن ننبس بكلمة. يتأخر القطار ساعات وننتظره في صمت دون أن يتقدم الركاب نحو المسؤول عن المحطة لتسجيل شكاواهم والمطالبة بالاعتذار والتعويض، تتأخر الطائرة كما يحلو لها كأنك ستمتطي عربة يسوقها حمار وليس طائرة خاضعة لمواعيد ومرتبطة بمصالح الركاب. هذه الأيام يقضي المسافرون ساعات في الطريق السيار الذي يربط الرباط بالدار البيضاء بسبب الأشغال، ويدفعون ثمن «عذابهم» في محطات الأداء، فيما أبسط الحقوق أن تكون الطريق مجانية مادامت قيد الإصلاح وتسبب المتاعب للناس. تبيعك بعض الأسواق الكبرى مواد فاسدة لا تكتشف انتهاء مدة صلاحيتها إلا في مطبخك، فتفضل رميها في القمامة عوض القذف بها في وجه أولئك المحتالين الذين يتلاعبون بصحة الخلق. الكل متذمر من السيل المتزايد من المسلسلات الكورية والمكسيكية والتركية والهندية الناطقة بالفصحى واللهجتين السورية والمغربية، لكن هم أنفسهم من يشاهدونها. الصمت عن الحق، كأن تخون من أجل مبدأ.. هو تواطؤ ضمني ومباشر يجعل منا كائنات مشوهة بدون قيمة أو كرامة، وصمتنا معدٍ كلما تعلق الأمر بمصالحنا، لا نبوح بشيء وننسحب يسبقنا ظلنا في انهزام. ممّ نخاف؟ لست أدري.. فلا أعتقد أن ما سيصيبنا أشد مما نحن فيه. القانون يسمح لنا بتقديم الشكوى ويعترف بحق طلب الاعتذار والتعويض، فلماذا لا نستعمل هذا الحق؟ لست أدري.. هناك أرقام لتسجيل الشكاوى ومكاتب ومديريات، وهناك مصالح ولجان شكلت لهذا الغرض في شتى المصالح والإدارات والمرافق، لكننا حداثيو المظهر بدائيو السلوك، نفتح أفواهنا للتذمر ونغلقها حينما يتعلق الأمر بالمطالبة بحق. أهو الخوف الذي يلجم الناس عن المطالبة بأدنى حقوقهم إزاء مصالح خلقت أساسا لخدمتهم؟ أم الضعف؟ أم المهادنة والاستسلام؟ ربما الجبن.. نعم إنه الجبن.