ظل مارسيل خليفة يهرب من الصحفيين طيلة فترة إقامته بمدينة أكادير لإحياء حفله الساهر بعاصمة سوس في إطار فعاليات مهرجان «تيميتار»، كما رفض أن يقيم أية ندوة صحفية لتقديم جديد أعماله ومشاريعه، وكان من اللازم انتظار يوم الجمعة الماضي والبحث عن طريقة للدخول إلى الفندق الذي كان يقيم فيه هو وابنه، عازف البيانو، رامي خليفة..في هذا الحوار يتحدث مارسيل عن مساره الفني الذي يصفه ب«الاستمرارية»، كما يستنكر ما يتم تقديمه على الفضائيات العربية ويعبر عن مواقفه من الوضع في لبنان والقضية الفلسطينية وينتقد الرئيس الأمريكي جورج بوش بشدة، ويصف الوضع العربي ب«المتأرجح». - لنبدأ من النهاية لماذا بقيت تردد طيلة سهرتك الأخيرة أنه «يجب أن نتعلم الحب من جديد»؟ < لأنه في النهاية كل إنسان يبحث عن الحب، وأعتقد أنه بدون الحب فالحياة تصير باهتة وبدون معنى، وكل ما يجمع هذه الحياة ويخيط دقائقها وساعاتها وأيامها هو هذا الإحساس الخفي المسمى «حب». ولا أقصد بالحب فقط حب الزوج أو «الكوبل» لأن للحب تمظهرات أخرى ويمكن أن يولد فقط عندما ننظر إلى وردة ونستحلي جمالها، ولا يجب على هذا الجمال أن يستهويك لدرجة أن يصير شيئا عاديا، والشمس التي تشرق كل يوم يجب أن أنظر إليها كل صباح بنظرة أخرى وكإشراقة جديدة، مختلفة عن إشراقات أمس وأول أمس والأيام الماضية، وكل يوم يجب أن يكون هناك مغزى لرؤيتك للشمس، إذن هذا النوع من الحب يقوم في جزء كبير منه على عدم التعود على الأشياء التي نراها وأن ننظر إلى الحبيب كل يوم بشكل مختلف بمعنى أن نستعيد الدهشة الأولى في كل شيء تقوم به في حياتك. يمكن اليوم أن تتذكر أن أحسن شيء قمت به وأنت صغير هو تلك القبلة الأولى، وليس لأنك صرت رجلا اليوم وصارت لك تجارب فهذه القبلة ستدخل في خانة «العادي»، يلزم أن تستعيد سحر تلك القبلة الأولى، هذا هو المعنى الذي كنت أقصده ليلة أمس في السهرة وهو أن نعيد تلك الدهشة الأولى..ألا نفقد الدهشة. - قبل قليل كنت تخاطب ضيوفك على مائدة الغداء قائلا: «الفن رسالة» ماذا كنت تقصد؟ < لا لا «مش رسالة يعني.. مش تحديدا ذلك» لا أريد أن تدخلني في مثاليات كبيرة.. أنا لست بواعظ ديني ولست برجل دين.. يعني لا تدخلني في الأخلاقيات، بل على العكس يمكن أن تدخلني في الأحاسيس..الأحاسيس الإنسانية. الفن يلون لك الحياة أو بالأحرى يجمل لك الحياة وكما قلت عن الحب فلو افترضنا أنه لم يكن هناك فن.. كان الأمر سيكون صعبا.. يعني الفن هو المتخيل عند الإنسان الذي يشبه كثيرا حالنا عندما ننظر إلى عظمة هذا الكون، وففي الفن تترسخ هذه الأشياء ونحس بالدهشة، ويسيطر على الوجود ذلك البعد الكوني ذلك الكبر.. وينبغي على اللوحة الفنية أن تكون غير الطبيعة.. والصوت الموسيقي ينبغي أن يكون غير صوت العاصفة أو صوت العصفور لأنه صوت متخيل أكثر، لكنه في نفس الوقت مستمد من كل هذه الأشياء.. ففي اللوحة التشكيلية نجد أن كل الألوان مستمدة من الطبيعة، ولكنها تعبر عن وعي آخر.. فما الفائدة الممكنة إذا قدم هذا الفنان أو ذاك تقليدا بشعا للطبيعة. - لماذا اخترت فنا صعب التفسير؟ < لا..أنت لن تطلب مني ترجمة فني لأن الفن أصلا لا يترجم.. يعني أنه لا يترجم بلغة أدبية أو أية لغة أخرى متداولة لأن له لغته الخاصة، ولأجل ذلك فعندما نتكلم عن الفن يكون هذا الأمر صعب التفسير، وليس من الضروري أن نفسره..»مبدأ الحوار هو غلط».. - ما هي هواجس مارسيل الآن؟ < هي هواجس كثيرة ومتشابكة ومتواصلة ببعضها البعض منذ العمل الأول وحتى آخر أعمالي اليوم، هناك رابط متين بينها.. فلا يمكن أن نقول إن «وعود من العاصفة» مختلف عن «تقاسيم» أو عن «جدل» أو عن «تصبحون على وطن» أو عن «أحمد العربي» أو عن «يطير الحمام».. - أعتذر لمقاطعتك لكن هل هناك إعادة قراء لتاريخ مارسيل الفني اليوم؟ < نعم.. لقد أعدت قراءة تاريخي الفني.. بمعنى أنني أضع إنتاجاتي بمنطق تطور العصر الآن..فعندما غنيت «أمي» أديتها ربما بنوع من النضج، فهناك فرق بين شخص يغني لأمه في سن العشرينات وبين آخر يغني لها في الخمسينات. يعني هناك شيء مختلف لكن الجوهر يبقى هو ذاته، ولكن اللغة تختلف والتعبير يختلف..يعني أن تضع نفسك في العصر وألا تكون من الماضي.. أن تكون حاضرا وأن ترى المستقبل، وهذا مهم في رأيي: ألا تترهل... - لكن ما تتحدث عنه الآن غير موجود؟ < أنت تدفعني الآن إلى الحديث عما يحدث في الفضائيات.. وأنا لا أدخل في هذا المشروع، الذي لدي ملاحظات كبيرة عليه.. ولكن ما قلته هو نظرية حقيقية للفن الذي يريد أن يكون خلاقا، والذي يريد أن يعبر وأن يستشرق والذي يريد أن يرى الأفق البعيد، وأن يرى أنه لا زال هناك ضوء في الأفق البعيد وينبغي أن نمشي باتجاهه.. وإذا استطعنا أن نأخد معنا الناس إلى هذا الضوء نكون قد استطعنا أن نحقق الهدف على الأقل.. العالم العربي يعيش الآن على إيقاع انهيار إعلامي كبير ترسخه كل يوم عشرات القنوات الفضائية، وكل ما يبث اليوم هو نوع من الأعمال التجارية التي تخدم مصالح معينة ومصالح البترودولار، والسبيل الوحيد لمواجهة ذلك هو مقاطعة الجمهور لهذه المؤسسات الإعلامية. - في الأعمال الأخيرة لمارسيل، خصوصا في «جدل» و«تقاسيم» هناك من يتحدث عن قطيعة في لغتك الفنية؟ < (ينزعج كثيرا) إذا كنت أنت متابعا بجدية لأعمالي..لا أتصور أنه كان يجب عليك أن تسأل هذا السؤال، لأنه منذ البداية كان مشروعي الفني مختلفا، لم يكن هناك أي تصريح مباشر عن أي قضية في أعمالي، يعني في العمل ذاته..يعني مثلا أين هي «الثورة» بمعنى الثورة في مقطوعة «ريتا»؟ أو أين هو الوطن في «أمي»؟ أو أين هي الانتفاضة في أغنية من الأغاني.. - اسمح لي أن أقاطعك من جديد.. ماذا عن «كفناه» أو «انهض للثورة والثار» أو عن «أحمد العربي»...إلخ؟ < لا لا اسمعني..لدي موقف أكيد، لكن منذ البداية كان عملي لا يدخل تحت أي تسميات.. لأنني أعرف أن هناك دائما من يحققون أهدافا خاصة من وراء موقف سياسي أو وطني.. وهذا ليس مكسبا للفن وإنما خيار للفن.. والمقصود هنا أنه يجب أن تحقق أهدافا في الفن من أجل الفن وليس من خلال موقف. كثير من الناس كان لديهم موقف سياسي لكنهم فشلوا في العطاء الفني. وعملي منذ البداية كان عملا فنيا مختلفا تماما، كانت فيه رؤية إنسانية أساسا، هل هناك أجمل من أغنية حب.. هل هناك أجمل من أغنية «ريتا» شعريا ولحنيا.. وهذا كان منذ البداية وليس شيئا جديدا. - هل معنى هذا أنه ينبغي أن نمارس الفن من أجل الفن..بعيدا عن السياسة؟ < لا.. ليس كذلك.. ليس هناك شيء اسمه «فن نضالي»، «فن سياسي»، «فن تحريضي».. هناك فقط فن.. هناك التزام بقضايا: الحب التزام، الأرض التزام، العيش التزام، البحث عن الجمال هو التزام، لكن كيف نحقق ذلك بوعي فني، هنا تكون الإضافة، وهنا تستطيع أن تقول إنك قد حققت شيئا أم لا. كل الناس ملتزمون بأشياء لكن فيهم من هو ملتزم باللاشيء، وفيهم ملتزمون بقضايا جوهرية إنسانية، في النهاية الفن يعبر عن عمق الحدث وليس عن الحدث بالذات فإذا خسرت قضية من القضايا هل سأعبر عن ذلك مباشرة بالموسيقى؟.. لا. يمكن أن أعجز عن التعبير عن ذلك في اللحظة ذاتها لكن فيما بعد يمكن أن أستخرج ذلك.. لم يختلف شيء عندي بل هناك تواصل لما بدأته منذ سنوات لكن ربما الآن تطورت أدوات اشتغالي، ربما خسرت شيئا من عفوية ذلك الطفل الموجود بداخلي، لكنني ربحت تجربة فيها الكثير من التعاطي الفني مع البعد الموسيقي..هناك شيء ينتهي لكن الجوهر هو نفسه. - ما الذي يزعجك في عالم اليوم مارسيل؟ < كثير من الأشياء تزعجني.. أول شيء هو عدم وجود حرية إنسانية، وفي تقديري أن هناك رغبة في إعطاء العقل البشري نمطية التربية.. كثير من مناهج التدريس الموضوعة اليوم في معاهد ومدارس العالم كلها ينبغي إعادة النظر فيها.. ليس هناك حرية للفرد في أن يستنبط.. دائما يتم إملاء كل شيء على الأفراد، أي ما يفعلون في كل النظريات وفي كل الإيديولوجيات وكل الفلسفات، وفي كل الروحانيات هناك إملاء..يعني هناك تعطيل للعقل البشري. طبعا هذه الأشياء نلمسها اليوم بقوة لأن من وراءها هم أصحاب النفوذ والجاه والسلطة والعسكر...إلخ. وهذه التربية لا تنشئ غير الحروب، وهذه الأخيرة قادمة لا محالة، لأن هذا النوع من التوجيه النمطي والتفرقة بين العقول البشرية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الحروب. - ماذا عن الوضع في لبنان؟ < الوضع في لبنان يشبه وضع المنطقة ككل.. وضع المنطقة هو صعب جدا ومتأرجح. وتعرف أن القضية الفلسطينية هي محور كل هذه القضايا وإذا لم يوجد حل لهذه القضية فإن كل القضايا الأخرى بما فيها قضية لبنان ستبقى كما هي وإلى الأبد، هناك أيضا مشكل البترول الموجود بهذه المنطقة، وأعين العالم كلها عليه، وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية.. ليس هناك استقرار وهناك ضغوطات كبيرة، وهناك أمية كبيرة سواء بين الحكومات المحلية أو حتى الحكومات المسيطرة على العالم.. فما فعله بوش في هذه السنوات كان جريمة كبيرة في حق شعوب الأرض.. لماذا لا يصرفون الأموال التي تخصص للأسلحة والحروب في إنماء المجتمعات الإنسانية.