حرص الرئيس الفلسطيني محمود عباس على تأكيد، في جميع لقاءاته الصحافية، أنه لن يذهب إلى المفاوضات المباشرة مع الإسرائيليين إلا في حال حدوث تقدم في المفاوضات غير المباشرة التي ترعاها الولاياتالمتحدة عبر السناتور جورج ميتشل، مبعوثها للسلام في المنطقة. الدكتور صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، قال أكثر من مرة إن المفاوضات غير المباشرة لم تحقق أي تقدم حتى الآن، وإن الإسرائيليين رفضوا الرد على مقترحات قدمتها السلطة عبر الوسيط الأمريكي تتعلق بالقبول بتفاهمات جرى التوصل إليها في عهد حكومة أولمرت تتعلق بحدود الدولة الفلسطينية المستقلة. هذا كلام جميل، ولكن كيف يفسر الرئيس عباس وكبير مفاوضيه وكل أركان سلطته اللقاء الذي تم بالأمس بين الدكتور سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطيني، وإيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، في القدسالمحتلة، أليس هذا اللقاء هو إحدى حلقات المفاوضات المباشرة التي يرفضها الجانبان علنا، ويقرانها سرا؟ عندما كشفت المصادر الإسرائيلية أنباء هذا اللقاء تلكأت السلطة في رام الله في تأكيده، ولكنها عادت واعترفت به، وبررته بأنه ليست له أي علاقة بالمفاوضات، وسينحصر في مناقشة الأمور الحياتية اليومية للفلسطينيين في الضفة الغربية، وشددت على أن الدكتور فياض ممنوع من الحديث في الشؤون السياسية، لأنها من اختصاص حركة «فتح». الدكتور فياض «كذّب» السلطة وتبريراتها هذه بشكل واضح، و»دون لف أو دوران»، عندما كشف، في مؤتمر صحافي عقده بعد اللقاء مباشرة في مكتبه برام الله، أنه بحث مع باراك عدة ملفات من بينها التنسيق الأمني، وضرورة وقف الاستيطان، وإيقاف عمليات الإبعاد، والإفراج عن الأسرى، ورفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، وأكد في الوقت نفسه أنه بحث جميع هذه القضايا والملفات بشكل «معمق». خطورة هذا اللقاء ومعانيه لا تنحصر فقط في خرق اتفاق عربي بعدم الانتقال إلى المفاوضات المباشرة دون إحراز تقدم ملموس، وإنما في توقيته، أي قبل يوم واحد من اللقاء المنتظر في البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما وضيفه الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. رئيس الوزراء الإسرائيلي سيحاجج مضيفه الأمريكي بأنه لا داعي لممارسة أي ضغوط عليه لتجميد الاستيطان لاستئناف العملية السلمية، فليست لديه أي مشكلة مع الطرف الفلسطيني، والمفاوضات مستمرة على أكمل وجه، فبالأمس فقط التقى وزير الدفاع باراك برئيس الوزراء الفلسطيني وجها لوجه، وبحثا جميع القضايا بجدية بما في ذلك مسألتا الاستيطان وحصار قطاع غزة. هذا التراجع المهين وقصير النظر من قبل السلطة عن مواقفها ليس جديدا ولا مفاجئا، فقد تعودنا عليه، وبتنا لا نثق بأي مواقف للرئيس عباس ومساعديه، لأننا نعرف أنها ستنهار مقابل أي ضغط أمريكي أو تحايل إسرائيلي. السلطة ورئيسها ورئيس وزرائها يلقون دائما بطوق النجاة إلى الإسرائيليين في كل مرة يواجهون فيها عزلة دولية، فعلوها أيام مؤتمر أنابوليس عندما ذهبوا دون تجميد للاستيطان، وكرروها بعد عدوان غزة عندما قبلوا بالمفاوضات غير المباشرة، وها هم يرتكبون الإثم نفسه بالتفاوض مباشرة مع الإسرائيليين في وقت ما زالت فيه دماء شهداء سفينة أسطول الحرية لم تجف، وتهدد تركيا بقطع العلاقات مع إسرائيل إذا لم تعتذر إليها رسميا عن هذه المجزرة ولم تلبّ جميع شروطها الأخرى، وأبرزها لجنة التحقيق الدولية ورفع الحصار عن قطاع غزة. أحد المسؤولين في السلطة قال لي، في اتصال هاتفي مفاجئ، إننا لا نعرف حجم معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، وعلينا أن نفهم أنها سلطة مقيدة باحتلال، وأن اللقاء بين باراك وفياض هو للتخفيف عن الناس، وتسهيل حياتهم، والمضي قدما في تطوير الاقتصاد وإكمال البنى التحتية للدولة، وباراك هو المسؤول عن جميع هذه القضايا. نقول لهذا المسؤول إننا نفهم ذلك كله، ونؤيد التخفيف من معاناة الناس، ولكن أليس من الحصافة أن يتأجل هذا اللقاء بضعة أيام ريثما يعود نتنياهو من زيارته لأمريكا؟ ثم ألا يستطيع أهل الضفة الصبر ثلاثة أيام فقط على معاناتهم وهم الذين صبروا عقودا تحت الاحتلال؟ المسألة ليست تخفيف الضغوط المعيشية عن أهل الأرض المحتلة، وإنما تخفيف الضغوط السياسية عن نتنياهو، وإخراجه من عزلته الدولية الحالية، وليس هناك أفضل من السلطة ورجالها في رام الله للقيام بهذه المهمة على أكمل وجه. نتنياهو قد يتعهد لأوباما بإطلاق سراح بعض الأسرى الفلسطينيين شبه المنتهية فترة محكوميتهم، وسيزيل بعض الحواجز في الضفة، وسينقل بعض المناطق المحتلة من المنطقة «ب» إلى المنطقة «أ» التابعة للسلطة، وبعد ذلك سيطلب مفاوضات مباشرة ويطلق العنان للاستيطان مجددا. إسرائيل تعيش أفضل أيامها في الضفة الغربية، تبني المستوطنات، وتهود المقدسات، وتفرغ القدسالمحتلة من سكانها العرب، وتتمتع بالتنسيق الأمني الذي وفر لها الهدوء والاستقرار والأمن طبعا، فلماذا تقدم تنازلات للفلسطينيين أو تعطيهم دولة أو أي نوع من أنواع السيادة؟ نشعر بالمرارة والألم ونحن نرى الحركة الوطنية الفلسطينية تنتقل من هدف المقاومة والتحرير إلى هدف دفع الرواتب وتأمين الاحتياجات المعيشية لأهل الضفة الغربية، تماما مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا). وربما لا نبالغ إذا قلنا إن المسؤولين في وكالة الغوث، خصوصا العاملين منهم في قطاع غزة، أكثر تعاطفا ووطنية تجاه المأساة الفلسطينية وحصار الشعب الفلسطيني من نسبة كبيرة من نظرائهم في السلطة الفلسطينية في رام الله. ويمكن العودة إلى مواقف السيدة كارين أبو زيد، ومدير الوكالة في القطاع جون جينغ الإيرلندي الشريف والمقارنة بين مواقفه المعارضة بشراسة للحصار وممارسات إسرائيل الدموية أثناء العدوان على غزة ومواقف بعض مسؤولي السلطة في رام الله لفهم ما نقصده في هذا الصدد. نخشى أن تكون السلطة في رام الله «مغرمة» بالنموذج المصري الحالي في الحكم، فكل الدلائل تشير إلى أنها تتحول إلى سلطة يتعمق فيها التحالف بين مسؤوليها وطبقة رجال الأعمال، لأن كل هم هذه السلطة الراهن هو الاقتصاد، وقطاع الأعمال، وتسهيل حركة رأس المال، وجذب الاستثمارات لزيادة ثراء هؤلاء. أما قضية اللاجئين المعدمين أو الفقراء المحرومين فليس لهم إلا الفتات في أفضل الأحوال. السيد زكريا الزبيدي، أحد المناضلين الشرفاء الذي عاش خلف القضبان أكثر مما عاش في جنين، لخص الوضع المأساوي الحالي في الضفة بقوله في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية: «نعم.. هناك مستشفيات.. وتلاميذ أكثر في المدارس.. وسيارات دفع رباعي للمسؤولين في السلطة، وراتب آخر الشهر، ولكن الشعب الفلسطيني لم يقدم آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى والأسرى، ولم يقم بثورته من أجل هذه الأشياء». نأمل أن يقرأ كلماته هذه المسؤولون في السلطة في رام الله.