هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. كرسي الرئاسة وثورة التصحيح تطورت الأحداث في مصر بسرعة فائقة بين عامي1951/1952، فألغت حكومة الوفد معاهدة 1936 ليندلع بعدها حريق القاهرة الشهير في يناير 1952 والتي كان من آثارها إقالة الملك لوزارة النحاس الأخيرة، وتماشيا مع الأحداث قامت رجالات الثورة بانتهاز الفرصة وعمدت إلى تشكيل قيادة لتنظيم الضباط الأحرار والتحضير للثورة التي قادها جمال عبد الناصر بالقاهرة والتي عرفت بثورة الجيش على الملك والإنجليز (ثورة يوليو)، هنا سارع جمال عبد الناصر إلى استدعاء السادات في 21 يوليو 1952 من مقر وحدته بالعريش يطلب منه المجيء إلى القاهرة للمساهمة في ثورة الجيش على الملك والانجليز، فلبى السادات الطلب فورا وسارع بالتوجه إلى القاهرة والالتحاق برجال المقاومة هناك، ولدى وصوله أسندت إليه مهمة حمل وثيقة التنازل عن العرش إلى الملك فاروق وإذاعة بيان الثورة بصوته، والتي كان لها الفضل في انتهاء الملكية في مصر وإعلان الجمهورية عام 1953، والتي سيتم بمقتضاها إسناد منصب وزير الدولة للسادات في أول تشكيل وزاري لحكومة الثورة عام 1954 ثم لينتخب رئيسا لمجلس الأمة عام 1961 ثم نائبا للرئيس جمال عبد الناصر حتى يوم 28 سبتمبر 1970. بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 أصبح السادات رئيسا للجمهورية، وكان أول ما اتخذه من قرارات هو ذلك القرار الحاسم في الخامس عشر من مايو من العام 1971 الرامي إلى القضاء على مراكز القوى في مصر والذي عرف آنذاك بثورة التصحيح الذي رافقه إصدار دستور جديد للجمهورية، كان من نتائجه الاستغناء عما يقارب 17000 خبير روسي في أسبوع واحد، وبدأ بوضع اللبنات الحاسمة للحرب على (إسرائيل) لاسترداد سيناء والتي بدأها في السادس من أكتوبر من العام 1973 بالتعاون مع سوريا وبعض الدعم العربي واستطاع من خلالها كسر خط بارليف وعبور قناة السويس، مشكلا بذلك أول انتصار عسكري على (إسرائيل)، لتعلو صورة السادات من جديد بين الجماهير ويزيد رصيده السياسي حينما سعى إلى رسم معالم مصر وانفتاحها على العالم الخارجي اقتصاديا وسياسيا، الشيء الذي سمح بإعادة هيكلة النظام الرأسمالي للاقتصاد المصري وإعادة الحياة الديمقراطية التي بشرت بها ثورة 23 يوليو ولم تتمكن آنذاك من تطبيقها مقررة بذلك عودة الحياة الحزبية التي سمحت بظهور المنابر السياسية التي ظهر من رحمها الحزب الوطني الديمقراطي كأول حزب بعد الثورة وحزب الوفد الجديد وحزب التجمع الوحدوي التقدمي وغيرها من الأحزاب.... الصورة التي أغضبت العرب في صباح الخامس من يونيو من العام 1975 قام السادات بافتتاح قناة السويس بعد تطهيرها من آثار العدوان، حيث بدا له هذا النصر انطلاقة لاتخاذ القرار الحاسم في تاريخ الأمة العربية بحجة إقرار السلام الشامل في المنطقة العربية، فبعد خطابه أمام مجلس الشعب المصري يوما قبل الزيارة قام السادات بزيارة مفاجئة إلى (إسرائيل) في التاسع عشر من نوفمبر من العام 1977 دون التنسيق مع الجامعة العربية، الشيء الذي أدى إلى هيجان الشارع العربي وقتئذ وخلف ردود فعل عربية سلبية لتلك الزيارة من خلال الدعوة التي أطلقتها القمة العربية التي عقدت في بغداد بناء على دعوة الرئيس العراقي آنذاك احمد حسن البكر والتي أدت إلى مقاطعة مصر ونقل مقر الجامعة العربية إلى العاصمة تونس بعد رفض السادات دعوة الجامعة له بالعدول عن قراره بالصلح المنفرد مع (إسرائيل) كونه سيلحق ضررا كبيرا بالتضامن العربي ويؤدي إلى تقوية وهيمنة (إسرائيل) وتغلغلها في الحياة العربية وانفرادها بالشعب الفلسطيني... رفض السادات بتهكم الدعوات العربية للعدول عن قراره مفضلا الاستمرار في مسيرته السلمية المنفردة مع (إسرائيل)، بل إنه دعا الدول العربية إلى نهج نفس السياسة والقيام بزيارة (إسرائيل) لإنهاء الحرب وإحلال السلام في المنطقة، وعمد بعد ذلك إلى تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي التي كان من آثارها رفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات الأساسية، الشيء الذي رفضه الشعب المصري من خلال مظاهرات حاشدة وكبيرة أطلق عليها «انتفاضة الحرامية» حيث اندس الكثير من اللصوص داخل الجماهير المحتشدة وأحرقوا ونهبوا العديد من المحلات التجارية.. وما زاد من حدة الصراع بين الشعب والسلطة هي الزيارة التي قام بها السادات إلى واشنطن من أجل التفاوض وإعادة الأرض وإحلال السلام وعناقه الساخن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن بعد توقيعه اتفاق السلام مع (إسرائيل) بحضور الرئيس الأمريكي جيمي كارتر والذي استعادت مصر من خلاله أراضي سيناءالمحتلة... بحلول خريف عام 1981، انتشرت في مصر حملة اعتقالات واسعة شملت المنظمات الإسلامية ومسؤولي الكنيسة القبطية والكتاب والصحفيين ومفكرين يساريين وليبراليين، ووصل عدد المعتقلين في السجون المصرية إلى 1600 معتقل وذلك على إثر حدوث بوادر فتن واضطرابات شعبية رافضة للصلح مع (إسرائيل) ولسياسة الدولة الاقتصادية... المفاجأة التي شلت الجميع لم يكن هناك ما يشير إلى أن هذا اليوم سيكون يوما غير عادي، لم يكن هناك ما يشير إلى أن هذا اليوم سيكون آخر يوم في عمر وحكم السادات، لم يكن هناك ما يشير إلى أن هذا اليوم الذي يحتفل فيه السادات بذكرى انتصاره سيكون هو يوم مصرعه، ففي ذلك الصباح وقفت سيارة عملاقة تحمل جنود الأمن المركزي خلف جامع (جمال عبد الناصر) بالقرب من وزارة الدفاع التي تعود السادات زيارتها صباح كل 6 أكتوبر، اصطف جنود الشرطة بطول طريق صلاح سالم والطرق الفرعية المؤدية إلى أرض العرض العسكري، أغلقت حواجز الشرطة العسكرية الشوارع الرئيسية بالمنطقة، تولت نقاط الأمن المتعددة والمتنوعة تفتيش بطاقات المدعوين لحضور العرض والتأكد من أن سياراتهم الخاصة لصق على زجاجها الأمامي التصريح الأحمر الذي استخرجته إدارة المراسيم بوزارة الدفاع.. إلى هذا الحد كانت إجراءات الأمن تبدو في صرامتها (الشكلية) إلى حد منع ضابط (عقيد) من سلاح الإشارة ومجموعة صغيرة من المهندسين الضباط من دخول المنصة في الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم. هذا ما حدث يوم الاغتيال
كان السادات يجلس كالعادة في الصف الأول، ومعه كبار المدعوين والضيوف، على يمينه جلس نائبه حسني مبارك، ثم الوزير العماني شبيب بن تيمور وهو وزير دولة سلطنة عمان ومبعوث السلطان قابوس (الذي كان الحاكم الوحيد بين الحكام العرب الذي لم يقطع علاقته بمصر، ولا بالسادات بعد زيارته للقدس ومعاهدة كامب ديفيد) للمشاركة في الاحتفالات، بعد الوزير العماني جلس ممدوح سالم (مستشار رئيس الجمهورية الذي كان من قبل رئيسا للوزراء والذي كان أول وزير للداخلية بعد سقوط مراكز القوى وحركة 15 مايو 1971) والدكتور عبد القادر حاتم أحد رجال عبد الناصر المقربين من السادات والمشرف العام على المجالس المتخصصة، ثم الدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب، أما على الجانب الأيسر للسادات فقد كان كل من محمد عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع، والمهندس سيد مرعي صهر السادات ومستشاره السياسي وعبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر والدكتور صبحي عبد الحكيم رئيس مجلس الشورى وعبد رب النبي حافظ رئيس الأركان وبعض رجالات القوات المسلحة... كان السادات في تلك اللحظات القليلة يمسك بغليونه الذي يكاد لا يفارقه منتشيا بحلاوة النصر، يتبادل الحديث بسرية تامة مع سكرتيره الشخصي فوزي عبد الحافظ، الذي جلس وراءه مباشرة ووزير دفاعه دون أن يعلم أحد ماهية الحوار الدائر، رغم أنهم رجحوا أن تكون النقاشات الجانبية حول شحنة الأسلحة الأمريكيةالجديدة ومواعيد وصولها وموعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، كانت معنويات السادات مرتفعة وعالية حين بداية العرض العسكري بحيث كان يقف لمرات تحية للمارين رافعا التحية العسكرية لهم بل وكان يصفق أحيانا أخرى دون أن يترك الغليون من يده... بدأ العرض العسكري بداية تقليدية، طوابير من جنود وضباط الأسلحة المختلفة، حملة الأعلام، طلبة الكليات العسكرية، بالونات وألعاب نارية في السماء، ثم جاء دور طائرات الفانتوم وراحت تشكيلاتها تقوم ببعض الألعاب البهلوانية، وتنفث سحابا من الدخان الملون، وفي نفس الوقت بدأ صوت المذيع الداخلي يقول «والآن تجيء المدفعية...» تقدم قائد طابور المدفعية لتحية المنصة وهو محاط بعدد من راكبي الدراجات (الموتوسيكلات)، وأمام الرئيس ونائبة ووزير الدفاع وكبار القادة والضيوف وكاميرات التلفزيون توقف فجأة أحد هذه (الموتوسيكلات) الذي بدا وكأنه أصيب بعطب مفاجئ غير متوقع ليختفي النبض من الموتور تماما، لم يتوقف قائد الطابور حتى لا يرتبك من يتبعونه، وترك قائد الموتوسيكل يتصرف بمفرده، وكان أن نزل الرجل من فوق الموتوسيكل وراح يدفعه بيديه إلى الأمام وكان من حسن حظه أن معدل سير باقي (الموتوسيكلات) كان بطيئا يسمح له بملاحقتها، لكنه سرعان ما هبط فوق كتفيه طائر سوء الحظ فزلت قدماه، وانكفأ على الأرض ووقع الموتوسيكل فوقه، فتدخل جندي كان يقف بالقرب من المنصة وأسعفه بقليل من الماء... يتبع