بعد أن أنهيت قراءة كتاب المؤرخ الإسرائيلي/البريطاني آفي شلايم الأخير «إسرائيل وفلسطين» قررت فورا ترجمة بعض ما جاء فيه. وعنوان الكتاب الكامل هو «إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييمات، مراجعات، تفنيدات» وصدر في منتصف 2009 في بريطانيا عن دار فيرسو للنشر Verso ويتكون من 4 فصول تحتوي على 30 مادة تقع في 392 صفحة من الحجم الكبير, نشرها شلايم سابقا كمقالات وحوارات في مطبوعات هامة مثل جريدة الغارديان اللندنية، ومجلة نيويورك رفيو أوف بوكس، ولندن ريفيو أوف بوكس، وجويش كرونيكل وغيرها. ونظرا لكون هذه المقالات في غاية الأهمية والإثارة وتحتوي على متعة فكرية مذهلة، قررت إعادة تصفح الكتاب بسرعة لكي أختار أفضلها للقارئ العربي. وكانت المفارقة المدهشة أنني وجدت مقدمة الكتاب في قمة الروعة والأهمية وتستحق الترجمة قبل أي مادة من مواد الكتاب, لأنها تلخص رؤية المؤلف وهدف الكتاب كما تقدم - وهذا الأهم بالنسبة لي -درسا تطبيقيا نادرا ومدهشا عن فن مراجعة وإعادة قراءة وكتابة التاريخ بتجرد وحياد يصل إلى درجة الإبهار، وفيه نقد مدهش للذات واعتراف المؤلف بتفوق المفكر الفلسطيني/الأمريكي الكبير الراحل إدوارد سعيد رحمه الله على المؤلف في تحليل معاهدة أوسلو لعام 1993. ومثل هذه الأمور الفكرية نادرة الحدوث، بل ربما مستحيلة التحقق في ثقافتنا العربية البائسة، يعتبر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من أصعب الصراعات السياسية منذ بدء الخليقة لكونه مرا وطويلا وعنيفا ويبدو كأنه لا يوجد مجال مطلقا للتسوية فيه بما يرضي الطرفين. هذا الكتاب يجمع معا كتاباتي السياسية في المسألة الفلسطينية خلال ربع القرن الأخير. وباستثناء مقال وحيد عن وعد بلفور لعام 1917، فإن المدى الزمني لمواضيع هذا الكتاب يمتد من حرب 1948 وتنتهي بالحرب الأخيرة (تعليق المترجم: بل الحالية) المتوحشة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ ديسمبر 2008. وبين هذين التاريخين الميلانخوليين (الكئيبين)، تقع تقريبا جميع أحداث الصفحات القادمة. ورغم أنني كتبت مقالات هذا الكتاب في فترات مختلفة فإنه يوجد شيء مشترك يربطها وهو تقديم شهادة لرأي بديل عن النظرة الحساسة إسرائيليا لتقييم الماضي. وهي مقالات تؤكد اعتقادي اليقيني بأن الماضي هو أفضل مرشد لفهم الحاضر وتوقع المستقبل. ويجب أن ندرك جميعا أنه فقط عندما نملك «فهما» جيدا للتاريخ المعقد والمتوحش لهذا الصراع، نستطيع أن نستوعبه وبالتالي نتمكن من حله. وبموازاة الصراع السياسي الإسرائيلي-الفلسطيني يوجد صراع مواز بين روايتين وطنيتين «مختلفتين» للأحداث. وفقط عندما نقرأ ونأخذ في حسابنا هاتين الروايتين «بحياد كامل»، نستطيع أن نكون صورة حقيقية عن خصوصية وديناميكية هذا الصراع الوجودي التراجيدي واحتمالات حله. المؤرخون الجدد أنتمي إلى مجموعة صغيرة من العلماء الذين يلقبون أحيانا «المؤرخون المراجعون الإسرائيليون» وأحيانا أخرى «المؤرخون الجدد». المجموعة الأصلية كانت تشمل بيني موريس من «جامعة بن غوريون» وإيلان بابي من «جامعة حيفا». لقبونا بالمؤرخين الجدد لأننا تحدينا الرواية الصهيونية السائدة عن أسباب ومسار الصراع العربي-الإسرائيلي. وبتحديد أكثر، لقد تحدينا الخرافات العديدة التي أحاطت بولادة إسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948. بيني موريس كان هو من اخترع مصطلح «التدوين التاريخي الجديد»، The New Historiography، ولكن بيني موريس، للأسف بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، غير وعكس مساره الفكري ووجهة نظره بصورة راديكالية حول طبيعة هذا الصراع وانتكس عائدا للمربع الأول ليعتنق ويبشر من جديد بالرواية الصهيونية الرسمية السائدة بعد لجوء الفلسطينيين إلى العنف والهجمات الانتحارية، حيث بدأ موريس يضع تقريبا كل اللوم بخصوص فشل التسوية السياسية على الفلسطينيين. ولكن إيلان بابي وأنا، من جهة أخرى، تمسكنا بقوة باعتقادنا أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الكبرى حول استمرار وتصاعد العنف. الكثير من القضايا المختلفة سأناقشها في فصول هذا الكتاب والتي رتبتها بطريقة زمنية حسب كتابتها وليس حسب أهميتها. ولهذا، قد يفيد القارئ أن يعرف في بداية هذه المرحلة أن معظم ما سيأتي يتعلق بثلاث مسائل رئيسة. أولا: ولادة إسرائيل في مايو 1948. وثانيا: حرب الأيام الستة في يونيو 1967. وثالثا وأخيرا: اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993. كل واحدة من هذه المسائل هي موضوع نقاشات ساخنة ومشتعلة بين المفكرين وممثلي كل طرف. النقاش الأول هو حول 1948. أعتقد شخصيا بيقين تام وبكل صراحة أن تكوين دولة إسرائيل تخلله ظلم كبير وفظيع للفلسطينيين ولكن، مع هذا، أنا أقبل تماما شرعية دولة إسرائيل ضمن حدود ما قبل حرب 1967!! خصومي يدعون أن هاتين الجملتين «متناقضتان» قائلين بأن دولة أقيمت على الظلم لا يمكن أن تكون شرعية!! ولكن، مع هذا، ردي هو التالي: كنتيجة لتكوين إسرائيل، تعرض الفلسطينيون للشتات ونزع ملكية أراضيهم. أكثر من حوالي 700 ألف فلسطيني وهو ما يعادل تقريبا نصف السكان العرب الأصليين داخل فلسطين أصبحوا لاجئين. كما تم «مسح» اسم فلسطين من الخريطة تماما ولذلك فإن هذه النتيجة لتكوين دولة إسرائيل خلقت ليس مجرد ظلم ولكن صدمة Trauma وطنية ضخمة وعميقة أو كارثة تمت تسميتها «النكبة» بالعربية. ولكن اليهود أيضا عانوا من الظلم، بل ربما أعظم ظلم في القرن 20 وهو الهولوكست. اليهود هم أناس أيضا، ومثل أي شعب آخر لديهم حق طبيعي للحصول على حق «تقرير المصير». وبخصوص ظروف 1948، وبعد المعاناة الشنيعة التي وقعت على اليهود في أوروبا من النازية، تبلورت فكرة عالمية تتبنى وجود ضرورة أخلاقية لتكوين دولة لليهود لتعويضهم عن كارثة الهولوكوست، وأصبحت هذه الضرورة الأخلاقية في حكم العرف وغير قابلة للمناورة والإنكار عالميا. وهكذا أصبح هناك رأي عالمي سائد بوجوب عمل تعويض لليهود عن الهولوكست بشرط أن يكون تعويضا ضخما وبحجم «تايتانيك» ولم يكن هناك شيء بحجم تايتانيك سوى فلسطين!!! كانت هذه خلفية قرار الأممالمتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يهودية وواحدة عربية. قرار الأممالمتحدة كان بمثابة اعتراف دولي بشرعية الدولة اليهودية. صحيح أن العرب لم يكونوا مسؤولين عن المعاملة البربرية لليهود في قلب أوروبا المسيحية. ولهذا فإن معظم العرب شعروا بأن إهداء جزء من فلسطين لليهود كان غير قانوني!! ولكن مع هذا، لا يمكن مطلقا اعتبار قرار صادر بالأغلبية من الجمعية العامة للأمم المتحدة غير قانوني. حسنا، قد يكون «ظالما» Unjust ولكنه ليس «غير قانوني»Illegal، وذلك لأن «الظلم» injustice و«عدم القانونية» Illegality ليسا نفس الشيء. فما هو قانوني Legal ليس بالضرورة عادلا Just. بالإضافة إلى ذلك فإن إسرائيل وقعت معاهدات هدنة مع جميع جيرانها العرب في عام 1949 وهي: لبنان، سوريا، الأردن ومصر. هذه هي فقط الحدود الأصلية المعترف بها دوليا والتي كانت تحيط بإسرائيل. وهذه هي الحدود فقط التي أعترف بها شخصيا كحدود شرعية لإسرائيل . (تعليق المترجم: لا نتفق مع بعض العبارات الثعلبية في الفقرة السابقة من الناحية المنطقية لكونها تركز على السياسة والقانون الدولي فقط وتلغي العامل الديني في هذا الصراع الوجودي. انتهى تعليق المترجم). المحطة الثانية في الصراع العربي الإسرائيلي كانت حرب يونيو 1967. كنتيجة لانتصارها المذهل في حرب الأيام الستة، احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان من سوريا، والضفة الغربية من الأردن، وشبه جزيرة سيناء من مصر. وفي 22 نوفمبر 1967 أصدر مجلس الأمن القرار 242 وكان بمثابة تأكيد على عدم القبول باحتلال أراض عن طريق الحرب، وطلب القرار نفسه من إسرائيل التخلي عن الأراضي التي احتلتها في مقابل السلام مع جيرانها. وهكذا ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، أصبح لدى الدولة اليهودية شيء جوهري تقدمه للعرب في مقابل أن يعترفوا بها وأن يحققوا السلام. ولكن للأسف إسرائيل فضلت الأرض على السلام، وفي شهور قليلة وبعد صمت المدافع بدأت إسرائيل في بناء مستعمرات مدنية في تلك الأراضي المحتلة في انتهاك واضح لمعاهدة جنيف الرابعة. وهكذا أصبحت إسرائيل حقا وبالفعل قوة استعمارية جديدة بالنسبة لي. وكما قلت مازلت أقبل شرعية دولة إسرائيل في حدود ما قبل 1967 ولكنني أرفض وأرفض تماما وكليةً وبدون مساومة المشروع الصهيوني الاستعماري وراء تلك الحدود. المسألة المحورية الثالثة في الصراع كانت معاهدة (أو اتفاقية) أوسلو التي وقعت في 13 سبتمبر 1993 في حديقة البيت الأبيض واشتهرت بالمصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحاق رابين. معاهدة أوسلو كانت أول اتفاق رسمي في التاريخ لفريقي الصراع العربي الإسرائيلي: إسرائيل وفلسطين. الكلمات الشجاعة «دولة فلسطينية» لم تظهر في نص المعاهدة ولكن التوقيع على المعاهدة، مع هذا، أعلن رسميا عن 3 أمور سياسية خطيرة وغير مسبوقة. أولا: اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل كدولة شرعية وحقها في الوجود، وثانيا: إعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وثالثا: إتفاق الطرفين على حل اختلافاتهما الباقية بوسائل سلمية. أنا وإدوارد سعيد بعد توقيع معاهدة أوسلو بقليل حدثت مناظرة فكرية سياسية بيني وبين صديقي الراحل البروفيسور ادوارد سعيد الذي كان دائما صديقا قديما وعزيزا لي حيث جرت وقائعها على صفحات مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» بتاريخ 21 أكتوبر 1993 . مقالي لم أعد طباعته في هذا الكتاب لأنه بصراحة لم يصمد أمام امتحان الزمن!! إدوارد ترافع ضد معاهدة أوسلو وأنا ترافعت معها. مقال ادوارد كان بعنوان «فرساي فلسطينية». مجادلة سعيد في ذلك المقال كانت أن معاهدة أوسلو كانت بمثابة أداة للإستسلام الفلسطيني على حساب الحقوق الفلسطينية الوطنية الأصلية والعادلة لأنها لم تتضمن وعدا فضلا عن ضمان لقيام دولة فلسطينية مستقلة في نهاية فترة انتقالية. إدوارد وصف –بحق- معاهدة أوسلو كاتفاقية بين طرف مهيمن قوي جدا وطرف منهك ضعيف جدا ولهذا عكست الخلل في توازن القوة بين الطرفين. اعترفت في مقالي السالف ومنذ البداية بعيوب معاهدة أوسلو ولكنني اعتبرتها خطوة هامة في الاتجاه الصحيح. ورغم كل عيوبها الواضحة لي كانت تبدو كانتصار سياسي عظيم في سياق هذا الصراع الوجودي العميق المستمر منذ 100 سنة. لقد اعتقدت وقتها بحسن نية أنها ستكون سببا في عملية متدرجة في اتجاه واحد غير قابل للانتكاس لخروج أو انسحاب إسرائيل تقريبا من جميع الأراضي العربية المحتلة (بعد حرب 1967) وهذا سينتج عنه لا محال انبثاق دولة فلسطينية مستقلة في نهاية الفترة الانتقالية. في السنوات التالية منذ 1993 سألت نفسي كثيرا: من كان على صواب ومن كان على خطأ؟ ومن كان صاحب التحليل الصحيح والدقيق؟ أنا أم سعيد؟؟ وعندما كانت الأمور تسير على ما يرام، وعندما كان هناك تطور يحصل في واقع الأمر يتم إحرازه، وعندما وقعت معاهدة أوسلو الثانية على سبيل المثال، اعتقدت أنني كنت مصيبا وإدوارد سعيد مخطئا. ولكن عندما تعطلت عملية السلام بسبب عودة العنف الحتمية، اعتقدت أن إدوارد سعيد كان مصيبا وأنا كنت مخطئا. ولكن الآن وبعد 16 سنة من توقيع الإتفاقية، لا يوجد جدال أنني كنت مخطئا وإدوارد سعيد كان مصيبا (تعليق المترجم: تأملوا عظمة هذه الصراحة والحياد والموضوعية ونقد الذات التي يستحيل أن يهمس بها فضلا عن أن يفعلها مفكر عربي) في تحليله لطبيعة ونواقص معاهدة أوسلو، هذا الكتاب يتضمن عددا من المقالات عن خلفاء رابين ودورهم في تحطيم القاعدة السلمية التي أرساها رابين والتي كان ياسرعرفات يسميها دائما «سلام الشجعان». باختصار ومن وجهة نظري، إسحاق رابين كان رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ إسرائيل الذي يملك الشجاعة، والإخلاص والعزيمة للمضي مع الفلسطينيين لتحقيق حل لهذا الصراع الدامي. مخربو اتفاقية السلام من ضمن الذين خربوا ودمروا معاهدة أوسلو يحتل إرييل شارون مكانة خاصة وهو كما هو معروف زعيم تكتل الليكود ورئيس وزراء إسرائيل من 2001 إلى 2006. جورج دبليو بوش اشتهر بوصف شارون ب «رجل السلام». ربما بحسب مفهوم ومعيار دبليو بوش للسلام يمكن اعتبار شارون كذلك!!! ولكن إذا استعملنا أي معيار آخر للسلام فإن شارون كان، رجل الحرب بلا منازع!! لقد كان شارون بطل حلول العنف وصاحب الرأي الواحد بكل امتياز الذي لا يقبل الجدال أو كما أحب أن أسميه «رامبو اليهودي». شارون كان يمثل بكل امتياز النمط الوحشي والاستعماري والرجعي والعنصري في المشروع الصهيوني. وعند التعامل مع العرب المحليين، اعتمدت الحركة الصهيونية بقوة ودائما على القوة العسكرية وعلى خلق «حقائق على الأرض» مثل تأسيس وبناء المستعمرات. المستوطنات اليهودية أفسدت أي مفاوضات ممكنة لمعالجة مستقبل الأراضي العربية المحتلة. حكومة شارون رفضت استئناف المفاوضات حول الحل النهائي للأراضي المحتلة كما جاء في معاهدة أوسلو وبدلا عن ذلك استمرت بشراسة في إنشاء وتوسيع المستوطنات، وتحطيم المنازل الفلسطينية، وإنشاء جدار أمني عازل يمزق الضفة الغربية، مما أدى إلى إضعاف السلطة الفلسطينية وتقسيم الضفة الغربية إلى مجموعة من الجيوب بدون اتصال بينها، باختصار كان الهدف الرئيسي والكلي لحكومة شارون من كل هذه الأفعال هو هدف سياسي قذر لمنع الفلسطينيين من الحصول على أي وجود سياسي مستقل في فلسطين. تحت حكم إيهود أولمرت نائب شارون وخليفته وصلت ديبلوماسية «تجنب الديبلوماسية» هذه أي الاعتماد الوحيد على القوة العسكرية إلى قمتها خاصة بعد الهجوم البربري على غزة الذي بدأ في 27 ديسمبر 2008. البروباغندا الإسرائيلية الرسمية صورت الهجوم على غزة أو كما سميت عسكريا «عملية صب الرصاص» كعملية مشروعة للدفاع عن النفس قصد منها وقف صواريخ حماس عن قصف المدنيين جنوب إسرائيل، ولكن الهدف الحقيقي من تلك العملية كان إخراج حماس من السلطة رغم أنها فازت في انتخابات حرة وعادلة في 2006، وتهدف أيضا إلى إرعاب وتخويف أهالي غزة لكي يستسلموا وتهدف للقضاء على جميع نماذج المقاومة ولوقف الكفاح الفلسطيني من أجل دولة مستقلة. لقد كانت محاولة فجة من إسرائيل لفرض شروطها على الفلسطينيين بدون أدنى اعتبار أو احترام لنتائج الانتخابات الفلسطينية التي كانت ديمقراطية وعادلة وبدون احترام حقوقهم أو تطلعاتهم الشرعية. واحدة من أبشع مشاهد تلك الحرب المتوحشة كان القصف العشوائي للجيش الإسرائيلي أو «قوات الدفاع الإسرائيلية» على المدنيين في غزة وكذلك المعاملة المتوحشة للمدنيين ومهاجمة مدارس تابعة للأمم المتحدة وتدمير مخازن الأطعمة. ولذلك تدرس المحكمة الجنائية الدولية بصورة مستعجلة وسرية حاليا إذا كانت السلطة الفلسطينية يمكن اعتبارها «دولة بدرجة كافية» لكي تقوم برفع قضية حول ارتكاب القوات الإسرائيلية جرائم حرب في الصراع الأخير، حتى بدون محاكمات جرائم حرب فإن الهجوم المتوحش على سكان غزة نتج عنه تحطيم إدعاء إسرائيل الزائف بأنها تملك تفوقا أخلاقيا Moral High Ground على الفلسطينيين. الموت والدمار الذي أوقعته إسرائيل على سكان غزة الأبرياء يطرح سؤالا مشروعا : كيف يمكن لشعب كان ضحية تعذيب لا يمكن وصفه أن يصبح المُعذب المتوحش لشعب آخر ؟ كإسرائيلي، اعترف شخصيا أنني أجد هذا السؤال مؤلما جدا لي بصورة خاصة وأعترف أيضا بشجاعة أنني لم أجد إجابة شافية لهذا السؤال. البروفيسور سالو بارون المؤرخ اليهودي الأمريكي الأشهر تحدث كثيرا عن النسخة الحزينة المبكية للتاريخ اليهودي أو التاريخ الذي يتكون من سلسلة لانهائية من المعاناة اليهودية بلغت ذروتها في الهولوكست!! «اليهود» يملكون حقا ادعاءا عادلا ليكونوا أكثر أناس اضطهدوا في التاريخ . ولكن التاريخ «الإسرائيلي» مختلف عن التاريخ «اليهودي». فمنذ 1948 كان الإسرائيليون هم يد الجلاد التي تحمل السوط بوحشية ضد خصومهم، وانتصارهم في يونيو 1967 حولهم إلى وحوش عنيفة وظالمة. إدوارد سعيد كان لديه رأي ومنظور يختلف عن أكثرية الفلسطينيين بخصوص العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واصفا الأخيرين – بحق- بأنهم «ضحايا الضحايا»، وفي وجهة نظره أن كلا الشعبين كانا «مجتمعات معاناة». وهذا ناتج بالضبط لأن اليهود عانوا كثيرا على يد النازية. وبحسب، سعيد، عانوا بقسوة إلى درجة أنهم أصبحوا مهووسين بالأمن ليصبحوا في النهاية ظلمة. وجهة النظر هذه تساعد لفهم الدافع السيكولوجي خلف إسرائيل وقسوتها مع الفلسطينيين ولكن كل هذا لا يبرر تصرفات إسرائيل الوحشية معهم. (تعليق المترجم: يرجى ملاحظة قوله «فهم» وليس «تبرير» لسلوكهم الوحشي طبعا) السؤال المهم : هل هناك حل سلمي، غير عنيف لهذا الصراع الممتد من 100 سنة ؟ يبدو لي شخصيا أن الحل العادل والمعقول هو تقسيم فلسطين. وبعبارة أخرى «حل الدولتين». التوقيع على معاهدة أوسلو كان يعني أن الفلسطينيين تخلوا عن الكفاح المسلح واختاروا «حل الدولتين». لقد تنازلوا عن مطالبتهم ب 78 % من فلسطين (تعليق المترجم: للأسف طبعا) التي كانت تحت الإنتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى على أمل أنهم سيحصلون على دولة مستقلة على الجزء المتبقي الذي يشكل 22 % من المساحة الأصلية، والذي يتكون من الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن في العقد الأخير تحولت إسرائيل بعزم مستمر نحو اليمين مما نتج عنه تصلب في مواقفها من حل الصراع. تكثل الليكود لا يقبل مطلقا بمسألة وجود دولة فلسطينية مستقلة، والأحزاب الأكثر تشددا من الليكود تطالب بتطبيق سياسات عنصرية علنية مثل الطرد الجماعي للفلسطينيين كما أن مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من اليمين واليسار لا تقود إلى حلول وسطى أو تسويات معقولة ومقبولة. التسوية العادلة الحقيقية لا يمكن مطلقا بل يستحيل فرضها من القوي على الضعيف. التسوية الحقيقية أو الواقعية يمكن أن تنتج فقط عن طريق الإحترام والمساواة المتبادلة. بالرغم من التدهور الجدي والمخيف في العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في العقد الأخير، أرفض تماما فقد الأمل. حاليا الإسرائيليون والفلسطينيون يؤدون «رقصة موت مرعبة». ولكن في المدى البعيد، الإسرائيليون قد يدركون خطأ سياساتهم وبعبارة أخرى الإسرائيليون قد يستنتجون في النهاية أنه لا يوجد حل «عسكري» لصراع في طبيعته «سياسية» في الأساس. يوما ما قد يتوقفون عن خداع أنفسهم بأن أمن دولتهم يمكن الحفاظ عليه فقط عبر استعمال القوة المتوحشة. بالنسبة لي كمؤرخ أحصل على بعض الراحة والطمأنينة من معرفتي التاريخية العميقة بأن الأمم، مثل الأشخاص، سوف تفكر بعقلانية عندما يستنفدون تماما استعمال كل الطرق الأخرى. «آفي شلايم» في سطور.. ولد آفي شلايم في بغداد عام 1945 لوالدين يهوديين ثم هاجر ونشأ في إسرائيل حيث خدم في الجيش الإسرائيلي في منتصف الستينيات، ثم حصل على البكالوريوس في العلاقات الدولية من «كلية كامبريدج للاقتصاد» المرموقة ومن ثم حصل على الماجستير في العلاقات الدولية من «كلية لندن للإقتصاد» الشهيرة وأخيرا حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ريدنج البريطانية المعروفة. يتقن شلايم تماما وبطلاقة اللغة العربية والعبرية والإنجليزية كتابة وتحدثا. يحمل شلايم الجنسية البريطانية مع جنسيته الإسرائيلية. وهو حاليا زميل باحث في كلية سانت أنتوني المرموقة التابعة لجامعة أكسفورد والمتخصصة في تدريس علوم السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد حيث يعمل أستاذا في تخصص «العلاقات الدولية». كما حظي مؤخرا بشرف رفيع عندما انتخب أيضا كزميل Fellow في «الأكاديمية البريطانية» British Academy العريقة عام 2006 وهو أرفع منصب بحثي في هذه الأكاديمية ذات الشهرة العالمية فائقة الصيت. والأكاديمية البريطانية هي أرفع مؤسسة علمية وطنية في المملكة المتحدة بل في العالم في تخصص الإنسانيات والعلوم الاجتماعية وتعتبرالرائدة عالميا في تقدم وتطور هذين المجالين الهامين. أسست بقرار ملكي في 1902 وعدد زملائها الآن أكثر من 900 عالم وعالمة فقط ولكنهم نخبة النخبة في العالم، وهي مستقلة وذاتية الحكم. يدل الاختيار في زمالة الأكاديمية على تميز علمي عال وعالمي لا نظير له في أحد فروع الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية مؤكدا ومشفوعا بأعمال مطبوعة طبعا. وتمنح الأكاديمية 11 جائزة وميدالية رفيعة سنويا في جميع فروع المعرفة التابعة لها. يقول شلايم عن نفسه في مقدمة أحدث كتبه «إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييم، مراجعات، وتفنيدات»: «أنتمي إلى مجموعة صغيرة من العلماء الذين يطلق عليهم أحيانا «المؤرخون المراجعون الإسرائيليون» Revisionist Israeli Historians وأحيانا: «المؤرخون الجدد» New Historians المجموعة الأصلية شملت: بيني موريس Benny Morris من «جامعة بن غوريون»، وإيلان بابي Illan Pappé من «جامعة حيفا». لقد سمونا «المؤرخون الجدد» لأننا تحدينا الرواية الصهيونية الرسمية السائدة والمعتمدة عالميا لأسباب النزاع العربي الإسرائيلي، وتحدينا تحديدا «الخرافات» العديدة حول تكوين دولة إسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948». ويقول شلايم عن مهمة المؤرخ: «دور المؤرخ الحقيقي أن يُخضع الأحداث أو الادعاءات الرئيسة في الرواية التاريخية للمراجعة وللنقد العلمي الموضوعي الصارم بدون تحيز ولا هوى لأي طرف وذلك في ضوء جميع المصادر والمراجع المتوفرة بعد تلك الحادثة التاريخية من وثائق أرشيفية وكتب سيرة ذاتية وشهود وغيرها». للبروفيسور شلايم العديد من المؤلفات الهامة منها مثلا: «التآمر عبر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين»، و«سياسات التقسيم: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وفلسطين 1921 1951-»، و«الحرب والسلام في الشرق الأوسط: تاريخ دقيق»، و«الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي». يعيش شلايم في مدينة أكسفورد بصورة دائمة ويكتب في جريدة الغارديان اللندنية بصورة شبه منتظمة وهي جريدة عريقة تأسست عام 1821 وتعبر عن الطبقة الوسطى البريطانية وتصنف سياسيا كيسار الوسط center-left .
بقلم: المؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم ترجمة وتعليق: حمد بن عبد العزيز العيسى