حين يرجع بنا التاريخ إلى سنة 1923 سنجد أن الوضع في فلسطين وقتها كان مختلفا إلى حد كبير عما شهدته البلاد خلال النصف الأخير من القرن الماضي . فحتى ذلك الوقت كانت الدولة الإسرائيلية مجرد حلم يستأنس به المهاجرون الصهاينة رغم المؤشرات القوية التي بدأت تظهر وقتها و تؤكد قرب تحقيقه . و على الرغم من الاصطدامات القوية و العنيفة و الدموية التي كانت تحدث بين الفلسطينيين و اليهود فإن الأحداث الكبرى لم يحن وقتها بعد . و حتى تلك الفترة كان الجدل محتدما بين الصهاينة حول طبيعة الدولة اليهودية المستقبلية أو ما كان يسمى ب " اليوشوف"( yishuv ) و خاصة الجانب المتعلق بعلاقتها مع عرب فلسطين . و كان الرأي المسيطر في تلك الأيام رأي زعماء الحركة العمالية اليهودية ( JLM ) من الصهاينة , فقد وجد هؤلاء أن الطريق الأمثل لتعبيد الطريق أمام قيام دولة قومية لليهودية هو إقناع العرب الفلسطينيين بإيجابيات القادمين الجدد و بأنهم أهل حضارة و جاءوا لنشر التقدم و الازدهار , و هم هنا لم يخترعوا شيئا جديدا بل استنسخوا نفس أفكار و آراء المستعمر الأوروبي . و لكن كان هناك من عارض هذا التوجه و رأى فيه خطرا يهدد الدولة اليهودية التي لم تولد بعد . لم يكن ذلك إلا زئيفي جابوتينسكي , مؤسس الحركة التصحيحية اليهودية الذي كان واحدا من أهم الآباء الروحيين للفكر المتطرف اليهودي و الذين وضعوا القاعدة الفكرية التي أفرزت ما سيعرف فيما بعد بالليكود الذي هو عبارة عن تكتل لمجموعة من الحركات اليهودية المتطرفة . جابوتينسكي كشف عن آرائه من خلال دراسة أعدها سنة 1923 و عنونها ب " الجدار الحديدي ", و يؤكد من خلالها أنه و على الرغم من اتفاقه في جزئية أن اليهود قد يجلبون الحضارة لعرب فلسطين فإن الفكرة سخيفة لأنها تتجاهل حقيقة أن الفلسطينيين هم شعب ككل الشعوب المستعمرة و لن يقبلوا أبدا بالاستعمار و بإنشاء المزيد من المستوطنات في فلسطين , و بالفعل أثبت التاريخ أن جابوتنسكي كان على حق في هذه النقطة . أما بالنسبة له فالأهم هو تشكيل أغلبية يهودية في فلسطين و السيطرة التامة على الفلسطينيين , و لأن هؤلاء لن يقبلوا بهذا فسيقاومون و بهذا يدخل الجانبان في نزاع مسلح يتطلب تعبئة تامة داخل الحركة الصهيونية العالمية لتوفير الدعم العسكري و المادي لليهود حتى يستطيعوا التغلب على أعدائهم الفلسطينيين . و حسب جابوتنسكي فإنه و حتى بعد تأسيس الدولة فإن الشعب الفلسطيني لن يستسلم و يذعن للإرادة الصهيونية إلا بإقامة ما سماه ب " الجدار الحديد " الذي سيفصل بين اليهود و العرب و لن يترك فرصة للفلسطينيين إلا بالاستسلام . و على العكس فهنا أثبت التاريخ أن جابوتينسي ارتكب خطأ فادحا حين أساء تقدير العزيمة و الإرداة الصلبة للفلسطينيين . و الغريب في جدار جابوتنسكي أنه لم يتطرق الى فكرة أن يجبر كل الشعب الفلسطيني على مغادرة فلسطين بل كان الهدف منه فقط إجبارهم على الاستسلام للإرادة الصهيونية . و هذا أيضا ربما يرجع للفكر السائد وقتها في العشرينيات من القرن الماضي حين كانت فكرة التهجير غير واردة كما هي بعد قيام الدولة , و هذا ما جعل سنة 1948 المفصل التاريخي في الفكر الاستراتيجي اليهودي . و قد ناقش الكاتب الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه " الجدار الحديدي " نظرية جابوتنسكي و حاول التأكيد على أن فكر جابوتنسكي ظل مسيطرا على الفكر الاستراتيجي الاسرائيلي بشكل عام منذ الأربعينيات . و يلاحظ أن عنوان الكتاب هو نفسه عنوان الدراسة التي أعدها جابوتنسكي نفسه في 1923 , و هو أمر تعمده الكاتب. و يرى شلايم أن جابوتنسكي و على الرغم من أنه يعتبر أب الايديولوجيا الليكودية فهناك الكثير من القواسم المشتركة حتى في نظريته عن الجدار الحديدي بينه و بين زعماء حزب العمال التاريخيين . فعلى الساحة السياسية ظل حزب العمال هو المسيطر منذ قيام اسرائيل و حتى آواخر السبعينات. و حتى أننا نجد أن العمليات العسكرية التي خاضتها اسرائيل بزعامة العماليين منذ تأسيسها توافقت إلى حد كبير مع النظريات التي كان يؤسس لها جابوتنسكي في عشرينيات القرن الماضي . فعلى الرغم من الصراع الفكري القديم بين زعماء العمال التاريخيين و زعماء الحركة التصحيحية فإن التوافق الاستراتيجي ظل هو الغالب على سياسات كلا الحزبين خارجيا , و لا ريب حين نجدهما , أي الليكود و العمال, يتفقان على ترجمة أفكار جابوتنسكي إلى واقع معايش . فبعد 60 سنة من موته, هاهي اليوم اسرائيل تحقق حلم الرجل و تبني الجدار الحديدي العنصري . و تكملة للتوافق النظري الذي حاول جابوتنسكي الوصول إليه مع حزب العمال ها نحن اليوم نشهد مشروعا حقيقيا اشترك فيه أكبر حزبان إسرائيليان هما حزب العمال و الليكود . فمخطط الجدار الواقي تمت الموافقة عليه سرا خلال حكم باراك و لقي تشجيعا من العديد من رموز كلا الحزبين العمال و الليكود , و هو بتعبير آخر مشروع سلام عمالي من خلال الفصل العنصري بين الشعبين . و لكن لم يرى هذا المشروع النور إلا في عهد حكومة شارون و هذا ما تسبب في مغالطة عند البعض مما دفعهم لتجاهل دور العمل في هذا المشروع العنصري . الكوارث التي يسببها هذا الجدار لا تعد و لا تحصى و الإيجابية التي يتحدث عنها شارون لن تتحقق لسبب واحد فقط, أن جدارا عنصريا كهذا سيزيد من هجمات الفلسطينيين بدل أن يحدها . و من ناحية أخرى نجد أن الطريق الذي يشقه الجدار يتسبب في فصل العديد من العائلات الفلسطينية عن أراضيها و زراعتها و لقمة عيشها . و كم هو سخيف ذلك الرد الذي جاء على لسان أحد الاسرائيليين و الذي ادعى أنهم سوف يفتحون منافذ في الجدار تسمح للفلسطينيين بالعبور . و نسي هذا أن الفلسطينيين لا تنقصهم نقاط تفتيش أخرى , فتكفيهم المآسي التي يكابدونها و عنصرية الجنود ضد هذا الشعب في كل مرة يحاول فيها فلسطيني عبور أي حاجز إسرائيلي . أما بخصوص الجماعات الفلسطينية المسلحة فلن تعدم وسيلة ما لاختراق هذا الجدار و التسلل إلى داخل اسرائيل . المشروع كما نشر على الصحيفة الإسرائيلية يدعوت أحرانوت يتعدى الخط الأخضر بكثير جدا و يلتهم أراضي فلسطينية كثيرة , و إلى الآن أثر بصفة رئيسية على كل من مدينة طولكرم و قلقيلية . و هناك سياج ثانوي سيعزل التجمعات السكانية الفلسطينية في وادي الأردن ( جزء من الضفة الغربية التي يعتبرها أرييل شارون جزء من الأرض اليهودية و أشار في أكثر من مناسبة الى أن إسرائيل ستحتفظ بها حتى في حالة قيام دولة فلسطينية ما ) . و أشار تقرير صدر مؤخرا عن المنظمات الإنسانية الدولية بتعاون مع ممثلين عن الاتحاد الأوروبي و اللجنة الأوربية لحقوق الانسان و حكومات كل من الولاياتالمتحدة و النرويج و البنك الدولي و منظمة اليونسكو إلى الآثار الخطيرة لهذا الجدار على الفلسطينيين و الاسرائيليين و المنطقة برمتها . و حسب التقرير فإن أول المتضررين منه هم الفلسطينيون الذين سيفصلون عن مزارعهم و أراضيهم التي التهمها و مازال هذا الجدار , و هذا ما سيزيد من بؤس هذا الشعب و سيعمق من أزمته الاقتصادية المدمرة أصلا بفعل الاحتلال . و اعتبر التقرير الجدار خرقا لاتفاقيات أوسلو و أيضا لاتفاقية خارطة الطريق الأخيرة . و لكن إسرائيل مازالت مصرة مع الأسف على تكرار الخطأ التاريخي الذي وقع فيه جابوتنسكي , فقد أثبت هذا الواقع و بشكل جلي أنه كلما زادت معاناة الفلسطينيين زاد إصرارهم على المقاومة أكثر من أي وقت مضى و ليس العكس كما ظن اليهود الذين طالما آمنوا بفكرة " كلما أمعنت في قتل الفلسطينيين كلما اقتربت من تحقق السلام ". اذا فقد تبين للجميع أن جدار جابتونسيكي النظري فشل و الجدار الخرساني الذي بدأه باراك كمخطط و نفذه شارون فشل لأن الأمن الاسرائيلي مرهون بأمن الفلسطينيين . اسرائيل اليوم تريد أن تعيش منعزلة خلف جدارها عن بقية المنطقة المحيطة بها و عن العالم أيضا و هي بهذا تحيي تاريخ العزلة اليهودية مع العالم الخارجي . و على ما يبدو فالحكومة الاسرائيلية تريد عزل شعبها عن كل مناظر الجرائم التي ترتكبها في حق الفلسطينيين , و لكن ما يؤرق اليهود حقا هو بناء حائط سوف يعزلهم مرة أخرى عن بقية العالم . فلقرون مضت و اليهود يصارعون من أجل التخلص من "غيتوات" أوروبا , و طوال التاريخ ظلوا منعزلين عن العالم , أحيانا بمحض إرادتهم و في أحيان أخرى بسبب القوى الكبرى المسيطرة عليهم . و لم يتمكن اليهود من التمرد على هذا الواقع إلا في ظل عصر " التنوير " أو ما يسميه اليهود ب " الحسكلا " الذي فتح الباب واسعا أمام اليهود للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها و الانفتاح على الآخر بدل أن يظلوا منعزلين كما كانوا . و المفارقة الغريبة أنه و بعد أن تخلص اليهود من عزلتهم و تمكنوا من تأسيس دولة عنصرية هاهم اليوم يحنون الى تاريخ العزلة و يبنون جدارا ليعزلهم أكثر فأكثر عن بقية العالم . فالغيتوات اليهودية و رغم أنه لم يعد لها وجود في العالم اليوم إلا أنها مازالت معشعشة في عقولهم , و اليوم يؤسسون أكبر غيتو يهودي في العالم و هو المسمى ب " إسرائيل " . و حقيقة فالدافع الرئيسي لبناء هذا الغيتو هو الخوف و لا شيء غير الخوف , و هو نتاج سياسة التخويف و الترهيب التي تعاملت بها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة مع شعبها و خاصة خلال الانتفاضة الحالية , حتى بات الرعب و الخوف هو السمة الغالبة على كل الشعب الاسرائيلي بدون استثناء . و الملاحظ ايضا أنه غيتو مزدوج , إذ لا يتوقف تأثيره على الاسرائيليين بل سيشمل الفلسطينيين أيضا , لأنه سيتسبب في قطع أرزاق الآلاف من العائلات و فقدانهم لأراضيهم, و أيضا سيعرقل حركة النقل و السفر و يشل أكثر من أي وقت مضى الاقتصاد الفلسطيني و سيصعب على أي مفاوض فلسطيني استعادت الأراضي الفلسطينيةالمحتلة سنة 1967 . و لكنه أيضا سيدفع هذا الشعب المغتصبة أرضه إلى المقاومة و إلى الانتقام من الاسرائيليين , لأن العنف لا يولد إلا العنف . يقول حزب السلام الاسرائيلي " غوش شالوم " أن الجدار " لن يوفر الأمن و السلام للاسرائيليين لأنه رمز للاحتلال لا أقل و لا أكثر . و من خلال نظرة عابرة لمخطط هذا الجدار يلاحظ يعكس رؤية شارون الحقيقية للحدود التي يجب أن تتوقف عندها أي دولة فلسطينية في المستقبل ". ترجمة : حميد نعمان ميتشيل بليتنيك مجلة زد نيوز