يسميها أصدقاؤها «الحاجة العزيزة»، وهو اللقب الذي صارت تنادى به منذ أن أدت مناسك الحج، ويتهمها خصومها بنشر الدعارة والكفر، ولكن عائشة الشنا، رئيسة جمعية التضامن النسوي، تفتح هنا قلبها لقراء «المساء» لتروي جوانب مؤثرة من حياتها. - ماذا كان مصير أول أم عازبة اشتغلت على قصتها؟ < تمكنت أول أم عازبة اهتممت بقضيتها من الزواج، على الرغم من أن الزوج انقلب عليها وطلقها بعد إنجابها لمولودتها، التي كانت من صلبه. وبعد مرور سنوات، كنت سألقي مداخلة في اليونسيف، فإذا بي أرمق امرأة جميلة تتجه نحوي. سألتني ما إن كنت أتذكرها، فأجبت بالنفي، لأنني أرى أشخاصاً كثيرين ويصعب علي بالتالي تذكر الجميع، ساعتها أخبرتني بأنها الفتاة التي كانت حاملاً من علاقة غير شرعية وساعدتها. كانت المرأة الجميلة التي صادفتها في مقر اليونيسيف هي أول أم عازبة عالجت قضيتها. - لم ينجح زواجها؟ < نعم، فقد أخبرتني بأنه طلقها، وبأنها تصارعت معه من أجل الاعتراف بالبنت، وبعد ذلك تعرفت على رجل ميسور حكت له قصتها فتزوجها وهي تعيش معه الآن حياة سعيدة. أكثر من ذلك، أن والدها يحب البنت كما لو كانت ابنته. في ذلك اللقاء القصير، أخبرتني بأنها تعمل في المجال الخيري، وتساعد الكثير من الجمعيات وتدعمها ماديا، وأفصحت لي عن رغبة جامحة لديها في رد الجميل ومساعدة الجمعية التي أشتغل فيها الآن. - وهل حضرت بالفعل وساعدت الجمعية؟ < حضرت مرتين، ثم انقطعت أخبارها فيما بعد. - لماذا؟ < في تلك الفترة، لم أفهم السبب، وكل ما كنت أقول أنها وعدت بشيء ولم تف به، لكن بعد الاشتغال على قضايا الأمهات العازبات والتجربة التي راكمتها في المجال أدركت صعوبة الموقف، فالحضور إلى الجمعية ورؤيتي باستمرار أمر يحرك في نفسها ماضياً أليماً لا تريد تذكره، خصوصا وأنها بنت حياة أخرى هي راضية عنها. فالأمهات العازبات عموما لا يردن تذكر ماضيهن ويفضلن قطع أي علاقة لهن بالماضي، خصوصا إذا كانت لهن حياة أخرى. قدرت موقفها، وبعد مدة هاتفتني واعتذرت بشدة، لكن أطباء نفسيين أكدوا لي صعوبة الموقف، ومنذ ذلك الحين لم أعاتب أحدا و أصبحت أطوي صفحة كل حالة وجدت نفسها وصارت لها حياة أخرى عادية. وفي هذا الإطار، أحث كل المساعدات الاجتماعيات اللواتي يعملن لدي على أن يعملن وفق هذا المبدأ، كما أحضهن على عدم التقرب من أية حالة يلتقينها في الشارع سبق لهن أن أشرفنا عليها، وأطلب منهن ألا يكلمنها إذا لم تبادر هي إلى ذلك، لأنني أدرك معنى تذكر ماض أليم. وهذا الأمر خلق لنا مشكلة مع المنظمات الدولية التي تساعدنا. - أي نوع من المشاكل خلق لكم مع هذه المنظمات؟ < المنظمات الدولية تطلب منا تقارير عن مآل الحالات التي نشرف عليها، ونحن نخبرها بأن الحالات التي تكوّن أسراً تصبح لها حياة جديدة تبتعد ونحن نبتعد عنها لنتركها تعيش بسلام بعيدا عن شبح الماضي. وكما يعلم الجميع، فإن المنظمات الدولية عندما تقدم دعما تتابعه وتبحث عن النتيجة، وبالنسبة إلينا الحالات التي نعالجها صفحة مطوية ومنتهية. وفي اليوم الذي يسمح لهن فيه التاريخ بأن يعدن ويطلبن المساعدة ساعتها نحاسبهن على ذلك، أما أن نطرق نحن باب حياتهن الجديدة ونطلب منهن الحديث عن ماضيهن باستمرار، فهذا مخالف للمبادئ التي نعمل من أجلها. بدأت تجاربي تزداد، وانتمائي إلى العصبة المغربية لحماية الطفولة ساعدني على مراكمة التجارب. - هل كانت ظاهرة الأمهات العازبات منتشرة في تلك الفترة بشكل كبير؟ < في تلك الفترة، كنت أسمع النساء يتحدثن عن هروب الرجل، حيث كانت الأم العازبة تقول أن «الراجل هارب عليه»، لم أكن أفهم في البداية، لكن فيما بعد سأدرك بأنهن أمهات عازبات أو نساء تزوجن بقراءة الفاتحة، وأن الرجل، في مثل هذه الحالات، يختفي مباشرة بعد قضاء حاجته، وهذه مشكلة كبيرة، كانت منتشرة في تلك الفترة، حيث لم يكن هناك عقد زواج أو شيء من هذا القبيل. مرت أيام، وحلت سنة 1981، حيث كنت قد أنجبت مرة أخرى، وعندما دخلت لمواصلة العمل عائدة من عطلة الولادة، توجهت إلى مكتب المساعدة الاجتماعية، حيث وجدت لديها فتاة بدوية ترتدي جلبابا وتضع منديلا على رأسها. صورة هذه الفتاة لم أنسها مطلقا. كانت الفتاة ترضع ابنها، وهو ما جعلني أفكر في أنها لم تكن ترغب في التخلي عنه، إذ لو كانت تفكر في ذلك لتركته في المستشفى، لكنها كانت تحمله وترضعه، والضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية هي ما أجبرها على التخلي عنه. كانت الفتاة صغيرة ولا تعرف القراءة والكتابة، حيث ملأت لها المساعدة الاجتماعية استمارة التخلي عن الطفل وطلبت منها أن توقع عليها بوضع البصمات. في تلك اللحظة حصل مشهد رهيب لن أنساه طوال حياتي. كان الطفل يرضع، وفي اللحظة التي أرادت والدته وضع البصمات جرت ثديها بعنف من فمه فرشت وجهه بالحليب، ساعتها بدأ الطفل يصرخ. كان مشهدا رهيبا أبكاني كثيرا... لم أنم الليل كله. وفي تلك الليلة، قررت أن أفعل شيئا من أجل حالات مثل هذه. قررت أن أفعل شيئا من أجل كل أم تضطر رغما عنها إلى التخلي عن فلذة كبدها... لكنني لم أعرف بالضبط ما الذي علي فعله.