يحتفظ الكاتب والمترجم المغربي محمد الشركي، في ذهن القارئ المتتبع، بحضور غسقي غامض، بالنظر إلى ما يتسربل به أدبه من أسرار قادمة، من جهة، من نبرة خاصة في كتابة مولعة بالأجراف والأنهار والتخوم، ومن تمنع يستعصي على الآلة الإعلامية التي تريد محاصرة الاستثنائي، وتحويل الشخصي والحميمي إلى صور وعلامات واضحة، من جهة أخرى. جاء محمد الشركي إلى الكتابة من الفلسفة، لكنه ظل يتعهدها بأنساغ قادمة من كل الجهات. كتابة تنصت للأساطير وتخلق من رحمها عتبة ممكنة لمحاورة العالم والنصوص والتجارب الأدبية البعيدة في جغرافيات العالم. لذلك لم يكن ليل هذه الكتابة ليزداد غسقا إلا لارتباطه بهذا الرحم، الذي خرجت منه عبارة الشركي مشبعة بمياه الأعماق. لم ينشر محمد الشركي إلى حد الآن إلا رواية «العشاء السفلي»(دار توبقال 1987)، وديوان «كهف سهوار ودمها»(اتحاد كتاب المغرب2001)، وبعض الترجمات الروائية خاصة، منها «ليلة القدر» للطاهر بنجلون (دار توبقال1987)، و«تجاعيد الأسد» لعبد اللطيف اللعبي ( توبقال1989) و»المجرى الثابت» لإدموند عمران المليح ( الفنك 1993)، و«طفل الرمال» للطاهر بنجلون (توبقال1992) التي نال بها جائزة المغرب الكبرى للترجمة. لكن صمت محمد الشركي، على مستوى التأليف الشخصي، لم يدم طويلا، حيث عاد الكاتب لينشر «الحبق والعتبات»(أفريقيا الشرق2006)، وهو عبارة عن تأملات شخصية في وجوه وقضايا وفضاءات وأعمال أدبية حدودية، طبعت بقوتها مفهوم الرواية والشعر والتشكيل والفلسفة في ثقافة القرن التاسع عشر أو القرن العشرين. أعمال ينتقيها الخيال الأدبي والفلسفي للكاتب، ليكشف، من خلالها، عن بؤرة التوتر التي خلقت استثنائيتها الأدبية. ويتقاطع كل ذلك مع لملمة عناصر رؤية شخصية لمفهوم الكتابة، ينثرها الشركي في سياقات مختلفة، ليكشف، عبرها، عن دمائه الشخصية مُتَمفصلة مع شجرة نسبه الرمزي، التي تجعله يولي للشذرة، في كثير من الأحيان، دور بناء المعرفة. جوهر تجربة التأمل والكتابة، عند محمد الشركي، يرتبط بمفهوم السهرة في تقاطعاته الأنطولوجية، التي تتجاوز زمن الليل. فكل شيء بالنسبة إلى الشركي «سهرة مرتعشة حتى في واضحة النهار، الجسد السائر تحت الشمس مسربل بسهرة الأزمنة فيه. الوجه قنديل مسكون بذاكرة الرعد القديم. اليد ملتقى الاستيهامات والنسوغ. الحوض مُسَهَّد بنيران الرغبة السيدة. النبتة دائمة الانخطاف إلى أقاليم التربة العضوية. الحجر دائم الإصغاء للعهود الجيولوجية التي صعد من عتماتها. الطائر مشدود دائما إلى روح البرق. نقطة الضوء منشغلة دوما بمصيرها في الشفق القطبي. قطرة الماء نشوانة بتاريخ البحار. كل شيء سهرة دامية قرب الحدود الكبرى. فماذا تكون الكتابة غير الالتحاق الفوري، الذي لا يمكن إرجاؤه، بهذه السهرات المعلقة كالجنائن في رحم العالم؟ سهرة مترامية الأطراف هي الكتابة. مُهدهِدة وعنيفة وغير مأمونة. تُفرِح نديمها، وإن كان عوده الرمزي هشا تعصف به» (ص84/85). مفهوم محمد الشركي للسهرة متداخل مع مفهومه للكتابة ومتقاطع مع رؤيته لها كتجربة حدود قصوى. ومن هذا المنظور، ينظر الشركي للفضاءات الأثيرة لديه، التي يلفها غموض يقبع وراء بداهة الجغرافية المستقرة، ووراء التحديدات الذهنية الباردة. فمدينة فاس مثلا غير منفصلة لديه عن عمق انطولوجي يرتبط بذاكرة العناصر: «في ضوء المصباح المعتم، موئل فراشات الليل، أقرأ، وأكتب، بينما تتهاوى فاس في أعماق المنام، عصفورة نار يُهججها مِلح القتلى، وفي ذاكرتها يتجاوب الحبق والدم والنعناع والقطران والجاوي والغبار والبابونج والجنون والأندلس والغناء والكفن والكحل والقفطان والصبار والسُّماق والجلد والصلصال والرصاص والعويل والحناء والظلام»(ص85). أما مدينة الصويرة، التي جالس فيها الروائي إدموند عمران المليح، فيجدها الشركي جديرة بالتجارب الفنية والوجودية الكبيرة: «سرتُ بمحاذاة الشاطئ متطلعا إلى الجزيرة الصغيرة المتاخمة للمدينة، جزيرة معتمة التضاريس، يحفها سور عتيق يحرس قلعة قديمة، وقد أدركتُ عندئذ سر اختيار أورسون ويلز لها في الخمسينيات لتصوير فيلمه الشكسبيري»عطيل». فضاء من الفضاءات المنذورة للحب المشبوب أو المحن القصوى، وفي أطرافه المهجورة تسهر الطيور البحرية على بيضها الوحشي»(ص75). كل الفضاءات تستدعي بالضرورة تجربة السفر. وهي نقطة تقاطع حدودية، تجعل الكتابة تجربة مفتوحة على متعة الاكتشاف وأهواله، دون أن يكف الغموض عن أن يكون بعدا من أبعاد التجربة. بهذه الحمولة يستحضر الشركي سفره إلى مدينة الناظور: «استغرق السفر المعتم ليلة بأكملها، تجاذبتني خلالها أرخبيلات اليقظة ومغاور المنام. هل نمت حقا أنا الذي أعرف أن أرواح الأمكنة تستيقظ بصخب ولوعة في قلب الليل، وأنها تمارس سطوتها على الأجساد المرتحلةً؟». إن هذه الطريق الوعرة تقترن، في ذاكرة الشركي، بأعمال مالارميه الحدودية: «في مثل هذه الليلة، وبهذا الطريق المقمر ذاته، عبرتُ منذ ثمان سنوات باتجاه المفازة، مخفورا بالظلال الصوفية لأعمال مالارمي الكاملة: أشعار الشباب، إيجيتور، هيرودياد، رمية نرد، الحكايات الهندية. في الأعماق المفتونة، كانت تتردد مثل وصية فادحة، قصيدته «نسيم بحري» المسكونة بنداء السفر» (ص89). للسفر، كتجربة في الحياة والكتابة، مقابله في ليل القراءة أو المشاهدة، المضاء بالرغبة في الاكتشاف والمعرفة. أعمال كثيرة تستحضرها عتبات الشركي، وتحاورها من منطلق الكشف عمّا يسهر داخلها من فكر وتأملات وحدوس وإشراقات. فوحشية هنري ميلر ك«نتاج شيطاني لتربة شيطانية» بأمريكا، تنادي، هنا على تمرد آرتير رامبو وجذريته، التي انتهت بشكل غامض ومبكر إلى الصمت. إن ميلر يعشق رامبو، لكنه، يؤاخذ عليه «هربه إلى الحبشة وانخراطه في تجارة الصموغ والرقيق والقهوة والأسلحة»، فابتعد بذلك، برأيه، ليس فقط عن «العيد الأرضي»، وإنما ألقى بنفسه بين أيدي «القوى السوداء التي تحكم الأرض»(ص38). أما تجربة التشكيلي المغربي الراحل محمد القاسمي، فيقدما الشركي، في عتباته، بعبارات فورية عميقة، تجرف في طريقها النهري، كل العمق الفلسفي والأنطولوجي لكاتب، رأى، في لوحات الفنان انفجار دماء عميقة، وكيمياءات حدودية». كما رأى فيها «أجسادا أنثوية مشروخة ومرتحلة، وأعضاء سديمية مختلطة بتراب البدايات أو تراب النهايات، وقيامات مضاءة، ونسوغا غير التي تغذي النباتات، وترسبات معدنية، وأجرافا داخل الأزرق العميق، أو تضاريس صعبة ينبئ بها الأحمر الدامي»(ص51/52). أما الكاتبة الإيطالية إيليزا مورانطي، فلها، برأي الشركي، وجهان أسطوريان: وجه «فيدرا» المروَّع بموت حبيبها بيل مورو(الرسام الأمريكي الذي مات مبكرا)، ووجه «ميلوزين المرأة الطفلة التي تتحول في ليالي السبت إلى أفعى مجنحة، فتطير وتبني القلاع حتى طلوع الفجر، ومع أول شعاع شمسي تعود إلى هيئتها البشرية». ثم يستدرك الشركي، ليؤكد أن الروائية الاستثنائية مورانطي «لم تكن بانية قلاع، بل بانية أجساد رمزية تسكن، مثل الروائي سيلين، أقاصي الليل التاريخي»(113)، وذلك من خلال أعمال مثل «جزيرة آرتير»، و»الشال الأندلسي»، و»أباطيل وانتهاكات» وغيرها. تستدرج عتبات الشركي إلى ليل سهرها أعمالا أخرى، ترتبط بأعلام كبار أمثال لوتريامون، نرفال، ريلكه، بورخيس، دولوز، غاتاري، باطاي، كونديرا، فيرجينيا وولف وآخرين. وعبر كل ذلك يتألق دم شخصي، يجعل القراءة تحتفي، على نحو عمودي، بما تنطوي عليه الثنايا والأعماق والانجرافات البعيدة في تربة الفكر، من إضاءة لغموض الكائن، الباحث ليس عن السيطرة على الطبيعة، ولكن بالأحرى عن صداقتها: صداقة الأنهار، البراكين، والصحارى بكل امتداداتها الميتافيزيقية. محمد الشركي كاتب غسقي، ربما ليس عن اختيار ونية، ولكن بالأحرى عن إنصات للجذور السهرانة، التي تُودِع اللغة كنزَ الأسرار، المتعلق بالحب والموت والمعرفة والسفر والكتابة والجنون والماوراء والأجراف والتجارب الحدودية، التي تقتات من عضلة القلب، وترتوي على دماء شخصية حارة. عبارة محمد الشركي ليست عبارة عادية، ولكنها بالأحرى ممغنطة، وذات حافات موغلة في ليل العالم وغابة الذات، حيث يسهر الكلام على السر، الذي اؤتمن عليه الشعراء والفلاسفة والروائيون والتشكيليون والموسيقيون والتراجيديون في كل مكان.