رئيس الوزراء الإسباني السابق خوسي لويس أثنار هو من طلب إلى الغرب الاحتراز من خطة انهيار إسرائيل، لأن ذلك سيشكل انهيارا مفاهيم وقيم وعلاقات. وليس غريبا أن يقدم خلفه على رأس الحزب الشعبي الإسباني ماريانو راخوي على زيارة مدينة مليلية المحتلة شمال المغرب، بتزامن مع صدور تلك التصريحات. يتعلق الأمر بتيار ولوبيات متشددة ذات خلفيات دينية ومعاقل استراتيجية تدير اللعبة من وراء الستار. فقد ثبت أن أكثر الأزمات والصراعات والنزاعات الدولية تقف وراءها لوبيات محافظة، ترسم الخرائط وتوزع المصالح على قياس منظورها لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الدول، وهي موجودة في دهاليز الشركات متعددة الجنسيات وفي الأديرة وفي عمق عالم المال والأعمال والإعلام، تتحين الفرص المناسبة للانقضاض على فريساتها. لم ينته دور المفكرين ونخب المثقفين ونشطاء المجتمع المدني الذين يصوغون بدائل أخرى عما ينبغي أن يسود العالم من قيم ومفاهيم وعلاقات، تبعد عن التمييز والنظرة الاستعلائية واحتقار وإلغاء الآخرين. غير أن الأدوار الأكثر نفوذا لا تزال في صميم احتكار اللوبيات الضاغطة التي تتحرك في كل مرة يسود فيها الاعتقاد بأن زمام السيطرة سينفلت منها. حدث ذلك في حرب العراق والغزو الأمريكي الذي استند إلى ركام من الأضاليل حول ما يعرف بأسلحة الدمار الشامل، ويحدث اليوم بطرق ووسائل أخرى تركز على حماية الكيان الإسرائيلي وصونه من انهيار محقق. ومن غير الوارد أن يتوقف الأمر عند هذا الحد، طالما أن هناك من يركن إلى إحياء النظرة الاستعمارية المتدثرة بعباءات تتلون باختلاف الأحجام والأشكال والنوايا. يعنينا أكثر من الغير أن نبحث في تاريخ اللوبيات التي تحرك الأزمات وتذكي النزاعات. فالمغرب وحده من بين كافة الدول العربية يعاني من استمرار احتلال أراضيه من غير إسرائيل، بل من جار قريب يبادلنا أحيانا التحية، ويستلُّ في أحايين أخرى الخنجر من تحت. وليس صدفة أن أكثر الضربات الاستفزازية تأتي من الحزب الشعبي بالذات. كما أنه ليس صدفة أن العلاقات بين الرباطومدريد تنتعش وتتحسن على عهد حكم الجيران الاشتراكيين. وإنها لمفارقة حقا أن ينزع الحزب الشعبي إلى إثارة حساسيات كان يجب أن توضع في الخلف، في كل مرة تخطو فيها العلاقات المغربية الإسبانية قدما إلى الأمام. ومع التأكيد على أن من حق الشركاء السياسيين في شبه الجزيرة الإيبيرية أن يكون لهم صراعهم وهواجسهم، كلما تعلق الأمر باستحقاقات داخلية محضة، فإنه بالقدر ذاته ليس من حق هؤلاء، مهما كانت انتماءاتهم وتوجهاتهم أن يحركوا ورقة العداء ضد كل ما هو مغربي بالاستئثار بوضع سياسي معين. فالعلاقات بين الدول تبنى على أساس الاحترام المتبادل ومراعاة المشاعر والإمساك عن التدخل في الشؤون الداخلية للغير. ليس من الإنصاف أن يتحول المغرب إلى ورقة في الرهانات الداخلية في إسبانيا، تماما كما أن المغرب ليس مقبولا منه أن يثير حساسيات الجار الإسباني، إلا بالقدر الذي تكون فيه مطالبه عادة ومقبولة ومشروعة. وبالتالي فإن زيارة رئيس الحزب الشعب الإسباني إلى مليلية إن كان يراد منها الرد عل التصريحات التي صدرت عن الوزير الأول عباس الفاسي، والتي دعا فيه حكومة مدريد إلى الدخول في مفاوضات ذات أفق مستقبلي لإنهاء مشكل احتلال المدينتين سبتة ومليلية، فإن ذلك الرد يبقى مرفوضا، لأنه يرتدي طابعا استفزازيا. لا مكان فيه لاحترام المشاعر والاحتكام إلى العقلانية وتغليب منطق الحوار. في أكثر من مناسبة جربت إسبانيا أن تختبر حدود صبر المغاربة، وفي كل مرة ينزلق فيها مسؤول إسباني حزبي أو من هرم الدولة نحو القيام بزيارات استفزازية إلى الثغرين المحتلين، يأتي الرد واضحا وصارما لا يحتمل أي تأويل. ففي قضايا الوحدة والسيادة، لا يمكن أن تتحول الموافق والممارسات إلى بالونات اختبار. فالإسبان، بمختلف اتجاهاتهم وميولاتهم، يعرفون أن المغرب متمسك بسيادته على أراضيه، وأنمه من أجل بسط تلك السيادة ما فتئ يطرح المبادرة تلو الأخرى لإيجاد مخرج مشرف يحفظ ماء الوجه. وبالتالي فإن كل محاولات العودة إلى نقطة الصفر في هذه القضية تحديدا. لا تزيد عن إهدار الوقت والجهد وتعقيد المواقف، بدل الدفع بها في اتجاه المرونة والواقعية والحوار. يعرف المغاربة والإسبان على حد سواء أن إبقاء مشكل المدينتين المحتلتين، لم يقف أبدا عائقا أمام تسريع وتعزيز مجالات التعاون في القضايا الاقتصادية والتجارية والاعتبارات الاستراتيجية لبناء الثقة أكثر. وما من دولتين يوجد بينهما هذا النوع من التوافق، بالرغم من الآثار السلبية لاستمرار الاحتلال. فالراجح أن دلالات هذه المواقف التي ساعدت البلدان في تقديم نموذج فريد من نوعه في المعاملات الثنائية تستحق أن تبقى بعيدة عن التأثر بكل ما هو سلبي. فلا زيادة راخوي إلى مليلية ستغير من واقع كون المدينتين محتلتان، ولا ممارسة أي نوع من الضغوط ستدفع المغرب إلى التراجع عن التزاماته البدئية. فقط يتعين الانكفاء على الإفادة مما تتيحه خطوات التفاهم بين البلدين وانتظار إنضاج الظروف المواتية لإنهاء المشاكل، ذلك أن اسبانيا التي ترتبط بعلاقات جيدة مع المغرب، ومن خلاله مع العالم العربي، تعرف أن رصيدها المشترك في التاريخ والحضارة وتبتي القيم الكونية، لا يسمح لها بالخطأ، وأفدح خطأ أن تقارن نفسها بإسرائيل. لكن الثانية أن المغرب ليس من هو قال ذلك، وإنما رئيس وزرائها السابق الذي تخونه الذاكرة في طرق أبواب المستقبل، ولعله يعرف أكثر من غيره أن اسبانيا كان لها الدور الإيجابي في مؤتمر مدريد حول سلام الشرق الأوسط، ولا ضير في أن تلتفت إلى واقعها، كي لا تواجه ما يعانيه الكيان الإسرائيلي من عزلة لن يمكن فكها إلا من خلال الاذعان لمنطق الشرعية الدولية.