ظهرت مروحية عسكرية فوقنا مباشرة مسلطة أضواءها علينا والجنود يواصلون إطلاق النار، كانت رياح المروحية تحدث إعصارا فوق رؤوسنا، وبينما حاولت تبين ماذا تفعل المروحية، دفعني الشبان الذين كانوا يقاومون إلى الداخل لأن خطر الإصابة كان قائما، فقد كنا نعجز عن الرؤية بسبب الأضواء المسلطة علينا، فيما الرصاص ينهمر فوق رؤوسنا. حاولت النهوض رغم الدوار والوجع الذي أصبح أشد، لكني لم أستطع، حيث تهاويت على أقرب أريكة كانت أمامي، هرعت إلي إحدى البنات اللواتي كن بقربي، تحاول مساعدتي، وأسرعت تنادي الممرضتين اللتين كانتا في القاعة، وناولتني إحداهن حبة دوار البحر، حاولت النوم بعدها، وخلال هذا كان المشاركون يعقدون أول اجتماع مع بولنت يلدرم، كان صوته يصلني وهو يخاطبهم ويطلب منهم التزام قوانين الرحلة ووضع الهدف نصب أعينهم، كما كان يؤكد على الحرص على عدم الإسراف في استعمال المؤونة وخاصة الماء، وقال وهو يمازحهم : أعدكم بأنه وبعد العودة من رحلتنا بإذن الله، سآخذكم كلكم في رحلة إلى الجزر – يقصد جزر الأميرات في إسطنبول -، لم أستطع مقاومة الضحك، هذا الرجل إنسان رائع، حتى في اللحظات الصعبة، يجد دائما طريقة ما ليمنحنا الأمان والثقة... لم أشعر بتحسن رغم تناول الدواء، فرافقتني الممرضتان لعرضي على الطبيب في مستوصف السفينة، فأعطاني حبة أخرى، ونصحني بتناول الطعام والصعود إلى ظهر السفينة لأستنشق بعض الهواء...نفذت أوامره وارتديت ملابسي وأنا ما زلت أحس بالإعياء، وحالما دخلت غرفة الصحافة وحاولت الإنشغال بالكتابة أحسست بأن الوضع أصبح أصعب فتحاملت على نفسي حتى وصلت إلى المستوصف وطلبت من الطبيب أن يعيد فحصي من جديد، فما كان منه إلا أن نادى الممرضتين لتعلقا لي قارورتا مصل على التوالي، أحسست بعد ذلك بتحسن نوعا ما، لكن لم يسمح لي بالعودة للعمل، بل بالذهاب لأنام في الغرفة المخصصة لنا. وخلال هذه الفترة، كانت سفينة الركاب «تشالينجر 2» تقترب منا ليتم إجلاء ركابها منها بعد أن أصيبت بعطب. السبت كان يوما حافلا بالمؤتمرات الصحفية والمقابلات، كما زارنا ركاب من تشالينجير 1 حيث عقدوا مؤتمرا صحفيا، أكدوا فيه عزمهم على تحدي التهديدات الإسرائيلية، كما عرفت يومها أن أصغر مشارك معنا يبلغ عاما وثلاثة أشهر، كنت متحمسة لرؤيته فطلبت من أحد المسؤولين عن الأمن أن يتصل بوالدي الطفل كي يسمحا لي بالذهاب، حيث إنهم يتواجدون في مقصورة القبطان، ومن المعروف أن تلك المنطقة محظورة على المسافرين، وقلة من يدخلونها، كانت ليلة صافية والقمر يفقده ضيء المساحات البحرية الممتدة إلى ما لا نهاية، كنت أتأمل هذا المنظر عندما أذن لي بالدخول، كان الطفل نائما، لكني تمكنت من التقاط صور له، وتحدثت قليلا مع والديه، وفي طريقي وأنا خارجة قابلت الكابتن الذي مازحني قائلا :»كيف استطعت اجتياز الحاجز الأمني؟ أجابه أحد المسؤولين: هذه منا ... ركاب تشالينجير 1 رغم التعب الذي كنت أحس به، لم أستطع الاستسلام للنوم، وعند حوالي الساعة الثالثة، بدأ مركب بالاقتراب منا، استنفر كل من كان مازال مستيقظا، لنعلم أنها سفينة الركاب تشالينجير 1، التي تحمل النواب البرلمانيين الذين كنا ننتظرهم بعدما كانت قبرص تمنعهم من الوصول إلى سفينتهم. بعد ذلك، خلدنا للنوم علنا نشحن طاقتنا لليوم المنتظر، حيث كنا سننطلق ظهر الأحد وإلى غزة. يوم الأحد كان يوما حارا، وكانت السفينة كخلية نحل لا تهدأ، بث مباشر وحي لمعظم القنوات، تجمعات هنا وهناك، كل منهمك في نشاط ما، فرغم أن لا أحد منا توقع أن يكون الهجوم الإسرائيلي قريبا إلى هذا الحد وعنيفا ودمويا، فقد كنا نعمل كأن هذه آخر ساعات لنا على متن السفينة. عندما حل الظلام، دخلت غرفة الصحافيين، لأحرر آخر نسخة للمقالة التي بعثتها ل«المساء» لحظات قليلة قبل أن نعلم باقتراب الجيش الإسرائيلي، ووقتها بدأنا نعاني من مشاكل في خط الأنترنت، حيث كان ينقطع للحظات ثم يعود، شعرت بأنه تشويش من الإسرائيليين، كان المرحوم جودت قد شعر بالموضوع أيضا، وبعد فترة قصيرة أتى ليقف بجانبي هامسا: «رصد الرادار 4 زوارق إسرائيلية تقترب منا، وقد بدؤوا بالاتصال بالقبطان»، بدوري وقفت وسط القاعة وأخبرت الجميع بذلك، لنهرع إلى الخارج، مع انطلاق الإعلان عن حالة الطوارىء في السفينة، كانت الساعة العاشرة والنصف، وقد كان معظم الركاب نيام، أو داخل القاعات يستريحون، لأنه قبل ذلك تم الإعلان أنه على الساعة السابعة من صباح يوم الإثنين على الكل أن يكون مستيقظا وجاهزا، لأننا كنا نترقب تحركا إسرائيليا عندما ندخل مياه غزة الإقليمية أو عندما نقترب منها، لكننا كنا مازلنا في المياه الدولية عندما بدأت القوارب الإسرائيلية تظهر لنا. فورا، وكما كان متفقا عليه في حالة تعرضنا للهجوم، بدأ المراسلون الصحفيون الذين يعملون مع القنوات التلفزيونية، يتناوبون على إرسال تقاريرهم المباشرة والحية، وبدا واضحا التشويش على اتصالاتنا هذه المرة، حيث كان البث ينقطع باستمرار، وأصبح الجميع يتطلع إلى الكاميرامان الذي كان يتابع انقطاع الخط وعودته، وما إن يعود الاتصال حتى يسرع المراسلون إلى تقديم تقاريرهم في سباق مع الزمن... وبدأ العديد من ركاب السفينة من عرب وأجانب، شباب وشيوخ، نساء ورجال، يتجمعون أمام الكاميرات، مجسدين النسيج الإنساني الذي كان على متن «مرمرة الزرقاء»، كما تم تطويق السفينة بمجموعة من المتطوعين الرجال للحراسة، ولبس الكل سترات النجاة، وكنا نستطيع عد الزوارق من بعيد، كما كنا نسمع المروحية التي كانت تحوم فوقنا ولو لم نكن نراها بوضوح، كما كانت هناك غواصتان تابعتان للجيش الإسرائيلي، كنا نتحرك ببطء، حتى إنه خيل لي أننا توقفنا، لكن أحد الحراس قال لي إننا نسير ببطء، لأننا نعتزم الوصول صباحا إلى غزة. بعد سلسلة من ا لبث الحي، والنداءات والمقابلات، هدأ الوضع قليلا على متن السفينة، وعاد الكل إلى مكانه، مع بقاء العديد من الصحفيين في قسم البث في الجزء الخلفي من السفينة المفتوح على الهواء الطلق، مع استمرار الزوارق باللحاق بنا. نزعت سترة النجاة كما فعل البعض، لأننا لم نكن أبدا نتوقع أن الجيش الإسرائيلي سيجرؤ على مهاجمتنا، كان السيناريو الذي نتوقعه أنهم سيتسمرون في اللحاق بنا حتى الوصول إلى منطقة قريبة من غزة، وهناك من المحتمل تنفيذ تهديداتهم باعتراضنا وإجبار سفننا على الذهاب إلى ميناء أسدود، لترحيلنا. سترة النجاة مر الوقت بسرعة البرق بالنسبة إلي، فالساعات السبع التي مرت بعد التحذير الأول ووقت الهجوم، أحسست كأنها بضع لحظات، قررت عدم النوم، وكنت أتنقل بين الخارج والغرفة. وقبل الهجوم بدقائق، طلبت من المرحوم» جودت» أن يعطيني بعض الصور التي التقطها هذا اليوم، وكان يريني بعضها التي تظهر باقي الزملاء يعملون داخل الغرفة وهم يرتدون سترات النجاة البرتقالية، فقلت له ممازحة : التقطت صورا للجميع ماعداي...» أجابني ضاحكا :«حسنا ارتدي سترة النجاة، واجلسي أمام أحد الحواسيب وسألتقط لك صورة »، جعلت أحد الزملاء يعيرني مكانه، وما إن التقط المرحوم «جودت» أول صورة وسط ضحكات باقي الزملاء الذين وجدوا الموقف مسليا، حتى انفتح باب الغرفة بقوة ووجدنا أحد الشباب الأتراك يصرخ : «جودت التقط الكاميرا ولنخرج حالا.. لقد بدأت العملية العسكرية..» معظم الصحفيين الأجانب لم يستوعبوا ما يحدث للوهلة الأولى، فترجمت لهم سريعا ما يحدث وخلال ثوان كنا في الخارج... أتذكر بوضوح أنني ما إن أصبحت في القسم المفتوح خارج غرفة الصحافة التي تتواجد تحت مقصورة القبطان، حتى شاهدت على مسافة قريبة وبوضوح على يساري، زورقا حربيا إسرائيليا يسلط الضوء علينا محملا بعشرات الجنود.. وبكل صراحة، من بين كل المشاعر والأحاسيس التي اختلطت بداخلي، لم يكن الخوف واحدا منها، كان عدم التصديق والدهشة غالبين، لأنني كنت أنتظر مواجهة مع الجنود الإسرائيليين لكن ليس بهذه السرعة، وكنت أحس بنفسي في أحد مشاهد الأخبار أو الأفلام، ولم يوقظني من حالتي هذه سوى صوت الرصاص والقنابل الغازية والصوتية التي بدأ الجنود في إمطارنا بها، وأول من تبادر إلى ذهني لحظتها، كان« توركار» الطفل التركي في الأعلى... لأن الأصوات العالية والعنيفة للرصاص والقنابل كانت كفيلة بإيقاظ الموتى. قنابل ورصاص صعدت إلى الطابق الأخير حيث قسم البث الحي، ولم أكن أستطيع الرؤية بوضوح بسبب الغاز الذي أحدثته القنابل، ولأنني لم أكن ألبس قناعا، طلب مني الزملاء النزول إلى تحت لحمايتي، لكنني ظللت هناك قليلا علني أستطيع رؤية شيء، لكن الوضع أصبح أصعب، فاضطررت للنزول عائدة إلى تحت، وقبل تمكني من الدخول ظهرت مروحية عسكرية فوقنا مباشرة مسلطة أضواءها علينا والجنود يواصلون إطلاق النار، كانت رياح المروحية تحدث إعصارا فوق رؤوسنا، وبينما حاولت تبين ماذا تفعل المروحية، دفعني الشبان الذين كانوا يقاومون إلى الداخل لأن خطر الإصابة كان قائما، فقد كنا نعجز عن الرؤية بسبب الأضواء المسلطة علينا، فيما الرصاص ينهمر فوق رؤوسنا. دخلت إلى الجزء المغطى من الطابق الثالث فإذا بي أفاجأ، بالدماء التي غطت الأرض بعد أن بدأ الجرحى من جانبنا يتساقطون ويحملهم رفاقهم إلى الأسفل لتلقي العلاج، كما أنني شهدت استشهاد اثنين من الجرحى أحدهم لفظ أنفاسه الأخيرة أمامي والآخر حمل من الأعلى إلى الأسفل فاقدا الحياة. كانت الممرضتان الوحيدتان تساعدان الأطباء في إسعاف الجرحى، كما أن بعض المتطوعين من الركاب أيضا بدؤوا في المساعدة لأن عدد الجرحى والمصابين أصبح كبيرا، وبدأ الوضع يتأزم خاصة أن الجنود لم يتوقفوا أبدا عن إطلاق النيران، وفاحت رائحة الدم في أرجاء السفينة، حتى إن بعض المشاركات عندما كن يحاولن الصعود إلى الأعلى كن ينزلقن في دماء الشهداء والجرحى. كنت أراقب ما يحدث في حالة من الصدمة، فهذه أول مرة أشاهد فيها دماء بشرية تسيل بهذا الشكل، حتى إنني شاهدت أحد الجرحى الذي كانت حالته خطيرة وقد خرج شيء من رأسه، وإذا لم أكن أتخيل فقد كان جزءا من مخه، لا أدري بالضبط لكني متأكدة أن شيئا ما خرج رأسه... كان الجميع مذهولا، فلم يتخيل أحد منا أن يستعمل الجنود الإسرائيليون مثل هذا العنف والدموية ضد مدنيين وفي وسط المياه الدولية، فقد كانت بحق مجزرة وقرصنة من الدرجة الأولى من الهمجية والبربرية... ركضت إلى الأسفل فإذا بي أصادف في الطابق الثاني أجسادا ودماء، كان معظم المصابين على الأرض والجميع يحاول إسعافهم، وقد اختلطت دماؤهم بثيابهم والمناديل التي كان المسعفون يحاولون استعمالها في مسح الدماء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه... ذهبت لأتفقد قاعة النساء، أذهلتني رباطة الجأش التي اتسمن بها، فلم يبد الخوف أو الجزع على أي منهن، بالعكس، كن هادئات، معظمهن بدأن بتلاوة القرآن، منهن من تصلي، الأجنبيات يمسكن بأيدي زميلاتهن في إشارة إلى إصرارهن على مواجهة أي كان معا وإلى النهاية...عندها بدأت أجراس الإنذار ترن بجنون وبدون توقف، لأن قنابل الغاز والحالة التي انتشرت في السفينة شغلتها، وبينما أنا تحت انطلق إعلان يدعو الركاب إلى التزام أماكنهم وعدم المقاومة لأن الجنود الإسرائيليين سيطروا على السفينة، بدأ إعلان باللغة الإنجليزية يخاطب الجنود قائلا إن أصدقاءنا تعرضوا للقتل، وإن عدد جرحانا كبير ونحتاج إلى المساعدة والسماح للأطباء بالتحرك بحرية لإنقاذ من يمكن إنقاذه، فقد كانت السفينة تتوفر على المعدات الطبية التي كانت كفيلة بإنقاذ العديد من الأرواح وتقليص عدد الموتى، لكن مع الأسف لم تلق نداءاتنا آذانا صاغية وكان صوت الرصاص مازال يسمع في الأعلى... حينها كنت أتجه إلى فوق، وعند مروري بالطابق الذي يعج بالمصابين، لم يسمح لي أحد المسؤولين عن الأمن بمتابعة الطريق، لأن الجنود يستعملون الذخيرة الحية ويرمون كل هدف يتحرك، لكنني طمأنته بأنني صحفية وعلي الدخول إلى القاعة في الأعلى، وبأنني سأكون حذرة، فسمح لي بالذهاب، وأتذكر أنني حالما وصلت إلى الأعلى، زحفت إلى غاية القاعة، لأن النيران كانت تطلق ولا يعرف الواحد منا من أين يمكنها أن تطوله. كانت مجموعة من الزملاء الأتراك والأجانب منبطحين على الأرض وشاشة التلفاز تظهر إحدى صالات الرجال التي بدأ يتجمع فيها الركاب من رجال ونساء كانوا على السطح ومعظمهم من الصحفيين والمتضامنين الذين كانوا يساعدون في إسعاف الجرحى. بدأ النزول من الأعلى واعتقال كل من يصادفونه في طريقهم قبل أن يقتحموا غرفتنا ويبدؤوا باعتقالنا واحدا واحدا، وأخرجونا إلى المكان الذي كانوا قد حجزوا فيه كل من أمسكوا به قبلنا، كان الرجال مكبلي الأيدي من الخلف وهم راكعون على الأرض، جرحى ومصابون لكن هذا لم يشفع لهم عند القتلة الإسرائيليين. بدأت الجنود وفود جديدة من الأسرى تصعد إلى الأعلى، وحتى النسوة لم يسلمن من التكبيل وإن كان من الأمام وليس من الخلف.في نفس الوقت، بدأت المروحيات الإسرائيلية تتناوب على القدوم إلى ظهر السفينة، ورأينا بعض الجنود يحملون بعض الجرحى، وينزلون مجموعات من الجنود، وقد كان صوت المروحية يصم الآذان مع المياه المالحة الباردة التي كانت تصعد من البحر بسبب العاصفة التي تحدثها المروحية. ظللنا هناك مدة أكثر من ساعة قبل أن يبدأ الجنود بإنزالنا واحدا واحدا إلى الصالات تحت، حيث بقينا دون أكل واستطعنا شرب القليل من المياه التي كانت بقربنا حتى وصلنا إلى أسدود حوالي الساعة الثامنة والنصف مساء.. كان الجو خانقا داخل القاعات التي كانت تعج بالجنود.... كنا ممنوعين من الحركة، وحتى الكلام مع بعضنا البعض بشكل مريح، كانوا يصرخون في كل من يحاول التحرك أو الكلام مع زملائه طويلا... عند وصولنا إلى الميناء، بدأ جنود جدد باقتحام السفينة، وجاء أحد المسؤولين الذي أخبرنا أنه سيتم إنزالنا في الميناء حيث سنعرض للكشف الطبي وبعد ذلك ستسلم لنا أغراضنا ليتم ترحيلنا من المطار.. لكن عندما نزلنا فوجئنا بخيمة تم إعدادها لنا، حيث تعرضنا للتفتيش تحت ظروف سيئة، كانوا يرغبون في إهانتنا والضغط علينا نفسيا، لكنهم في الحقيقة كانوا يتبجحون فقط بأسلحتهم ولباسهم العسكري... لم ألمح الخوف في أعين أي من المتضامنين، وخاصة النساء، كنا ننظر إلى بعضنا البعض ونتجاذب أطراف الحديث بلغة العيون، كنا نتبادل كلمات التشجيع والصبر فقط بنظراتنا، كنا نعلم أنهم يريدون أن يروا الخوف والجزع باديا علينا، لكننا لم نمنحهم هذه الفرصة. عرضوا علينا توقيع ورقة مفادها أننا دخلنا إسرائيل بطريقة غير شرعية، وعليه فنحن نعلن رغبتنا في مغادرتها في مدة أقصاها 3 أيام...رفض العديد توقيعها كما كان متفقا عليه، وحتى من وقعوها كان مصيرهم السجن... ركبنا سيارة السجن التي ستقلنا في رحلة استغرقت حوالي ساعة في جو بارد داخل الزنزانة المتحركة، فقد جردونا من ثيابنا الإضافية من جاكيت وما شابه، لكن الفتيات لم يفقدن أبدا الصبر والشجاعة، حتى عندما وصلنا إلى السجن، كانت اللواتي سبقننا إليه يستقبلننا بالابتسامات . بئر السبع تم تفتيشنا من جديد قبل دخول السجن في بئر سبع، ووزعت علينا الحارسات ملابس السجن وكانت كل زنزانة تضم 4 فتيات، كانت الحرارة مرتفعة داخل البناء، وكان الوقت متأخرا، فقد دخلت الزنزانة حوالي الساعة 6 صباحا، وا ستسلمت للنوم مباشرة لأن الإعياء كان قد نال مني. أفقت على صوت إحدى الحارسات التي كانت تعلن أن الإفطار جاهز، طبعا يحاولون أن يظهروا أنهم إنسانيون، لكننا نعلم أنهم فقط يمثلون دور الأبرياء...لم أستيقظ ولم أشعر حتى بالرغبة في الأكل رغم أنني قضيت يوما كاملا بدون أكل، كما سمعت وأنا ما بين الصحوة والنوم أن 4 فتيات بدأن إضرابا عن الطعام إلى حين أن يسمح لممثلي سفاراتهن بزيارتهن... وبعد فترة، سمعت هرجا في الصالة تحت وعرفت أن ممثلين عن مختلف سفارات مواطني الدول الذين كانوا في السجن قد حضروا، حتى إن حارسات السجن فتحن لنا الأبواب التي كانت مغلقة، رغبة منهن في إبراز معاملتهن الجيدة معنا أمام أنظار ممثلي السفارات الأجنبية.. لكن العالم كله يعرف كذبهم وحقارتهم، فمهما فعلوا لم يعد بإمكانهم إخفاء غسيلهم الوسخ لفترة طويلة. طبعا، بما أنني أعرف أنه لا توجد سفارة مغربية في إسرائيل، تابعت النوم، لأنني كنت فعلا أحتاج إلى شحن طاقتي من جديد، إلا أنني من جهة كنت على يقين من أنني لست وحدي، إننا لسنا وحدنا، الله معنا، وكنت متأكدة من أنه هناك خارج جدران هذا السجن الضيق، هناك الآلاف من القلوب التي تسعني. وأستغل الفرصة هنا لأقدم شكري وتقديري لكل من كان معي من الشعب المغربي وفي كل أنحاء العالم، أعبر عن امتناني لكل طاقم «المساء» و»الجزيرة»، فلم أكن أتوقع كل هذا الحب والاهتمام، ربما لا تسعفني الكلمات، لكني فعلا تأثرت كثيرا عندما خرجت من السجن وعدت إلى الأردن بكل الرعاية التي شملني بها الجميع... فشكرا لكم جميعا....