«أرفض مقولة عدم أحقية «الغوييم» (غير اليهود) في تناول هذه المسائل، فإسرائيل تقدم نفسها كمدافعة عن الغرب في الشرق الأوسط: لدي الحق، كغربي، في أن أقول رأيي في ممارسات من يدعي الدفاع عني، وفي النهاية أنا إنسان، وكل ما هو إنساني مألوف لدي، فقد تخلصت من حجرة جاثمة على لساني ولا أريد أن أموت قبل أن أقول ما لدي»... بهذه الكلمات، توجه المفكر الفرنسي المعروف ريجيس دوبري إلى السفير الإسرائيلي السابق في باريس والمؤرخ اليهودي إيلي أفنيري، في كتيب حمل عنوان «رسالة إلى صديق إسرائيلي»، يظهر الأسبوع المقبل في فرنسا. ويذهب دوبري بعيدا ويقول، مخاطبا السفير الإسرائيلي السابق: « لا تقود مناولة القربان مع روما الكنيسةَ في فرنسا إلى تبني قضية برلسكوني والدفاع عنها، ولا ينزل عميد مسجد باريس إلى جادة الشانزيلزي عندما يفوز منتخب الجزائر.. ولهذا فإن رؤية حاخام فرنسا يتظاهر في الشارع، في ظل العلم الأبيض والأزرق، أمام سفارة إسرائيل، دعماً لدخول مدرعاتكم إلى قطاع غزة، تسيء إلى أبسط قواعد العلمنة»...ويطلب دوبري من صديقه الإسرائيلي أن يحذِّر يهود فرنسا من أنه «إذا كانت الكنائس اليهودية تقرع الطبول وترفع الرايات، فكيف تريد من الشباب المغربي أن يأخذ على محمل الجد الدعواتِ إلى عدم الخلط بين يهود فرنسا وإسرائيل؟»... برز ريجيس دوبري كمثقف يساري منخرط في نضال الشعوب غير الأوربية في الستينيات من القرن الماضي، عندما توجه إلى كوبا والتقى بالزعيم البوليفي تشي غيفارا وحارب إلى جانبه، قبل أن يُلقى عليه القبض ويُعتقَلَ لمدة أربع سنوات. طيلة مساره في المراحل اللاحقة، مزج دوبري بين عمل السياسي المناضل وبين عمل المفكر الذي لا يكف عن نقد الاستعمار الغربي وكشفِ الحضور الديني في السياسات الغربية والمجتمعات الأوربية، وكتب «نقد العقل السياسي»، الذي شكَّل مرجعا مهما للباحثين العرب، من بينهم الراحل محمد عابد الجابري، الذي استوحى منه مفهوم المخيال الاجتماعي، في الجزء الثالث من مشروع نقد العقل العربي «العقل السياسي العربي». انخراطُ دوبري في العمل السياسي جعَله يحصل على ثقة الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، الذي اتخذه مستشارا سياسيا له. الخروج الإعلامي الأخير لدوبري، الذي يعتبره البعض آخر المثقفين الفرنسيين، أذهل الكثير من يهود فرنسا والإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد اعتقد هؤلاء أن الحملات الإعلامية المكثفة التي شُنَّت من قبل على مفكرين فرنسيين تجرؤوا على انتقاد سياسة إسرائيل كانت كافية لكي تدفع الآخرين إلى أخذ العبرة والابتعاد عن «الجدار»، فقد تعرض روجي غارودي لحملة قوية وحوكم بمقتضى قانون «غيسو» سيء الذكر في فرنسا، بتهمة التشكيك في المحرقة اليهودية في عهد النازية في كتابه «الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية»، وكان من نتيجة ذلك أن أصبح ممنوعا من نشر مقالاته في الصحف الفرنسية، بسبب النفوذ القوي للوبي الإسرائيلي في فرنسا، ثم تعرض الفيلسوف الفرنسي إدغار موران لنفس الحملة، بسبب مقال نشره في يومية «لوموند» الفرنسية، لذلك اطمأنت إسرائيل إلى أن المثقفين الفرنسيين قد فهموا «القواعد» التي لا يجب تخطيها في التعرض بالنقد لسياستها... لكن تصريحات دوبري لن تمر بهدوء، في وقت تتعرض إسرائيل لحملة دولية، على خلفية ما حصل في قافلة غزة واغتيال عدد من نشطائها، لذلك يُنتظَر أن يطلق اللوبي الإعلامي المحسوب على إسرائيل في فرنسا هجمة قوية ضده، مع صدور الكتاب، في الأسبوع المقبل. إن أخطر ما يُعرِّيه دوبري هو تلك الثنائية الرهيبة التي كرَّسها الإعلام الدولي المؤيد لإسرائيل، اعتمادا على إرث توراتي ضارب في التمييز والعنصرية، وهي ثنائية اليهودي والآخرين، حيث إن العالَم ينقسم إلى نوعين من البشر، اليهودي و«الغوييم»، أي الأغيار. هذه فكرة قديمة لها جذور دينية، لكن القراءة السياسة الحديثة لها هي ما يزعج إسرائيل، اليوم، من خلال ما يسمى «ازدواجية المعايير»، في القانون الدولي، ازدواجية المعايير هي في النهاية تطبيق للثنائية التوراتية. إنها محاكمة مثقف فرنسي ذي مصداقية لدولة تفتقد هذه المصداقية.