ساعتان وتسعة وأربعون صفحة، رقم قياسي بالنسبة إلى تصريح حول حصيلة حكومة، لم يمر على ولايتها سوى سنتين ونصف. هذا الرقم سيصعب تحقيقه بعد اليوم، حتى في الدول الكبرى في العالم، وهي الدول ذات الاقتصاديات المتقدمة والإنجازات الخارقة. إن الحصيلة الإيجابية ليست بطول الخطاب ولا بكم الصفحات، كما أنها ليست مجرد نوايا حسنة ولا آمال عريضة، بقدر ما هي إنجازات فعلية ونتائج ملموسة يصل صداها إلى جميع شرائح المجتمع. لقد كانت مناسبة التصريح الحكومي الأخير من الفرص النادرة جدا أمام الوزير الأول للمثول أمام نواب الأمة، للصلة بهم والتواصل معهم وإطلاعهم على حصيلة، ذكرت أشياء وأغفلت أشياء، كما أطالت في أمور واختصرت في أخرى.. حصيلة اختلفت وتفاوتت حسب القطاعات، بل لنقل حسب الوزارات، حيث بدت في النهاية وكأنها ملخص لتقارير وزارية بدل أن تكون نتاجا لاستراتيجيات قطاعية، منسجمة، مترابطة ومتناسقة. إنها حصيلة تبقى غير مكتملة، لم تأخذ بعين الاعتبار -على ما يبدو- الظرفية الاقتصادية والاجتماعية الدولية والوطنية، والتي تتسم بصفة عامة بالاضطراب وعدم الاستقرار، كما لم تقف طويلا عند أبرز التحديات التي تنتظر بلادنا في المرحلة القادمة والتي تحتاج إلى برامج ملائمة وخطط واقعية، تحديات لم يتطرق إليها التصريح الحكومي بما يكفي من الجرأة والدقة اللازمتين، رغم أهميتها، من حيث كونها ترتبط بالنمو وبالتنمية وقد ترهن مستقبل المغرب ومستقبل أجياله القادمة. ما لم يقله عباس في تصريحه هو أننا بحاجة اليوم إلى اتخاذ إجراءات عملية تحقق السلم الاجتماعي وتعزز ثقة المواطن في الدولة وفي العمل السياسي، وذلك بتخليق الحياة العامة وتنقيتها من كافة أشكال الفساد المالي والإداري والأخلاقي وتدعيم حقوق الإنسان والالتزام بالتسوية النهائية لجميع الملفات العالقة بشمولية وبدون تحيز أو تمييز وبث روح الديمقراطية وإقرار المساواة بين المواطنين وسيادة القانون على الجميع، وكذلك إصلاح القضاء، وذلك باتخاذ إجراءات ومبادرات واضحة، خصوصا أن هذا القطاع على صلة وثيقة، ليس فقط بحقوق المتقاضين وبدولة الحق والقانون، بل يطال أيضا المجال الاقتصادي وقدرة المشرع على كفالة حقوق المستثمرين والبت بالسرعة والنجاعة والإنصاف المطلوب. كذلك خلق مناخ ماكرو اقتصادي نظيف، مبني على المنافسة وإلغاء الاحتكارات وإشاعة قيم المبادرة، مناخ يرجع جو الثقة بين الإدارة والفاعلين الاقتصاديين على أساس من القانون ويجعل الحد من معضلة البطالة الهدف المركزي لأي سياسة اقتصادية أو اجتماعية، عبر إنعاش الشغل والكفاءات وتدبير سوق العمل والتحسين النوعي لعروض الشغل وإحداث صندوق لدعم مشاريع المقاولين الشباب ووضع برنامج تشغيل ذاتي لفائدة حاملي الشهادات. كذلك تحديث وتحسين الإطار القانوني والمؤسساتي لتأهيل الاقتصاد وجعله قادرا على خوض المنافسة الدولية، عبر إصدار قوانين ترتبط بمحيط المقاولة ووضع آليات لإنعاش الاستثمار وإقامة علاقات الثقة والشفافية مع المقاولات. كذلك إصلاح عميق لنظام التربية والتكوين، وذلك بتعديل منهجية وأهداف البرامج التعليمية والتكوينية وتعميم التمدرس، وخاصة في الريف، وتحسين وتطوير نوعية التعليم العالي ورفع فعاليته وإنتاجيته. إضافة إلى إصلاح أنظمة التقاعد وإصلاح نظام المقاصة والنظام الضريبي ودعم الفئات المعوزة وتوسيع الطبقة الوسطى، لتشكل القاعدة العريضة وعماد الاستقرار والقوة المحركة للإنتاج والإبداع. كذلك تحسين ظروف جاليتنا المقيمة بالخارج بالتربية والتكوين في الدول حيث تقيم وعند عودتها إلى بلدها، وذلك بتوفير برامج عملية هادفة لصالحها، تحفظ لها انتماءها إلى وطنها. ولعل من حسن حظ هذه الحكومة أنها تستفيد من مجهودات ومبادرات جبارة وموازية لعملها تنجز اليوم بتوجيهات ملكية بالأساس، تهم العديد من القطاعات، لعل أهمها سياسية الأوراش الكبرى والمهيكلة، كذلك المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تعتبر تجسيدا حقيقيا للدولة الاجتماعية والتضامنية ومقاربة تنموية نموذجية ورؤية استراتيجية مستقبلية، واضحة المعالم. إضافة إلى إنجازات الوكالات الوطنية المختلفة التي تعتبر اليوم بمثابة حكومة ظل قائمة بذاتها، والتي بالمناسبة تتعدد هذه الأيام وتتنوع اختصاصاتها ومجالات تدخلاتها، من خلال ميزانياتها الضخمة واستراتيجياتها المستقلة، بعيدا عن كل تأثير حكومي أو مراقبة برلمانية