«ألف فتوى وفتوى» كتاب كان قد أصدره الكاتب والصحافي اللبناني المعروف فؤاد مطر جمع فيه كما هائلا من الفتاوى التي رأى أنها أثارت جدلا كبيرا في العالم الإسلامي، وإن كان الكتاب نفسه قد أثار بدوره نقاشا ساخنا وجلب له الكثير من الانتقادات. فمن فتوى إرضاع الكبير إلى إجازة ضرب الزوجات وقضايا الارتباط بين الجنسين، تنوعت فتاوى العديد من العلماء والدعاة المسلمين وخلقت نقاشا ساخنا بين النخبة المثقفة وحتى بين التيارات السياسية، تحدثت كلها عما أسمته «ظاهرة الفتاوى» ودعت إلى تقنينها وتنظيمها بما يحمي المجتمع من بعض الاجتهادات الخاصة، في وقت أكد الطرف الثاني أن مواجهة الفتاوى «توظيف سياسي ضد التيارات الإسلامية وحرب خفية ضدها». المغرب لم يشذ عن الركب، وشهد في الآونة الأخيرة عدة سجالات حول الموضوع نفسه كان آخرها الخلاف الذي ثار بين الناشط السياسي محمد الساسي ومعه حزب اليسار الاشتراكي الموحد من جهة، وجريدة «التجديد»، التي نشرت عددا من الفتاوى المثيرة خلال الأسابيع الأخيرة. ويشرح الأمين العام للحزب محمد مجاهد بأن الحزب بعد أن ورد اسمه في إحدى مقالات الجريدة، التي تصدرها حركة التوحيد والإصلاح، اضطر للرد وتوضيح موقفه من النقاش حول الفتاوى، مؤكدا بأن «حزبنا ليس ضد الفتوى وتنظيم الحياة الخاصة للأفراد، بل نحن ضد بعض الفتاوى التي نرى أنها تتناقض وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعقل والقانون». وأضاف مجاهد في اتصال مع «المساء» بأن الكثير من الفتاوى التي نشرتها «التجديد» تم تجاوزها عمليا في سيرورة تطور المجتمع المغربي مثل فتوى إجازة ضرب المرأة وعدم تمكينها من حقها في التطبيب والعلاج على أيد أطباء متخصصين، «ونحن نعتقد أن مثل هذه الفتاوى ترجعنا إلى الوراء وتناقض حقوق الإنسان الرئيسية». ويشرح مجاهد موقف حزبه بالقول إن الاجتهاد في المسائل الفقهية بطريقة علمية واضحة بات ضرورة حتى لا تكون الفتاوى «فرملة للتقدم». وأضاف «نحن نريد أن يأخذ الدين مكانته الحقيقية في مسار تقدم بلادنا بما يضمن حقوق الناس ويكرسها ويشيع ثقافة احترام الآخر بين الجميع». وحول ما إذا كانت للنقاش علاقة بالخلاف الإيديولوجي والسياسي مع الحركات الإسلامية، قال مجاهد: «نحن ليست في أجندتنا أبدا معاداة الإسلاميين أو محاربتهم، ونحن عبر تاريخنا كان لنا دائما موقف متوازن بين جميع مكونات النسق السياسي والفكري المغربي، وقد اتضح ذلك جليا عقب أحداث 16 ماي، لكن نحن ضد الرجوع إلى الوراء وضد النكوصية وضد التمييز بين المواطنين على أساس الجنس أو الدين». الدكتور مولاي عمر بنحماد، نائب حركة التوحيد والإصلاح، وصف من جانبه النقاش الذي دار حول الفتاوى بأنه «نقاش غير علمي» وقال ل «المساء» إن «النقاش الذي أثير لم يكن نقاشا علميا بمعنى مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل للخروج بفتوى أخرى. بمعنى عالم يبيح وآخر يمنع ولكل أدلته». ويوضح بأن ما جرى «كان بالأساس صراعا بين المرجعيات المختلفة. بعض ممن كتبوا يرى أن المرجعية العليا هي للمواثيق والاتفاقيات، والبعض الآخر يرى أن المرجعية العليا للمسلمين في بلد إسلامي هي لمصادر التشريع الإسلامي، خاصة الكتب والسنة، وأن ما عارضهما حقه أن يرجع لهما ولا يعلو عليهما». وإذا كان الدكتور محمد ضريف يوضح بأن السجال الدائر حول الفتوى مرده عدم وجود تمييز بين الفتاوى وغياب خطوط فاصلة بين الرأي الشخصي للعالم والفتوى العلمية، فهو يؤكد بأن النقاش حول الفتوى واجهة تخفي حقيقة الصراع بين التيارات السياسية ذات المرجعيات المختلفة، «إذ أننا مثلا نشهد في الوقت الحاضر حديثا متناميا عن الحداثة وقيم الديمقراطية والمساواة، وبالتالي بمجرد أن تصدر فتوى يرى بعض الناشطين السياسيين أنها ضد حقوق الإنسان حتى يثورون ضدها ويرفضونها». ويشرح ضريف الفكرة بقوله: «هناك نوعان من الفتاوى. أولها، تلك المتعلقة بتدبير الشأن العام. وقد أحدثت لها الدولة مجلسا رسميا ولجنة علمية تابعة للمجلس العلمي الأعلى. وثانيها، الفتاوى المرتبطة بالمعاملات اليومية للمغاربة والشعائر التعبدية. وهناك لجان للإرشاد تابعة للمجالس العلمية المحلية ترى الجهات الرسمية أنها هي التي تضطلع بهذا الدور». ويؤكد ضريف ل «المساء» أن ما يجري حاليا هو أن الفتاوى باتت تحمل أكثر من طاقتها وتعاني الآن من عملية توظيف سياسي، إذ هناك بعض الجهات التي تريد حرمان العلماء من إبداء آرائهم بحجة أن بعضا من تلك الفتاوى تناقض حقوق الإنسان. وبالمقابل، يضيف ضريف، هناك بعض من «فتاوى» الدعاة والعلماء هي أقرب للآراء الشخصية منها إلى الفتوى التي يجب أن تؤسس على مبادئ علمية سليمة وتكون منسجمة مع ضوابط الشرع وفقه الواقع، «والفتوى تعاني من الهوة الموجودة بين فقه الكتب وفقه الواقع». غير أن الدكتور بنحماد، يشرح موقفه من ذلك بقوله: «الذي أعلمه في حدود ما اطلعت عليه من الفتاوى أن الحديث ليس عن الآراء الشخصية لأن السؤال لا يكون عنها، والمستفتي لا يطلب رأي المفتي الشخصي، بل يطلب حكم الشرع، والمفتي يجتهد في تقريب حكم الشرع الذي يطمئن إليه بما صح عنده من الأدلة، وبعضهم لا يزيد على نقل حكم صريح في كتاب الله تعالى أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مما أجمع عليه العلماء، وهي بحمد الله فتاوى ذات طابع منهجي منبن على الأسس الشرعية الدينية، ولذلك لم ينتقدها العلماء ولم تنتقد من جهة الأدلة وإنما انتقدها من انتقدها من جهة المرجعية». لكن بالنسبة لمجاهد، فإن الموقف المناهض للفتاوى لا يرتبط ألبتة باختلاف المرجعية، «فنحن نؤكد أن للدين دوره في تطور المجتمع، لكن نحن ضد غياب ثقافة الاجتهاد لدى البعض، وضد الاستغلال السياسي للفتاوى مثل تلك التي تنشرها «التجديد» وهي جريدة سياسية، وإلا فمثلا لماذا ثار الإسلاميون ثورتهم عند إعلان الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية وأفتوا بأنها مخالفة للشرع، لكن بعد تبني مدونة الأسرة وقد تضمنت الكثير من مبادئ الخطة سكتوا، بل غيروا موقفهم وهللوا لها». ويزكي مجاهد موقفه بالقول: «لا يجب التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم لتحقيق مكاسب سياسية، مثلما لا يجب الزج بالدين في الخلافات السياسية». ويؤكد ضريف أن الخلاف بدرجة كبرى يمس مسألة تأويل النصوص الشرعية فهناك من يريد الالتزام بتأويل السلف وهناك من يريد أن يكون للاجتهاد دوره في هذه المسألة، «علما بأنه يجب الحسم مع قضية الفصل بين الرأي والفتوى، ونحن نذكر مثلا رد الشيخ المغراوي على الانتقادات التي وجهت له في قضية الزواج بذات التسع سنوات، حيث قال إنه لحظتها لم يكن يفتي، بل كان يشرح واقعا تاريخيا ويعبر عن رأيه». وبخصوص قضية الاجتهاد والتوظيف السياسي للفتاوى، يؤكد بنحماد أن «تكوين العلماء والدعاة حاجة لم تتوقف» لتطوير حقل الاجتهاد والدفع بالفتاوى إلى خدمة مصالح البلاد والعباد، غير أنه استدرك بقوله: «بالمقابل ينبغي إشاعة ثقافة احترام التخصص ونبذ التطاول والتطفل والجرأة، وقديما قيل: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف». وكان بيان أصدره حزب اليسار الاشتراكي الموحد قد ندد بفتاوى نشرتها «التجديد» وقال إن «خطر هذه الفتاوى يتمثل، أيضا، في محاولة فرضها لأفكار وممارسات مؤسسة على التمييز بين المواطنين والمواطنات بسبب الجنس والدين، والمس بحقوقهم في العمل والتطبيب وغيرها من الحقوق الأساسية، إضافة إلى ترويجها لتمثلات وسلوكات خرافية حول بعض الأمراض ودعوتها للتداوي بأساليب الشعوذة بدل العلم والطب». وأكد البيان على أن التصدي بالنقد والفضح لهذا النوع من «الفتاوى» من قبل المثقفين الحداثيين والهيئات المدنية والسياسية التقدمية، ومنها الحزب الاشتراكي الموحد ومناضلوه ومناضلاته، يعتبر حقا مشروعا، بل واجبا تنويريا في إطار الدفاع عن قيم الحرية والمساواة والحداثة والتقدم.