يعكف الفنان عزيز بوفلجة، المقيم بالعاصمة الفرنسية باريس، على وضع اللمسات الأخيرة على ألبومه الجديد، الذي يطمح من خلاله إلى رد الاعتبار إلى فن العيطة، الذي استهواه منذ طفولته.عزيز بوفلجة بين ألبوم وآخر، تتجدد الأفكار، وتتضاعف التيمات، التي تمس مواضيع مثل العشق، والغربة، والحنين إلى الأم سواء البيولوجية، أو الرمزية "الوطن"، ومشاكل المهاجرين، وظروف الحياة، بعيدا عن دفء الأهل والوطن. هي بالمثل تيمات تطرق إليها بوفلجة بطريقة احترافية في ألبوماته الثلاثة السابقة، التي لقيت نجاحا وإقبالا كبيرين في أوروبا. واعتبر عزيز بوفلجة، الفنان المهووس بالعيطة حتى النخاع، أن الاشتغال على التراث الشفهي المغربي، وتحديدا فن العيطة، لم يكن صدفة أو عبثا، وإنما عبر دراسة متأنية، استغرقت سنوات من البحوث المعمقة، التي تكبد فيها عناء السفر، متنقلا بين معاقل هذا الفن الأصيل، من الدارالبيضاء، إلى آسفي، والجديدة، ووادي زم، مقتفيا أثر الرواد والشيوخ، الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ على هذا الفن النبيل. وقال بوفلجة في لقاء مع "المغربية" إن الظروف التي يعيشها المغرب، حاليا تحول دون نجاح العديد من التجارب الفنية الملتزمة والجادة، التي غالبا ما تجهض قبل خروجها إلى الوجود، لغياب منتجين لا يؤمنون بقيمة التراث، ولا يهمهم من الفن سوى الربح، الذي لن يتحقق حسب قولهم إلا "بزيد دردك عاود دردك"، إلى جانب القرصنة التي أتت على الأخضر واليابس، وحولت وجهة الكثير من الفنانين إلى الكباريهات، والهجرة إلى أوروبا، بعدما عجزوا عن تحقيق مشاريعهم الفنية، ورأوا بأم أعينهم مآل الرواد، الذين جار عليهم الزمن وعانوا كل أنواع التهميش. وأضاف أنه أمام انسداد الأفق، اضطر إلى مغادرة المغرب، الذي أحبه بعمق، وارتوى من تراثه وثقافته الغنية والمتنوعة، منذ طفولته، ليحط الرحال بعاصمة النور باريس الفرنسية، التي وجد فيها متنفسا حقيقيا، وفضاء للإبداع والخلق، ومن ثمة برز كاسم بات معروفا في الوسط الفني هناك، حيث لا فرق بين مختلف التعبيرات الفنية، بما فيها العيطة، والراي، وما شابه من الفنون الموسيقية الأخرى، مشيرا إلى أن "الوسط الفني في أوروبا لا يستثني أحدا، من خلال احتضانه كل التجارب الجادة، مانحا الفرصة للجميع، وهكذا بدأ فصل آخر من مساري الفني، الذي بدأته بالمغرب". ولعل الخيار الأهم الذي اتخذه الفنان الشعبي، وتشبث به بعناد وعزيمة، منذ بداياته الأولى، هو ملازمته الرواد، الذين نهل منهم الكثير، وساهموا إلى حد كبير في تطور أدائه البحثي، والفني. وأضاف بوفلجة أنه لم يندم على سلكه طريق الفن، الذي عشقه حتى الثمالة، معتبرا أن التزامه بغناء العيوط، يمنحه تعبيرا لا يمكن وصفه، عن أحلامه الصغيرة والكبيرة، وأمانيه، لأنه بكل بساطة، حينما يؤدي أي قطعة فنية، فإنه يستحضر جمهوره النوعي، ويغني بقلبه قبل أن تخرج الكلمات من حلقه، صادقة معبرة، لأنه لا يقبل الزجل الضعيف، أو الكلام الذي لا يحمل المعاني الهادفة والصادقة، إذ يغني الكلام الذي يوافق ما يخالجه من صدق الأحاسيس. وفي هذا السياق، أوضح بوفلجة أن فن العيطة كما تعني تسميته، هو أحد الفنون الشعبية الشفوية، التي تعني في مفهومها الأصلي "النداء" أو بمفهوم أدق "المناجاة"، النابعة من أعماق روح الفنان، الذي غالبا ما يتميز بالحس المرهف والعقل المتفتح، الذي يمكنه من رؤية ما يحيط به من قضايا المجتمع، ما يجعل الغناء الملتزم فنا توثيقيا له قيمته التاريخية. من جهة أخرى، أبرز عزيز بوفلجة في اللقاء ذاته، أن المجال الفني مجال صعب، فالصبر والتأني ودراسة متون العيوط، وتتبع البحوث المختلفة التي تناولت هذا الفن، انطلاقا من أبحاث عباس الجيراري، الذي اعتبر العيطة قصيدة في دراسته وبحثه في فن الملحون، مرورا بدراسات الراحل بوحميد، الذي نحت المفاهيم من داخل فن العيطة، باعتباره عازفا ومستمعا و ملازما لشيوخها، ووصولا إلى اهتمام الغرب بهذا الفن من خلال تجارب تودوروف وسكرابيت، التي ارتكزت على مستوى الإيقاع ونظم الكلام، فضلا عن مساهمات أخرى عديدة لإغناء البحث بهذا المجال لباحثين من بينهم عبد العزيز بن عبد الجليل، وجمال عابدين وغيرهما. وأنهى بوفلجه كلامه بالقول إن "فن العيوط رافد مهم في ثقافتنا المحلية، فهو فن سيظل متوهجا، بما يزخر به من أحداث عاشها الإنسان المغربي، ففيه اجتمع ما تفرق في غيره"، مشيرا إلى أن العيطة ثقافة قبل أن تكون عبارة عن ألحان وكلمات تقاوم النسيان. وأسر بوفلجة في اللقاء ذاته أنه يفكر في منحى آخر، وهو التطرق في ألبوماته المقبلة إلى قضايا البيئة والماء والتلوث والأزمة العالمية، لأنها، حسب بوفلجة، قضايا راهنية، لم تأخذ حصتها بالشكل المطلوب. وأفاد أنه منشغل بهذه القضايا، ويتمنى أن يتوفق في التعبير عنها.