بيوت قروية هزيلة تفصل بينها مساحات مكسوة بالثلوج، وعلى الامتداد، أرض متربة دون عشب، دون أرصفة، تشكل مشهدا حزينا على أطراف قرية "أنمزي" التابعة لقيادة تونفيت لإقليم ميدلت. مشهد من قرية أنزي في تداخل بين منحدرات ومنخفضات تنتهي إلى مرتفع تتوسطه طريق معبدة، تبدو القرية بأبنيتها المشيدة من التراب والخشب، كأنها مهجورة، ومع أطياف المدافئ والأفران التي تعلو فوق البيوت، يتوصل الزائر إلى أن قساوة البرد هي التي أقرت بهذا الوضع، صمت يخيم على القرية، ورياح عاتية وباردة تمنع مغادرة البيوت. فقرية "أنمزي" الواقعة بمرتفع 2276 مترا وتبعد عن قيادة تونفيت بحوالي 56 كيلومترا، يصرف سكانها الوقت عبثا، فلا مرافق ولا مراكز اجتماعية تكسر عنهم الرتابة، ماعدا جني الحطب باكرا، ثم الاحتماء من البرد بقلب البيوت بالالتفاف حول المدافئ البسيطة من "القصدير". على بعد من مرمى النظر، هناك سهول تغطيها رقع موزعة من الثلوج، وينتصب هنا وهناك أكوام من الحجارة الطبيعية، وفي حواف البيوت أعشاب صفراء ذابلة، وعلى مسافة بعض الخطوات من مكان لآخر، غطاء من الثلوج يشتد صلابة مع موجات الرياح الباردة. من جهة، هناك بيوت ترى من فوق الطريق المعبدة والتي لا يتعدى علوها 5 أمتار، تتخللها نوافذ صغيرة تسمح بتسرب إضاءة الشمس، وبالجوار هناك بعض الأبنية الشبيهة بالأكواخ تحتضن رؤوسا معدودة من الأغنام. من داخل المنازل، يدرك الزائر أن سكان "أنمزي" يعتمدون على ضروريات الأشياء، أفرشة تقليدية متواضعة وأوان بسيطة، يستعينون بها في الحاجات اليومية. أسقف من الخشب كمادة أساسية للبناء، وجدران بطلاء أزرق مع خطوط متفرقة على الزوايا، تعكس الثقافة الأمازيغية للقرية، فالبيوت التي دخلتها "المغربية" تبدو خاوية مثل قاعة مستغنى عنها، كل ما يظهر بعض المستلزمات المحدودة. ثمة واقع صعب يتجسد في هذه البيوت التي تقطنها حوالي 200 أسرة لقمة عيشهم اليومي الخبز والزيت والشاي والماء. فراغ مهول بالسير في نقاط مختلفة من قرية "أنمزي"، يشعر الزائر في أعماقه بالتعاطف مع هؤلاء السكان الذين خرج بعضهم لملاحقة "المغربية" وسرد حكايتهم مع قرية أشبه ب"منسية"، تعبر بالقرب منها قوافل مساعدات، دون أن يكون لها حظ منها، حسب ما تحدث به البعض بنبرات يائسة ومستغربة. اجتياز اتجاهات بقلب "أنمزي" وإلقاء نظرات على الفضاء العام يوحي أن "الفراغ" مسيطر على حياة السكان، غير أن تسليمهم لواقع القرية لا يلغي استعدادهم في السعي إلى إثبات وجودهم، على الأقل لو تأتى لنسائهم الاستفادة من "المركز السوسيو تربوي" الذي شيد قبل سبع سنوات ب"أنمزي"، دون أن تستفيد من خدمات النساء في الخياطة والطرز والطبخ. مرت "المغربية" من أمام أناس، نساء ورجال وأطفال، متعبين، ضجرين، مترقبين، لكنهم مبتسمون، فلم يكن الوضع المرير الذي يتكبده السكان بقلب قرية نائية مفتقدة لشروط عيش كريمة، لتمنعهم من مرافقة "المغربية" بصدر رحب ومستجيب لمجموعة استفسارات حول حياتهم. كل شيء اعتيادي بالنسبة لسكان "أنمزي"، قرية تغيب فيها مجاري الصرف الصحي، وعدة بيوت تفتقد إلى دورات المياه، وظلام حالك يخيم على القرية في كل مساء، لغياب الإنارة العمومية، لكن ما لا يريده السكان أن يتحول إلى اعتيادي هو استمرار اللامبالاة التي يلامسونها في غياب المرافق الصحية والاجتماعية والمصالح الإدارية. مشكلة المرافق في مستطاع أي زائر ل"أنمزي" تبين حجم الفقر الذي يتعايش معه السكان بقناعات ذاتية وبتسليم للقضاء والقدر، إنما برجاء إلهي في تغيير الواقع البئيس بالمستقبل، هكذا عبر بعض السكان بلهجة هادئة ومتطلعة، فيما كانوا يجبون مع "المغربية" الأرجاء التي تحتضن المرافق دون أن يكون لهذه الأخيرة أي دور في حياتهم. فلا طبيب بالمركز الصحي، ماعدا ممرضة تقطنه لإسعاف السكان، بتدابير بسيطة مع غياب الأدوية والعلاجات، وجماعة لا يتردد عليها رئيسها، ليضطر سكان "أنمزي" إلى الانتظار ساعات طويلة من أجل وثيقة إدارية دون جدوى، أما القادمون من الدواوير الأخرى مثل "تيمشة" فمشكلتهم مع نيل الوثائق أشقى وأدهى، ففي كل مرة عليهم قطع مسافات طويلة لأربع ساعات ذهابا وإيابا، بمعزل عن نيل الوثيقة المطلوبة. بعض السكان ممن يتكلمون فقط الأمازيغية، عبروا ل"المغربية" بجمل توحي مع إيماءاتهم أنهم مفتقدون لكل شيء، لا يملكون غير المعاناة مع قساوة المناخ، وهم عاجزون عن صد فقرهم لغياب دعم الجهات المعنية، ويأملون أن تكون هناك تدخلات تصرف عنهم العوز والفراغ والعجز، هكذا فهمت "المغربية" وهكذا أكد بعض السكان المتحدثون ب"الدارجة". حطب التدفئة في ذروة معاناة سكان "أنمزي"، غالبا ما كانوا يؤازرون بعضهم البعض في أشد المواقف مرارة، وكثير منهم قست عليه ظروفه الصحية ولم يجد ما يدفع به الضرر والألم، فالمستوصف الصغير لا يفي بالغرض، والجماعة القروية لا تسخر أي سيارة لنقل المرضى على الأقل لتونفيت، والسكان يعتمدون على الدواب في التنقل، وبطء سيرها لا ينفع للاستعجال في مثل هذه الحالات. وتروي نساء "أنمزي" كيف أن الاحتماء بالبرد مقرون بالحطب اليومي للخشب، وهنا تتكبد النساء وعورة الطريق المغطاة بالثلوج، لحمل أثقال من الخشب على نحو ينحنين فيه طول المسار من شدة الثقل، ولا يجدن بدا غير التعود على هذه الوضع، لأنه ضرورة وليس اختيارا، وفق ما تحدثت به النساء في محاولة منهن تصوير المشهد المرهق والمتكرر يوميا. ولم تغفل النساء القول إن غياب دخل يومي، يجبر الأسر في كثير من الأحيان على أكل الخبز والماء، وفي أحسن الأحوال يطبخن البطاطس واللفت، أما إكرام الضيف فيقود الأسر إلى التعاون بينها لتوفير وليمة تعبر عن الجود، رغما عن الفقر. بيوت من حجر في محاولة معرفة طبيعة البيوت التي تنتصب ب"أنمزي" والتي تبدو أنها متواضعة للغاية، يوضح السكان أنها مشيدة من الحجر والتراب بشكل صلب، يحول دون تسرب البرودة نحو الداخل، وهو صيغة من صيغ البناء التي اعتمدها السكان القدامى في مثل هذه المناطق النائية والباردة، فرغم بساطتها إلى أن دورها في تخفيف البرد يبقى مهما. وحسب ما أوضحه السكان ففي فصل الشتاء تساعد الجدران المتينة على امتصاص البرودة، في حين في فصل الصيف تمنع تسرب الحرارة نحو الداخل، وبهذا فهم يبدعون في كل ما يخفف عنهم وقع البرد، وإن كانت تكلفة بناء منزل بمساحة 100 متر قد تصل إلى 50 ألف درهم، دون الاجتهاد في تشييد طوابق أخرى أو تزيين المنزل بالزخارف أو ما شابه، لأن الغرض هو الإيواء بمنأى عن قساوة المناخ. وبقلب كل منزل لا بد من وجود "مدفئة" التي يفضل السكان أن تكون "من "القصدير" بحكم سرعة انتشار الحرارة بأرجاء الغرفة بمجرد إشعال خشب الأرز والكروش الممزوجين معا، على عكس المدفئة الحديدية، وإن كانت مدفئة "القصدير" تساعد على أن تلتهم النار كميات كبيرة من الخشب، غير أن الحاجة الملحة للدفء السريع أكبر من كل الحسابات، وفق ما أكده السكان. غياب المساعدات مهما كانت حكاياتهم مؤلمة، فسكان "أنمزي" يكدحون يوميا لينتزعوا من السنوات الضائعة في الفقر والبرد شيئا مفيدا على الأقل في السنوات المقبلة، لهذا لا يتوانون في تشكيل جمعيات مدنية رغم محدودية إمكانياتها، للتعريف بقريتهم وتسليط الضوء على واقع هش بحاجة إلى الإنقاذ ورد الاعتبار لسكانه. فلا يذكر سكان "أنمزي" أنهم تلقوا مساعدات اجتماعية وصحية، ويحز في أنفسهم أن يراقبوا بعض القوافل تمر بمحاذاتهم دون أن تشمل إعاناتهم بعضا منهم. ويتحدث السكان بأسف عن إهمالهم إلى هذا الحد، ومن بينهم الكثير من الأطفال والشيوخ والمرضى يحملون من المعاناة ما يكفي، حتى تلتفت إليهم الجمعيات المدنية النشيطة في مساعدة القرى النائية. وأشد ما يخشاه السكان في غياب الحرص عليهم من قبل القائمين على الشأن المحلي، أن تقف الطبيعة ضدهم، بعد أن تتهاطل الأمطار ويرتفع صبيب الوديان التي تتقاطع مع الطرق المؤدية "واد أيت لحسين، وواد أيت بوعربي وواد بوتسرفين" إلى "أنمزي" من تونفيت، ليتحولوا إلى قرية "منكوبة ومعزولة"، وجماعة "أنمزي" التي تضم سبعة دواوير منها دوار أنمزي ودوار تمالوت ودوار أيت مرزوك ودوار أنفكو ودوار أغدو ودوار تيرغست ودوار تغدوين، غير مؤهلة لتخليص الناس من أي "نكبة" مفاجئة، إذ بالكاد تتجند الجماعة القروية، لإزالة الثلوج من الطرقات والممرات حين تبلغ حدا غير محتمل. وبحديث السكان عن الجماعة، حاولت "المغربية" اللقاء برئيسها للاستفسار عن أمور الشأن المحلي ب"أنمزي"، لكن ذلك لم يكن ناجحا لغيابه عنها، وهو ما عبر عنه السكان بالقول إن "حضور الرئيس بالجماعة هو مبتغى صعب المنال، ولهذا كثير منهم يصرفون وقتهم أمام الجماعة لكسر الرتابة، وفي الآن نفسه لانتظار الرئيس من أجل وثيقة أو أكثر. إن فكرة تسخير قافلة طبية واجتماعية لفائدة سكان "أنمزي" ستكون بمثابة "حلم طويل" شاء له أن يتحقق، بعد تطلعات كبيرة تداولها السكان بينهم، وهم يلتفون حول "المدفئة" التي يعادل توفير حطبها كسرات الخبز. فالجوع عند هؤلاء أخف وطأة من أن تتجمد أجسادهم بالبرد، مثلما تجمدت أحلامهم الصغيرة في توفر مرافق اجتماعية ورياضية وصحية بقرية "أنمزي" المنسية وراء الجبال.