حكاية مواطنين في منطقة جبلية معزولة ينوبون عن الدولة في حل مشاكلهم تعرج السيارة على مسلك مليء بالمنعرجات كأنها حية بطول خمسة عشر كيلومترا تسعى إلى الدوار بقرية تاعدلونت بجماعة أغبالة.الطريق محفوف بالمخاطر وقد عرف منذ خمس سنوات إصلاحات ترقيعية سرعان ماتبددت بسبب العوامل الطبيعية وغرقت الطريق في الأوحال مما يضطر المسافرين عبرها إلى النزول من عرباتهم لجرها بالحبال .الحياة في قرية في منطقة أغبالة تعني الاعتماد على النفس وعدم انتظار شيء من الدولة.هذه حكاية سكان لاتعترف الدولة بوجودهم. تتعدد الحفر والأحجار الكبيرة بالمسلك الخطير المؤدي لقرية تاعدلونت والذي يعبره ستة عشر وادا،أخطرها واد تاعدلونت،إذ ماتكاد تتخلص من"شعبة"حتى تصطدم بأخرى. تتوقف السيارة في كل مرة تجنبا للانزلاق إلى أسفل المنحدر .هذه الشعاب،يقول مرافقي ،"هي أودية موسمية تمتلئ عند العواصف فينقطع المسلك الطرقي.وقد عرفت الطريق بعض الترقيعات منذ حوالي خمس سنوات سرعان مااختفت مع الأمطار الأولى فاضطر السكان لملئها بالأشواك".وقد تسببت هذه الطريق السنة الماضية في حادثة سير بين شاحنتين تحملان مواطنين من قرية تاعدلونت ودوار إمرابضن التابع لعمالة خنيفرة الذين يتسوقون من سوق أغبالة ،وخلفت قتلى وجرحى. الأضرار التي تخلفها هذه الأودية الصغرى ،تبقى قليلة، بالمقارنة مع الكوارث التي يلحقها واد تاعدلونت بالقرية والسكان والعزلة التي يفرضها عليهم لشهور.بحيث يوجد الواد عند مدخل القرية ويفصل بيوت الدوار عن حقولهم ومزارعم. كان منسوب المياه مرتفعا بالنهر عند وصولناإلى القرية،فكان من الضروري عبور قنطرة جد هشة مشيدة بوسائل بدائية بسيطة لاتصمد في وجه تقلبات الجو. يتحلق لحسن ( 43سنة أب لأربعة أبناء فلاح ) رفقة أقاربه حول المدفئة ويقول:" هذا الواد يحمل شهر أكتوبر ويستمر حتى شهر ماي ،وعندما يفيض لاتمر أي سيارة أولاذابة أو دراجة ،بل حتى السكان والمواطنين يأتون من السوق بأغبالة لتاعدلونت وحينما يصلون للنهر لايجدون أمامهم من وسيلة لإيصال المؤونة للسكان سوى إفراغ هذه المؤونة في أكياس بلاستيكية ورميها للضفة الأخرى من الواد حيث السكان ينتظرون لجمعها، والكثير من هذه البضائع تضيع في الواد ،وهناك من المواطين من يغامرون بأنفسهم ويدخلون للواد رغم ارتفاع منسوب المياه وانحدارها بسرعة، حاملين بضائعهم وهم يمسكون ببعضهم البعض حتى يعبرون إلى الضفة الأخرى.في حين يضطر السكان إلى وضع الخبز في أكياس بلاستيكية ورميه للرعاة الذين يرعون ماشية سكان الدوار بالحقول بالجانب الآخر .لكن عندما يصبح النهر أكثر خطورة لاينزل السكان إلى السوق لمدة شهر. على طول واد تاعدلونت تنتشر العديد من حقول أشجار التفاح والحبوب ،وعندما فاض النهر خلال التساقطات الأخيرة ،جرف كل هذه الحقول والمنتوجات التي كبدت أصحابها الملايين ،وخرج السكان يبكون واضعين أيديهم على خدودهم، وطاف ممثل السلطة يحصي الخسائر، لكن بعدما انتظر الناس طويلا ولم يتم تعويضهم، تكلفوا بإعادة غرسها من جديد على نفقتهم . في كل سنة يفيض النهر يجرف القنطرة ،فيتجند سكان القرية شبابا وشيوخا لإعادة بنائها ، وتعتبر هذه القنطرة الحالية ،حسب أحد سكان القرية ،"القنطرة رقم 65 التي يتم بناؤها، وفي بعض الأحيان يشيد السكان القنطرة مرتين في السنة ؛فالنهر هذا العام، يضيف مصدرنا، وصل لمستويات لم يصلها من قبل وغرق فيه رعاة وأغنامهم". خلال عملية إصلاح القنطرة يطوف" البراح" على سكان الدوار، مبلغا الأهالي بأن القبيلة ستجتمع لإصلاح القنطرة والطريق، وحينما يجتمعون في المكان المتفق عليه ،يدفع كل فرد قدرا من المال حسب استطاعته،فيما يتبرع أبناء البلدة المهاجرين بالديار الأوربية بأكبر قدر من المال ، وبعد جمع المبلغ تبنى القنطرة بالاعتماد على خشب الصفصاف الذي توضع على الضفتين ثم توضع تحته الأحجار كركائز ويغطى بالتراب، وبعد عناء هذه العملية يأتي النهر ويذهب بمجهود السكان سدى .يقول أحد أفراد القرية "بعد كل فيضان نكون مجبرين على إعادة نفس السيناريو ، وقد ضاق السكان درعا من كوارث هذا الواد والدولة لم يسبق لها أن تدخلت للحد من معاناتنا ،فالسكان يقومون بإصلاح القنطرة والنهر في أوج فيضانه فيصابون بالروماتيزم". يتذكر لحسن مآسي الساكنة مع هذا النهر فيقول " لم تكن البلدة تتوفر على مطحنة ، وكان السكان يحملون الحبوب إلى أغبالة على بعد 18كلم لطحنها قبل أن تطحنهم الطريق ،وحينما يحمل النهر ويجرف القنطرة وتغطي الثلوج المسلك لايجد السكان الدقيق لتوفير الخبز،فيلجئون للرحى المائية القديمة ، ولتجاوز هذا المشكل،يضيف لحسن، فقد أنشأ أحد المهاجرين بالدوار منذ حوالي سنتين طاحونة خففت على السكان معاناتهم" .يتدخل الشيخ موحى ليقاطع جاره قائلا "الواد يوجد في مدخل الدوار، وعندما يموت شخص بالقرية يبقى أربعة أيام بدون دفن ، لأن الواد هائج والمقبرة تبعد عنا بحوالي كلم". موحى زوكا الذي يشتغل راعيا و أب لثلاثة أطفال يتذكر هو الآخر محنه مع هذا النهرفيصر على سرد تفاصيلها : "أنا راعي ولي ابن هو الآخر راعي وأعاني أكثر من إبني، ففي كل مرة تتساقط الأمطار، أبحث عنه وأعتقد أن النهر جرفه، وفي رمضان المنصرم، قضيت الليل في الغابة ولم أجد ممرا للوصول للدوار لأن النهر كان هائجا فجرف القنطرة ، وبقيت بدون طعام طول الليل ،ولما فطن سكان الدوار للأمر ،خرجوا يفتشون عني وعن إبني في الليل والأمطار تتساقط بغزارة فعثرروا علينا في الغابة، بعد أن جرف النهر ماشية صديق ابني . وعندما يهدم النهر القنطرة يضطر الناس لقضاء الليل في الغابة تحت الأمطار والثلوج ويضطر السكان بالدوار إلى وضع الخبز داخل أكياس البلاستيك ورميها لنا بالضفة الأخرى وكم مرة سقط الأكل في الماء وضاع". معاناة سكان القرية لاتنتهي وكل واحد منهم يقاطع الآخر ليتدخل من أجل سرد حكايته ،فحياة هؤلاء المواطنين البسطاء يتم التأريخ لها بفيضان النهر. العواصف الثلجية التي تهب على القرية،حسب لحسن، تتسبب في إلحاق خسائر كبيرة بالسواقي التي تمد الحقول بمياه السقي ، وفي كل مرة يتعبأ أهل البلدة لإصلاحها، تاتي العواصف فتجرفها وتضيع فلاحة السكان، فلاتصل المياه للمزارع.يقاطعه والد مرافقي " تضرر السواقي كبد السكان خسائر فادحة، ولحد الساعة لم يسقوا غلاتهم ،وهذه السنة صعبة، والإسمنت غير موجود لإصلاحها ، وتتعاون القبيلة في جمع الأحجار والأشواك لتحويل الماء لحقولهم من منبع الواد وبمجرد هبوب العواصف الثلجية والمطرية تجرف السواقي وتتضرر الفلاحة ". تتساقط الثلوج على القرية فتغطي سطوح المنازل ، حيث يبلغ مستوى ارتفاعها هذه السنة أزيد من متر، ما أدى إلى انقطاع الطريق فكست الثلوج الغابة التي يحصل منها السكان على حطبهم وجمد الكلأ بالمراعي ، والتزم السكان بيوتهم ،وتوقف الأطفال عن الدراسة . تتشكل المدرسة الفرعية الموجودة وسط الدوار ، من قسمين في وضع مزري وسكن للمعلم.يقول أحد السكان"يضطر التلاميذ الذين يدرسون في القسم السادس،خلال يوم الامتحان إلى التنقل لأغبالة ،لكن في فصل الشتاء يصعب اجتياز النهر فمابالك باجتياز الامتحانات إذ يكون منسوب المياه مرتفعا في النهر والطريق مقطوعة بالثلوج والأوحال ". الثلوج التي لازالت تتساقط على القرية تسببت في انهيار خمسة عشر منزلا ،بعض السكان اضطر للانتقال للبيوت الفارغة بالدوار والتي هجرها أصحابها لأغبالة ،والبعض الآخر بعدما لم يجد بيوتا فارغة ظل يقطن بالمنازل المتداعية، فكل منازل البلدة مبنية بالطين وأمام أبوابها يوضع حطب التدفئة الذي تجمعه النساء وينقلنه على ظهورهن قبل موسم الثلج. مياه الأمطار تتسرب في كل سقوف بيوت تاعدلونت ، ولايجد السكان من سبيل سوى الصبر حتى تمرالأيام المطيرة لإصلاح ماأفسد المطر. " نحن ألفنا العيش في هذا الدوار ولانقدر على فراقه،حتى وإن تهدمت كل مساكنه ، لأن هنا ولدنا وكبرنا" ،تقول امرأة مسنة وهي تشعل المدفئة لتبعث الدفئ في أوصال البيت المتجمدة. لاتتوفر القرية على مستوصف صحي، والنساء الحوامل ينجبن في البيت ،وإن كانت حالاتهن حرجة وكان دفع النهر خطيرا والطريق مقطوعة يمتن، وقد ماتت حوالي ثماني نساء .توضح أمينة أم لطفلة قائلة: "أنجبت طفلتي في البيت لأن الطريق كانت مقطوعة وقضيت يومين في حالة خطرة والعديد من النساء توفين أو توفيت أجنتهن ودفنوا وغطوا بالتراب ولم يكترت لهن أحد بسبب عدم توفر المساعدة الطبية ،وحتى الممرضون المتجولون الذين يزورون المناطق النائية لم يسبق أن زاروا تاعدلونت". تغيب الحرارة عن الهواتف المحمولة منذ الدخول لمسلك تاعدلونت وصولا إلى القرية ولكي يلتقط سكان تاعدلونت "الريزو" يوضح لحسن "يتسلقون لجبل إفرغس على بعد خمس كيلومترات من الدوار لإجراء مكالمة هاتفية". الشاحنة التي تنزل يوم السوق الأسبوعي لأغبالة محملة بالبهائم وسكان بعض الدواوير التابعة لعمالة خنيفرة ،تنتظرسكان دوار تاعدلونت بعيدا عن النهر منذ الساعة الثامنة صباحا من كل ثلاثاء ،وحينما تهب العاصفة الثلجية كما حصل يوم ثالث مارس الجاري ، تغرق في الأوحال فيدفعها المواطنون ويجرونها بالحبال حتى تجتاز الأماكن الصعبة بالمسلك الطرقي وفي الكثير من الأحيان تكاد تنقلب في الشعاب . القرية تتوفر على خزان مائي مربوط بأنابيب، ورغم ذلك فهو غير مشغل لحد الساعة،يوضح لحسن، فالسكان يشربون من الحنفية المنتصبة بالدوار التي تجف في فصل الصيف فتبحث النساء عن الماء في المناطق النائية" . تسييج الغابة وإنشاء خمس محميات بالمنطقة ،جعل السكان يعيشون في حصار، بعدما كانوا يرعون فيها ويحطبون ويجلبون الخشب لتحويله لأعمدة تسقف بها بيوتهم الطينية ،ولم تترك لهم المياه والغابات سوى مساحة صغيرة،والأكثر من ذلك يضيف مرافقي،فالدولة والجماعة باعت الغابة لمقاولة الخشابين بأغبالة ،في حين يعتبر السكان أن الغابة رمز للدوار ولأجدادهم الذين أوصوا أبناءهم بشجرة الأرز وعدم التفريط فيها. الكوارث التي يلحقها واد تاعدلونت بالقرية وعزلة السكان وعدم توفرهم على طريق ومستشفى وماء صالح للشرب ومشكل القنطرة والسواقي الفلاحية وغياب شبكة الهاتف النقال ، دفعت بسكان قرية تاعدلونت إلى الخروج سنة 2005، في مسيرة مشيا على الأقدام في اتجاه عمالة بني ملال .لكن السلطات أوقفت المسيرة بعد قطع أربعة كيلومترات ووعدتهم بتحقيق المطالب دون أن تترجم ذلك على أرض الواقع. حينما غادرنا القرية في عاصفة ثلجية على متن سيارة لنقل الركاب ،لم يكن حظنا بأحسن من حظ السكان فقد غرقت عجلات السيارة في الوحل واضطر سائقها للاستعانة بالشاحنة التي كانت تحمل المتسوقين إلى سوق أغبالة و التي كادت أن تنقلب بدورها في إحدى المنحدرات . الكبيرة ثعبان الأحداث المغربية الخميس 5مارس 2009،العدد3671،الصفحة09