بين ثنايا العشق السوريالي لكأس شاي كبير بالنعناع، انبثقت قصص وحكايات وأساطير تناولتها الألسن ووثق البعض منها على شكل روايات شفاهية تفنن المتذوقون لشاي طنجة في سردها، وأبدع الأدباء والسياسيون والرياضيون في استلهام مناقبها، فحولت مجالسهم في مقاهي طنجة أشبه بصالونات الأدب في أعرق المدن العالمية. هي مقاهي طنجة التاريخية، تحت كل كرسي، وأسفل كل طاولة، وداخل كل كأس شاي رواية وحكاية، والراسخون في الحب وحدهم من يستطيعون استراق السمع لحوار الكراسي، لينبهروا بتعدد لغات الجالسين ومشاربهم الثقافية ووحدتهم الفانية في حب الشاي الطنجي، الذي لا يستطيعون الانفصال عنه داخل محلات أقرب منها إلى نواد ثقافية ورياضية كانت تحف بنقاشات المثقفين والأدباء والشعراء والرياضيين، ما حولها إلى سجل تاريخي لوقائع المدينة تحكيها ذكريات عشاق السمر والتسلية والنقاش. * مقهى "با عبد الله" ملهمة أحمد بوكماخ في قلب السوق البراني أو "السوق د برا"، أو ساحة 9 أبريل، كما جرى تسميتها بعد زيارة المغفور له محمد الخامس سنة 1947 لمدينة طنجة، توجد مقهى "با عبد الله" الشعبية، التي افتتحت سنة 1945، تطل على فضاء أشبه بساحة الحمام، ونافورة كبرى تتقاطر عليها طيور الوقواق كل صباح. "سي محمد" نجل صاحب المقهى والقائم على تدبيرها، قال في دردشة مقتضبة مع "الصحراء المغربية" إن جل المقاهي الشعبية بطنجة استقبلت كبار الأدباء والمفكرين والساسة، ولم يكن أصحاب المقاهي وروادها يكترثون لهم من خلال توثيق صورهم أو الدخول معهم في حوارات خاصة، مبررا ذلك لصعوبة التوثيق بالصور، وثانيا لكثرة الوافدين على المقاهي من المؤثرين، لكن السبب الأكثر إقناعا لدى "سي محمد" هو جهل أصحاب المقاهي بالأشخاص الجالسين على كراسي مقاهيهم. يتذكر "سي محمد" شخصية أحمد بوكماخ كواحد من الرواد، الذي استلهم روح كتاباته المتمحورة حول مجال التربية من مقهى "با عبد الله"، وكان يختار مواعيد جلوسه بعناية فائقة، وغالبا ما يجلس وحيدا يقرأ في أحد الكتب ممسكا قلما ومحتسيا كأس شاي أخضر. * مقهى سنطرال .. حينما نام شكري على كراسيه وسط المدينة القديمة، وعلى مقربة من الجامع الكبير، تستوطن حكايات طنجة وأدبائها، ولعل كل قارئ لكتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري، يتوقف على مقهى "سنطرال"، أو مقهى "فوينطيس" بالسوق الداخل، هنا تستنشق رائحة مقهى مهد الفن التشكيلي الإسباني. في هذا المكان لا تزال أصداء صخب الستينيات من القرن المنصرم، التي ذكرها شكري في كتاباته تسمع بين الفينة والأخرى، بيد أن الكراسي تغيرت أشكالها وصارت أكثر عصرية من ذي قبل، وتحولت من "سرير" شكري، الذي ينام عليه في الخمسينيات من القرن الفارط، إلى مقهى سياحي ينتعش بتاريخ مجده الماضي. يذكر الرواد القدامى للمقهى قصصا مختلفة ومتنوعة عن شكري، لكنهم يجمعون على شيء واحد هو أن شكري كان يفضل مقهى "سنطرال" ومقهى "الرقاصة" دون غيرها من المقاهي لقربها من السياح الوافدين على طنجة، الذين كان يشاركهم بيع الساعات السويسرية والكؤوس، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه الفضاءات بعد أن تعرف على "بول بولز". * مقهى حنفطة .. أول معهد موسيقي لطرب الآلة اختارت "الصحراء المغربية" زيارة هذا الفضاء المفتوح على جزء من تاريخ طنجة مساء الجمعة الأخير، لأن هذا اليوم، بحسب المولعين بالموسيقى الأندلسية، هو يوم "العشية الكبرى"، فبعد صلاة الجمعة انطلقت العملية الأولى في دوزنة الآلات الموسيقية وإطلاق بعض التقاسيم الأندلسية أو ما يصطلح عليه "البغية"، وهي ابتغاء النوبة الموسيقية التي سيستقر عليها طبع المستمعين وتهيج أحاسيسهم بالإجماع قبل الانطلاق في الإنشاد. غالبا ما يستفيد الموسيقيون من كؤوس الشاي مجانا تلك العشية، لأن هذه المبادرة تحافظ على ضمان وفود الموسيقيين مساء كل جمعة، في مقهى يقع بين باب مرشان إلى مدخل قبور الرمان، وفي الطريق إلى القصبة التاريخية، الكل يستمع مساء كل جمعة لموسيقى الآلة بأصوات المادحين والفنانين والراغبين في "الولاعة". غير بعيد عن الجوق، يختار البعض أصوات زقزقة العصافير العالية فوق أشجار مرشان، التي يتجاوز عمرها القرن والنصف، محستين كؤوس الشاي الأخضر في لوحة ترسم معالمها البساطة والتواضع، لكن أغلب الوافدين خلال باقي أيام الأسبوع يخترون المقهى لممارسة إحدى العادات الرياضية الشعبية المعروفة عند أهل الشمال، وهي لعبة "النرد" أو "البارتشي" المقبلة بدورها من ثقافة أهل الأندلس قبل أن تستقر في مدن الشمال والجنوب المغربي. لمسة المقهى تكمن في "اتاي زيزوة" وفي ما تقدمه كل يوم من هواء نقي وأجواء عائلية تعززها شذرات الموسيقى الأندلسية المقدمة كل يوم جمعة، لتخلد صداها في بيت مولاي أحمد لوكيلي القريب من هذا المقهى، إلى جانب المبدع والمفكر عبد الله كنون. * مقهى الحافة .. ملهمة كبار الشعراء ونجوم الغناء العالميين إذا كان الكلام هو سيّد الموقف على كراسي المقهى وطاولاتها، فإن هناك أيضا أحداثا كثيرة تفرض وجودها على الجالسين، بعضها يثير الضحك والآخر يبعث على الاستغراب وثالث يحرك مشاعر الحزن والآسى. فكل المتناقضات حاضرة في مقهى الحافة. يحمل كل زائر لطنجة سؤالا عن مكان وجود مقهى "الحافة"، سواء كان رساما أو شاعرا أو روائيا، ذلك أن عددا من الروائيين العالميين ذكروا مقهى الحافة في أعمالهم، كيف لا وهي البوابة الضيقة والعتيقة، التي كان ونستون تشرشل دخلها ذات يوم ليطل على مضيق جبل طارق وهو يرتشف فنجان شاي ساخن. على باب المقهى دُون تاريخ تشييدها سنة 1921، ببناء بسيط ومشيد على هضبة مطلّة على مضيق جبل طارق، كراسيه وطاولاته وكؤوسه بسيطة جدا لا تحمل توقيعات ماركات عالمية، مقهى تغلفه البساطة من كل جانب، وحين تجلس فيه يأخذك هدوء البحر وسحره، ونسيم الأشجار وعليلها، التي تنمو بشكل عشوائي بعيدا عن كل اهتمام إنساني بها. في الحافة، كان محمد شكري يجالس الطاهر بنجلون، وكان الفضاء المناسب للكاتب الأميركي الشهير بوول بولز، الذي اختار الإقامة في طنجة منذ سنة 1935، وكذلك المؤلف الأميركي المعروف تينسي ويليامز، وجان جينيه. ومن المشاهير، الذين احتسوا كؤوس الشاي في مقهى الحافة نذكر أيضا، أعضاء فرقة البيتلز البريطانية، التي طبقت شهرتها الآفاق، ومغني الروك الأميركي الأسطورة جيمي هاندريكس، وأعضاء فرقة الرولينغ ستون الذائعة الصيت، والمخرج المسرحي العالمي صامويل بكيت، كما يذكر تاريخ هذا المقهى أسماء أخرى منها الموسيقار الأميركي ويليام بوروغ وابنة الروائي الشهير إرنست هيمنغواي، والشاعر الإسباني القتيل فريديريكو غارسيا لوركا، والروائي الإيطالي الشهير ألبيرتو مورافيا، والكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيسلو، كما زاره لمرات عديدة الكاتب الشهير جاك كرواك، الذي قيل إنه كتب صفحات كثيرة من روائعه الأدبية على طاولته الأثيرة في هذا المقهى. كما أن مقهى الحافة شهد لقاءات جمعت بين أعضاء الحركة الوطنية وعلى رأسهم السياسي المغربي علال الفاسي.